}
عروض

تجليات السياسة الجديدة بالشرق الأوسط: حالة ألبانيا وفلسطين وإسرائيل

قبل أسبوعين صدر في العاصمة الألبانية تيرانا كتاب يتضمن ذكريات السفير الألباني الأسبق في دول الشرق الأوسط فاروق بوروفا بعنوان "جولات سفير في الشرق الأوسط- ذكريات دبلوماسية وأحداث تاريخية" (دار "ميلنيومي إي ري"، 2018). ويمثل هذه الكتاب قيمة خاصة لأنه يكشف عن الثقافة السياسية السائدة في ألبانيا وتجلياتها في الشرق الأوسط بين عهدين مختلفين: العهد الشيوعي والعهد الديمقراطي الجديد والخط الفاصل أو الانتقالي بينهما، 1991. فقد كان للحكم الشيوعي السابق نظرته ومقاربته للأوضاع في الشرق الأوسط، بينما اختلفت كثيرا هذه النظرة والمقاربة منذ 1991 وانعكست على علاقات ألبانيا الجديدة مع دول الشرق الأوسط. وفي هذا السياق حُمّل السفير بوروفا في نهاية 1993 مسؤولية كبيرة آنذاك؛ أن يتخذ من القاهرة مقرا له وأن يقدم أوراق اعتماده لأول مرة إلى فلسطين وإسرائيل.

من هنا يقدّم كتاب السفير بوروفا شهادة تاريخية حول تلك التحولات المتسارعة في الثقافة السياسية الجديدة في ألبانيا والظروف التي أدّت إلى ضمور ملحوظ في العلاقات مع الجانب الفلسطيني وتطور سريع في العلاقات مع الجانب الإسرائيلي. وربما يأتي صدور هذا الكتاب عشية زيارة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى ألبانيا، التي هي أول زيارة لأعلى مسؤول إسرائيلي إلى أول دولة أوروبية بغالبية مسلمة، ليساعد في توضيح خلفية هذه التغيرات المتسارعة في علاقات ألبانيا مع دول الشرق الأوسط.

"شهر العسل" الألباني -  الفلسطيني

في كتابه المذكور يكشف السفير بوروفا عن "شهر العسل" الألباني- الفلسطيني الذي استمر في الواقع حوالي ربع قرن. صحيح أن ألبانيا اعترفت بإسرائيل في 1949 كغيرها من الدول الشيوعية ولكن لم تقم علاقات دبلوماسية آنذاك. ونظرا لانحياز ألبانيا إلى الصين الماوية في النزاع الإيديولوجي الشهير بين موسكو وبكين في 1960 فقد اتخذت تيرانا موقفا مؤيدا للفلسطينيين و"حرب التحرير الشعبية" التي أشعلتها حركة فتح في 1965، واتضح هذا الموقف أكثر بعد 1967. وكما يذكر السفير بوروفا فقد أخذت الوفود الفلسطينية تتدفق على تيرانا، التي كانت عسكرية في غالبها، واستقبلت تيرانا الشباب الفلسطيني لتدريبهم على الأعمال القتالية في معسكرات الجيش الألباني، كما تم قبول العديد من الشباب للدراسة المجانية في الجامعات الألبانية. وفي هذا السياق اعترفت ألبانيا رسميا في 10/11/1988 بدولة فلسطين التي أُعلنت في الجزائر، وافتتحت سفارة فلسطينية في تيرانا. وفي غضون ذلك ترجم منير شفيق كتاب الرجل الثاني في النظام الألباني محمد شيخو "تجربة الحرب الشعبية في ألبانيا"، الذي أصبح مرجعا للمقاتلين الفلسطينيين.

ومن ناحية أخرى كان التشدّد سمة الموقف في السياسة الخارجية الألبانية، وخصوصا بعد أن ابتعدت تيرانا إيديولوجيا عن موسكو أولا ثم عن بكين. وكما يقول السفير بوروفا فقد اعتبرت تيرانا إسرائيل من الدول الست المعادية التي لا يجوز إقامة أية علاقة معها سواء دبلوماسية أو تجارية أو ثقافية باعتبارها "أداة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط"، ولذلك كان من غير المسموح للدبلوماسيين الألبانيين في الخارج الحديث مع الدبلوماسيين الإسرائيليين في أية مناسبة ولا حتى مصافحتهم.

الانتقال السياسي الجديد وتجلياته

هذه العلاقة الخاصة بين ألبانيا والفلسطينيين استمرت حتى 1990، وبالتحديد حتى "الربيع الأوروبي" الذي أعقب فتح جدار برلين في 9 تشرين الثاني/ نوفمبر 1989 والتحول السريع من الأنظمة الشيوعية إلى الأنظمة الديمقراطية. ونظرا لأن النظام الشيوعي في ألبانيا كان يمثل "القلعة الستالينية الأخيرة في أوروبا" فقد كانت ردة الفعل الجماهيرية عنيفة أكثر ضد كل ما يتعلق بسياسة النظام في الدخل والخارج.

ونظرا لدور الولايات المتحدة في دعم هذا التحول التاريخي في ألبانيا، كما يقول السفير بوروفا في كتابه، فقد كان لا بد من إحداث توازن وإقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل باعتبارها حليفة للولايات المتحدة. وهكذا فقد جمعت مناسبة ممثلي الدولتين في العاصمة الأردنية عمان في 21 تموز/ يوليو 1991 حيث اتفقا على إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين، وهو ما تمّ التوقيع عليه في 19 آب/ أغسطس 1991 خلال زيارة وزير الخارجية الألبانية الجديد محمد قبلان إلى إسرائيل، في أول زيارة رسمية لهذه الدولة منذ الاعتراف بها في 1949.

مع هذه التطورات كانت قد جرت مستجدات في الشرق الأوسط كمؤتمر مدريد للسلام في 1991 ثم اتفاقية أوسلو في 1993، التي أرست السلطة الوطنية الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية. وفي هذا الوقت بالذات (تشرين الأول/ أكتوبر 1993) قرّرت تيرانا اختيار فاروق بوروفا سفيرا مقيما في القاهرة، التي بقيت عدة سنوات دون سفير بسبب الأوضاع المستجدة في ألبانيا، ومكلفا بتقديم أوراق اعتماده لأول مرة إلى الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وإلى الرئيس الإسرائيلي عيزر وايزمان كسفير غير مقيم لألبانيا في فلسطين وإسرائيل.

في كتابه هذا يكشف السفير بوروفا تفاصيل موحية عن لقاءاته مع الرؤساء الثلاثة حسني مبارك وياسر عرفات وعيزر وايزمان. وفي حين أن ما ورد عن الرئيس مبارك يحتاج إلى مقالة أخرى، نتوقف هنا عند لقائه مع الرئيسين عرفات ووايزمان. ولاعتبارات تتعلق بالبروتوكول فقد جاءه أولا تحديد موعد تقديم أوراق اعتماده لوايزمان في 24 آذار/ مارس 1994. ويعترف السفير بوروفا بالتهيّب قبل اللقاء لكونه أول سفير لألبانيا في إسرائيل، لكن وايزمان كسر هذا التهيّب عندما بدأ الحديث عن امتداح ألبانيا التي آوت اليهود الهاربين من الملاحقة النازية خلال الحرب العالمية الثانية.

وفي حين أن اللقاء الأول مع الرئيس وايزمان كان بطابع بروتوكولي إلا أن اللقاء الثاني مع الرئيس ياسر عرفات، الذي تحدّد في 12 نيسان/ أبريل 1995 لتقديم أوراق الاعتماد، كان حميميا أكثر. ولا يخفي السفير بوروفا تحمسّه للقاء بقوله "كان اللقاء مع عرفات مهمّا بسبب شعبيته القومية والدولية، وكان من المهم بالنسبة إليّ المتابعة من قرب لردود فعله السياسية بعد إسقاط نظام (أنور) خوجا وإقامة الديمقراطية في ألبانيا" (ص 93).

جرى اللقاء بين عرفات والسفير بوروفا في جو حميم بعد تهيّب السفير من هذا اللقاء الذي جرى بعد أن اختلفت العلاقات مع الطرفين لصالح الطرف الثالث (الإسرائيلي). وعلى عكس الشمبانيا عند وايزمان لم يكن لدى عرفات سوى الشاي و"الحديث الدافئ الذي اعتمد على العلاقات السابقة التي تمنى أن تتوطد من جديد"، وختم حديثه بالقول "أنت ستكون رمز توطيد العلاقات بيننا مع أنك ستمثل بلادك في دولتين، فلسطين وإسرائيل، بينهما الكثير من المشكلات". لكن عرفات لم يكتف بالشاي وتقديم التهنئة للسفير بوروفا على مهمته الجديدة بل أصرّ على مرافقته إلى الباب الخارجي، وهو تكريم لم يحظ به السفير من قبل، ودعوته له بعد الظهر إلى مقرّه الخاص لشرب "فنجان قهوة بعد أن شربنا الشاي".

في مساء ذلك اليوم ذهب السفير لشرب "القهوة الموعودة"، وهناك شعر بأن الرئيس عرفات يرغب في الحديث معه "خارج البروتوكول"، حيث فاض في الحديث عن مشاكل شعبه الفلسطيني في سبيل دولته على أرضه التاريخية، وعبّر عن أمله في دور أكبر للمجتمع الدولي مع "أن هذا للأسف سيأخذ وقتا طويلا" (ص 115-116).

صحيح أن عرفات زار تيرانا في خريف تلك السنة وبعد سنتين عاد وريث الحزب الشيوعي الألباني (الحزب الاشتراكي) إلى الحكم مع انتخابات 1997 إلا أن الثقافة السياسية الجديدة التي ترسّخت في مرحلة "الانتقال من الديكتاتورية إلى الديمقراطية" كرّست لعلاقة متنامية مع إسرائيل ضمن الأولوية التي تعطيها ألبانيا للعلاقة مع الولايات المتحدة وحلف الأطلسي (التي أصبحت عضوة فيه) والاتحاد الأوروبي، وهو ما انعكس على السفارة الفلسطينية في تيرانا التي أصبحت ممثلة بقائم بأعمال السفير وتوتّر في العلاقات الألبانية – الفلسطينية مردّه إلى تصويت فلسطين ضد انضمام كوسوفو إلى اليونسكو في 2015 وتصريحات السفير الفلسطيني في بلغراد محمد نبهان التي يصبّ فيها الزيت على النار من حين إلى آخر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.