}
عروض

قبلة للحياة والحرب في زحام المترو

عبدالزهرة زكي

22 نوفمبر 2018

 

كان وسام هاشم سبعينياً متأخراً، بمعنى ظهوره آخر ذلك العقد الاستثنائي بتاريخ الشعر العراقي، وكان ثمانينياً مبكراً، بالإحالة إلى عقد آخر (الثمانينيات)، وهو عقد استثنائي أيضاً في تاريخ قصيدة النثر العراقية، لكن وسام هاشم ظل شاعراً تسعينياً وألفينياً وأتوقع أنه سيكون منتجاً حيوياً ومشاركاً لأجيال ستأتي.

هل يمكن لمناسبة ظهور كتاب شعري جديد أن يكون دافعا للكلام عن الشاعر نفسه؟

نعم، هذا سيكون ممكناً، بخلاف ما يواجهنا من رأي نقدي صارم، كرّسته البنيوية وبعض المناهج النقدية الأخرى القريبة منها والمتفرعة عنها، وهو رأي ومنهج يزيحان المؤلف جانباً ويرهنان الجهد النقدي لمواجهة النص، النص بلا مرجعيات أخرى، ومنها صلته بمؤلفه، وهو تصور واجراء قد يكونان مفيدَين في جانب لكن كيف لهما أن يعملا حين يكون الشعر والشاعر ظلّين لبعضهما، إنهما ظلان متبادلان ومتماسكان بحيث لا تقوى على التمييز من منهما الأصل ومن هو الآخر الظل. حياة وسام وشخصيته لا تنفصلان عن شعره، فيما هذا الشعرُ ليس صورةً بل هو أصل للشاعر..

يمكن لمناسبة صدور ديوان جديد أن تكون مناسبة للكلام عن الشاعر صاحب الديوان، خصوصاً حين يكون الشاعر مثل وسام هاشم، وهو الشاعر الذي رهن شعره ليكون صورة لحياته ويومياته، بغضبها ومسراتها وانكساراتها وعبثها وجدّها، وحين يكون الديوان هو (قبلة في زحام المترو)، الصادر مؤخراً عن دار الدراويش، والذي يأتي متواصلاً ومرسّخاً هذا المسار الذي دأب عليه وسام، مسار الشعر كصورة حيّة لشاعره.

تنبغي الإشارة هنا إلى عنوان شارحٍ لافت على غلاف الديوان، وهو (نصوص الحياة). وأحسب أنه عنوان يعبر عن هوية موضوعات ليس نصوص هذا الكتاب وحده وإنما أيضاً جميع ما أتيحت لي قراءتُه من نصوص وسام هاشم، المنشور منها بدواوينه المطبوعة وغير المنشور. إنها نصوص حميمة الصلة بتفاصيل حياة الشاعر، وذلك ما تكرس مبكّراً منذ ديوانه الأول (سهول في قفص)، وهو ديوان بدا لحظة صدوره (ببغداد 1994) متميّزاً باهتمامه الواضح بتفاصيل الحياة في ظل الحرب، والحرية التي متّع الشاعر بها نفسه في مثل ذلك الظرف الخانق، حتى بدت الحياة كما لو أنها سهولاً وقد قُيِّض لها أن تكون في قفص.

يستهل الناقد العراقي طراد الكبيسي المقدمة المهمة والممتعة التي وضعها لتتصدر (سهول في قفص) بتساؤل معبّرٍ عن (تفهمه) هذه الطبيعة للصلة ما بين حياة وسام هاشم وبين شعره، فيقول:" كيف تكون القصيدة تاريخَ الشاعر الشخصي، ويكون الشاعر، على نحو ما، تاريخياً؟".

بهذا التساؤل كان الناقد يخفي الحياة، الحياة الشخصية، في (تاريخ)، فيما ينفتح شعر وسام على قاموس مكتظ بما يجعل الحياةَ تراوح ما بين (القيد) و(الحرية)، كناية عن التعبير عن حياة ظلت متوترة ما بين الحدين؛ حدّ (الخدمة العسكرية) من جانب، وحد (أغلفة الجوازات) من جانب ثان:

" ونسأل عن فتيةٍ في ظهيرةِ الإجابة،

عن لهجةِ الحارس في شرقِ الخدمة العسكرية

تماماً في عنق العمر

وأبي يرمّم أغلفةَ الجوازاتِ بصمغِ اللافتات".

إنهما حدّان كانا يشكلان اهتماماً شعرياً، وهاجساً حياتياً، لوسام، شاعراً شاباً. بينما الديوان الجديد للشاعر، بعد عقود، يقدم مقاربات أخرى هي نتاج حياة أخرى يمضي فيها الشاعر، بمغتربه الدنماركي، بعيداً عن المكان الأول (بغداد)، إذ يظل الشعر صورة حية لحياة الشاعر بينما حياة الشاعر تصرّ على أن تكون مثالاً للشعر كما يفكر فيه الشاعر ويحبّه ويسعى إليه. من بين هذه المقاربات يحتفظ الشاعر بالحرب كذكرى شديدة الوطأة وهي تحضر في ديوان هو عن (قبلة في زحام المترو)، إنها الحرب ولكن مكان بعيد، مكان الاغتراب:

   * تخرج من آهاتي فقاعاتٌ بداخلها حروب، وفوق أصابعي تنبت نيّات.

   * تسقط القنابل وتنفجر المفخخات في شاشة تلفازي وليس فوق بيتي.

   * أهذي عن الحربِ كلما ارتفعت درجة حرارتي، وعن الحب كلما نزل الثلج فوق الحقل.

في هذه  الحياة التي انتجت (قبلة في زحام الموتى) يظهر الحب كمعادل للحرية التي كانت طرف الثنائية الآخر المقابل للحرب في الحياة الماضية، حياة المكان الأول، التي ولد فيها ديوان (سهول في قفص).

وما بين الثنائيتين تمضي الحياة ويمضي معها الشعر محمّلا بأثر من ذكرى وبتلويحة مما يعد به المكان. هذا ما تفعله لغة الشعر بتماسها الخصب مع الوقائع وسيرها في الحياة اليومية.

يبدو الشعر، في جانب منه، شكلاً من أشكال السلوى، لكنه حتى بمحاولته استدراج الذكرى وآلامها وحبورها فإنه يفصح عن سعي، من حيث يريد الشاعر أو لا يريد، من أجل النسيان. يكتب المرء ليتحرر.

اللغة نفسها كوسيلة للتحرير في هذا الشاغل الإنساني تستحيل إلى موضوع للتحرير أكثر مما هي وسيلة. هذه من مسؤوليات الشعر التي يبرّر بها طبيعته ككلام استثنائي.

وفي (نصوص الحياة)، أستعين هذه المرة بالعنوان الفرعي الشارح بإشارتي للديوان الجديد، نواجه تجربة أخرى من تجارب الحياة بتفاصيلها ويومياتها كموضوع للشعر، وسيكون من المتوقَّع أن يحضر القاموس اليومي بوقع أشدّ، وسيكون هذا من دواعي تنازل الشعر عن جانب من طبيعته، كلغة خاصة في اللغة، ولعل هذه من مشكلات هكذا شعر حين لا يمرّ بمرجل موهبة تأتي إلى الحياة بروح شعر، من دون أن تراكم أضغاث الحياة على تلك الروح. هذه مهمة يقدم عليها الشاعر كما لو أنه" حطاب وحيد بلا شجرة، وفأسه حزنه، ويداه من هواء" بتعبير وسام هاشم.

شعر وسام هاشم في (قبلة في زحام الموتى)، وهو مخلص لطبيعة لغته ومنسجم مع تدفقها بما هو يومي، يواجه ضيقَ المكان بالانفتاح على خزائن الماضي وذكرياته؛ الزمن والتحرك فيه وسيلة للتحرّر من حدود المكان وقيوده.

القصيدة هي مناسبة لحضور المكانين معاً، هذه هي بعض لواعج الشاعر المنفي أو المغترب، وهي بعض من مشكلاته أيضاً. وفي ضوء طبائع العراقيين فإن المشكلة تكون مضاعفة، النصوص أمينة في تعبيرها عن هذا التمزق الذي لا تكاد أيّ من قصائد وسام هاشم تتنازل عن التعبير عنه:

"وأنت تعود إلى البلاد كن مهذباً ورقيقاً مع جروح أبنائها.

لا تتعالَ لأن لك لحيةً أشدّ أوربيةً أو قبعة باريسية ولكنتك (هذبتها المدن والناس الذين كنتَ وما زلت غريبا عنهم).

وحين تعود تذكّر أنها بلادُهم مثلما هي بلادك، غير أنهم تحت سمائها أكثر منكَ، حتى لو كانت سماؤها لا تمطر سوى ألم وقنابل وشمس لا تستحي".

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.