}
عروض

رسائل فريدا كالو: جَبْر العالم بكسور الداخل

مناهل السهوي

19 نوفمبر 2018

 

"الرسم أكمل حياتي. فقدت ثلاث أطفال وباقة من الأشياء الأخرى، التي كانت لتزين حياتي المريعة. شغلت لوحاتي مكان كل هذه الأشياء". بهذه العبارة تختصر المكسيكية فريدا كالو رحلة طويلة من الخيبات والمعاناة مع جسدها الضعيف. في رسائلها الصادرة عن دار نينوى/ دمشق التي جمعتها مارثا زامورا وترجمتها سيزار كبيبو، تعود كالو بصورة أخرى لذاتها المعكوسة على مرآة في السقف، إنها المرأة ذاتها بفستانها المزركش وحاجبيها المتصلين ومشيتها العرجاء حين واجهت الحياة وعشرات الكسور في جسدها بالرسم لتفسرها على نحو من المعاناة والمقاومة والرغبة في العيش، لتشكل الرسائل عرضاً شفافاً وشاملاً لشخصيتها الاستثنائية.

 الرسائل التي كتبتها كالو إلى أصدقائها، عشاقها وطبيبها، تقترب فيها من الحالة التي في لوحاتها، إذ تخلط ألمها وحياتها وبحثها عن الشفاء الروحي والجسدي والذي لم تجده في كثير من الأحيان، وهو ما دفعها أكثر للرسم كحلّ للتراضي مع الألم وللهرب من الانتكاسات الوجدانية والجسدية التي عانتها طوال حياتها، فهي تعيد في رسائلها الحديث عن إصبع قدمها الذي لم يشفَ بصورة كاملة مما سبب لها الألم دوماً، "تدهورت حال إصبع قدمي بطبيعة الحال، فقد مرت سنتان منذ آخر مرة فحصته فيها. لا تقلقني هذه المسألة كثيراً، لأنني مدركة بشكل كامل استحالة وجود حل لها. حتى البكاء لن يجدي نفعاً"، انتقال فريدا إلى أصغر أعضاء جسدها والتشديد على ألمه إنما هو تأكيد على ألم أكبر تكابده داخل الحدود الضيقة لجسدها بالإضافة إلى أنها لم تبحث عن المجد كتعويض عن هذه الحياة المربكة، مؤكدة في العديد من رسائلها أن الرسم لم يكن بدافع الشهرة إنما كحالة وجدانية خاصة بها وبدافع الألم المحض مؤكدة على العنصر الذاتي كمنهج خاص بها "لم أتبع يوماً مدرسة معينة ولم أتأثر بأحد. لا أنتظر أي شيء من أعمالي، سوى شعور الرضا الذي ينتابني بسبب حالة الرسم الخالصة التي أعيشها".

تظهر الرسامة المكسيكية كامرأة تعرف باستثنائية الألم حين يصْفَحُ عن ماضيه مقابل لحظةِ حنانٍ وحقيقة واحدة، في رسائلها لزوجها ريفيرا بالإضافة إلى كلّ من عشاقها أليخاندرو غوميز أرياس والذي كان معها حين وقوع الحادث ومن ثم نيكولاس موراي والذي اشترى إحدى لوحاتها من معرضها الأول في نيويورك، تجمع الأمومة والطفولة ممتثلة للعطاء والأنانية على نحو خاص، يظهر هذا الجانب كحالةٍ من الاحتواء والحنو والعطف على الآخر، فالمرأة التي لم تتمكن من الحصول على طفل إثر الحادث الذي وقع لها تصير أمّاً لذاتها، مما يمنحها القدرة على حب الآخر بالامتلاء ذاته، كما أن الطريقة التي تكتب بها علاقتها بزوجها ريفيرا والتي انهارت مرات كثيرة ثم عادت للتماسك، لا يمكن أن نقول من خلالها إنها واحدة من النساء المتفهمات للشراكة والحب وحسب وإنما أيضاً من أولئك اللواتي يسبرن عشاقهن بكلّ لين بحثاً عن الإنسان الصافي تماماً، "أنا الجدة، حورية كاليبسو القديمة، المادة الجوهرية الضرورية والأبدية، أمّ الرجال وجميع الآلهة التي اخترعها الرجال خلال نوبة هذيان ناجم عن الذعر والجوع، وعن المرأة أيضاً"، تقول في رسالة لنيكولاس موراي، المصور الفوتوغرافي الهنغاري، الذي التقته أثناء مساعدته في تحضير معرضها الأول: "أخبر والدتك أن تعتني بك جيداً، وأن ترغمك على أخذ قسط من الراحة عندما تشعر بالأعياء. أخبرها بأني غارقة أكثر في حبك وأنك حبيبي وعشيقي".

ورغم دفق الحب والاستسلام للآخر، فإن الجانب الطبي والألم الجسدي لا يغيبان عن معظم رسائلها، خصوصاً تلك التي كتبتها إلى أصدقائها وطبيبها "ليو إلويسر"، الذي كان معيناً وسنداً قوياً لتتخطى فريدا كلّ الأزمات والانتكاسات التي مرت بها. تظهر في الرسائل العلاقة شبه الدائمة بين المريضة والطبيب والتي اتصفت بالصداقة والثقة والثبات مما أعان فريدا على الإفصاح عن الآلام المبرحة التي عانتها كلّ يوم في مواجهة جسدها الهشّ والدعم الذي منحها إياه "ليو". كتبت له: "من بين أصدقائي، أنت من أحبه أكثر من أيّ صديق آخر، ولهذا أتجرأ على إزعاجك بمشاكلي الغبية". يُذكر أن طبيبها أرسل لها الجنين الذي أجهضته محفوظاً في مادة الفورمالدهايد والذي قامت لاحقاً برسمه.

تعتبر الرسائل نافذة خاصة على حياة فنانة استثنائية وخاصة كفريدا كالو بالإضافة إلى التعرف عن كثب على العلاقة المعقدة التي ربطتها بزوجها الرسام دييغو ريفيرا والمشاعر التي عاشتها امرأة محطمة الجسد ما بين ارتفاعات الحب الشاهق وانكسارات الحياة الواقعية.

 

* من رسالة إلى أليخاندرو غوميز أرياس:

"لو تعرف عمق الشقاء الذي يجلبه اكتساب المعرفة على نحو مفاجئ: مثل الصاعقة التي تنير الأرض! أعيش الآن على كوكب مؤلم، شفافة كالصقيع، كما لو أنني تعلمت كلّ شيء دفعة واحدة في غضون ثوان. صديقاتي ورفيقاتي غدون نسوة على مهل. أما أنا فقد كبُرتُ في لحظاتٍ معدودة، وبات كلّ شيء مضجراً وتافهاً. أدرك الآن عدمية الوجود، فلو أن هناك شيئاً ما، لتبصّرته".

 

* من رسالة إلى الدكتور ليو إلويسر:

"لا أعتقد أن دييغو مهتم جداً بأن يكون له طفل، نظراً لاهتمامه المنصبّ على العمل، وهو على حق تماماً في ذلك. يأتي الأطفال في المرتبة الثالثة أو الرابعة على سلم الأولويات. لا أعرف إن كان من الجيد إنجاب طفل، لأن دييغو دائم السفر والترحال، ولا تنتابني أدنى رغبة بتركه وحيداً والبقاء في المكسيك. سيتسبب هذا في المتاعب والمشاكل لكلينا. ألا تعتقد ذلك؟ ولكن إن كنت حقاً تشاطر الدكتور برات رأيه بأن الاحتفاظ بالطفل والتخلي عن فكرة الإجهاض أفضل من أجل صحتي، فيمكن حينها تذليل كلّ تلك الصعاب بطريقة أو بأخرى. ما أبحث عنه هو رأيك، أكثر من رأي أي شخص آخر، لأنك الأدرى بوضعي الصحي".

 

* من رسالة إلى دييغو ريفيرا:

"لمَ لا أفهم أن كل هذا لا يتعدى كونه مجرد نكتة، وأننا في أعماقنا متيّمان ببعضنا البعض؟ رغم أننا خضنا مغامرات لا حصر لها، وتصدعات في علاقتنا، وتبادلنا (ذكر) أُمّينا، وشكاوى دولية، ألم نعشق بعضنا البعض طوال الوقت؟ أعتقد بأن ما حدث هو أنني غبية وحمقاء بعض الشيء، لأن جميع هذه الأشياء حدثت وتكررت خلال السنوات السبع التي قضيناها معاً. كلّ هذا الغضب، جعل الصورة أمامي أكثر وضوحاً كي أفهم على نحوٍ أفضل أنني أحبك أكثر مما أحبّ جلدي".

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.