}
عروض

"إيروتيكيا التماثيل والصور": رواية العودة من المنفى

صلاح حسن

22 فبراير 2018

"إيروتيكيا التماثيل والصور" هي الرواية الخامسة للشاعر والروائي العراقي نعيم عبد مهلهل المقيم في ألمانيا الصادرة حديثًا عن دار نينوى للطباعة والنشر في دمشق. وهي لا تشذ عن باقي رواياته من حيث تناولها للمكان بوصفه بؤرة تنطلق منها الأحداث دائمًا.

كل رواية من هذه الروايات تشتغل بمسار تكون فيه اللقيا واحدة، حيث العودة إلى المكان الأبدي الذي جعل نعيم عبد مهلهل يعلن إيمانه الدائم بمقولة بورخيس "نحن نكتب نصاً واحداً في حياتنا، وكل النصوص الأخرى التي نكتبها تدور حول هذا النص".

لذا يلاحظ قارئ روايات مهلهل أن ثيمة المكان (أور السومرية، قرى الأهوار) هي من تشكل ذائقة الحس في سرديته وتناوله، حتى عندما تتغير الأمكنة عنده  بين طنجة ومدريد وقضاء الجبايش وباريس وأوسلو أو سجن بادوش في نينوى الذي كان تنظيم داعش يحتجز مساجينه فيه.

غير أن رواية "إيروتيكيا التماثيل والصور" يتعدد فيها اغتراب عاطفة الكاتب التي لازمته في معظم أعماله الشعرية والروائية، إذ إنه هنا يشعل في فصول كتابه فضاءات البوح بشكله الإيروتيكي المثير، ويصاحب كل هذا بأخيلة الفانتازيا السينمائية أيام كان صبياً لأب معدم وفقير يبيع القمح على أحد أرصفة مدينته الناصرية التي لا تبعد عن زقورة أور سوى 10 أميال، حين يذهب إلى جيب معطف أبيه ليسرق أربعين فلساً ثمن بطاقة السينما لأجل أن يمتع أجفانه بالضوء القادم من وجه الممثلة الفرنسية كاترين دينوف وهي تفتح أول زر من أزرار قميصها الأبيض في واحد من أفلامها التي كانت تصدرها فرنسا لفقراء سومر كي تمهد لهم طرقات المنافي.

"كنت وقتها أعلق في ملجئي صوراً لممثلات السينما كتعويذة أطْردُ فيها دقة الإصابة التي يحسنها القناص ورامي قاذفة (الآر بي جي 7)،  ومن بين هذه الصور صورة للساحرة كاترين دينوف، وذات يوم دخل إلى ملجئي آمرُ السرية فانتبه إلى الصور، وربّما وحدها كاترين بنظرتها المتوحشة الفاتنة من جعلت الضابط لا يفكر بإنزال العقوبة عليّ،  كوننا في حرب وليس في قاعة سينما" (الرواية، ص 15). منذ أن ترك أبوه مهنته وذهب ليشتغل حارس آثار في أور يستعيد الطفل تلك الطاقة الإيحائية التي ورثها من أمكنة آلهته القديمة في أور ويمازجها بالكبت والرغبة الحسية والجنسية التي تتملكه لينال من كاترين وساغان شيئاً يستطيع أن يثبت فيه أنه يستطيع أن يتحمل مفارقة المكان السومري يوم يختار باريس مهجراً ومنفىً لأكثر من ثلاثين عاماً.

فرانسواز ساغان هي الحيز الأكبر في فصل الرواية الأول، وهي من تثير في بطل الرواية استعادة طقوس تلك الإيروتيكيا التي ظلت تلازم مخيلته كلما شعر أن حشد الجنود يتركون الخنادق الشقية إلى أقرب مدن فيها سينمات ليحتفوا بفاتنات ممثلات السينما.

كان حواره مع ساغان في لحظة ميتافيزيقية حين يوقظها من القبر ويعيش معها مشاركة اللحظات المثيرة لكل أزمنته التي مر بها وهو يزور قبرها فقط ليخبرها أنه يريد أن يعود إلى بلاده بعدما كتبت "اللوموند" مانشيتاً عريضاً بأن جنود المارينز يتجولون دون خوف في شوارع بغداد وتحت سيوف قوس النصر.

ساغان  في علاقتها الحسية مع بطل الرواية إنما هي تأكيد على تلك المؤثرات التي تصيب الروح الشرقية جراء العطر والدهشة والجديد الذي تصدره لنا الروح الغربية، وربما فرانسواز ساغان واحدة من بضاعة ذلك الغرب.

"إنها روايتك تتخيّلها أنت وتتخيّلها فرانسوا ساغان بذات العاطفة، والفرق هنا أنك تعيشها وأنت على قيد الحياة بينما ساغان ماتت، وعليك الآن أن تستعيد وجع موتها في تلك الرسالة الأنترنيتية التي كتبتها إليها قبل سنوات،  وأنت تشعر أن الفتنة قتلت بسيف الساموراي وبطعنة في الخاصرة. سأعيش لحظة الكتابة إليها،  ذلك النص المدهون بدمعتي وشهوتي التي استعدت فيها صباي،  وأنا أغامر في قراءة روايتها (صباح الخير أيّها الحزن) لحظة أن تكون كلّ هذه النزهات مع الصور والتماثيل إنما هي استعادة لهواجس ذكورتنا الطفولية يوم أيقظت فينا السينما سبات الشهوة" (الرواية، ص 21).

 

فصول العودة

من المنفى

الفصول الأخرى هي فصول العودة من المنفى، عندما يعود بطل الرواية إلى دائرته موظفاً في متحف المدينة الذي أهداه الثري الأرمني كولبنكيان إلى مدينة الناصرية وكان يملك خمسة بالمئة من نفط العراق قبل التأميم. وهناك تتغير الأحداث ويبدأ عهد العودة إلى أمكنة الطفولة التي تلونها ذكريات الأثر والحجر، حيث تكلفه إدارة المتحف ليرافق البعثة الأثرية الإيطالية التي يقودها العالم الآثاري الإيطالي فرانكو دي أوغستينو في موقع أثري قريب من أور يسمى أبو طبيرة.

هذا الفصل هو روح الرواية والرابط الحسي والأسطوري والزمني بين هجرة بطل الإيروتيكيا وبين علاقته الجميلة مع أعضاء البعثة، ومعهم يستعيد ويكتشف ويصل إلى القناعات الجديدة بأنه قد ينافي تماماً مقولة ناظم حكمت والقائلة: المنفى يا حبيبتي مهنة شاقة.

يظهر لنا نعيم عبد مهلهل في روايته "إيروتيكيا التماثيل والصور" قدرة لغوية هائلة في تصوير المشهد المشحون بالعاطفة اللذيذة. وربما بسبب مقدرته الشعرية يحاول أن يقرب لنا السرد إلى ما يشبه لقطة السينما حتى عندما يتعلق الأمر بالنظرات الحسية المتبادلة بين واحدة من عضوات البعثة الأثرية والهيكل العظمي الذي وجدوه في واحد من القبور في المكان الأثري.

يجنح مهلهل كعادته إلى مزاوجة الواقع بالخيال بطريقة لا يشبهه فيها أياً من رواد تجربته الروائية وجيله، وهو يقدم لنا سرداً شجاعاً ومثيراً ونخبوياً على مستوى اختراق التابو الذي قد لا يستطيع الاقتراب منه الكثير من روائيي الداخل العراقي، وهو بذلك لا يكتب لنا رواية حميمة معلنة بل يحاول أن يضع فينا الإشراق الصوفي كجزء من اللذة الروحية في حاجتها إلى حضن ودفء ووطن.

الرواية في نهايتها تضعنا أمام الملامح المعبرة للذات التي تعيش النفي وتعود ثانية إلى الوطن مع معطف وغليون وعبارات مفرنسة قد لا تعجب الكثيرين من الذين فارقتهم طوال تلك السنين.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.