}
عروض

"سيرة" أولاد حارتنا": تفاحة التخييل المُحرَّمة

طارق إمام

2 نوفمبر 2018

 

 (1)

تكافئ كلُّ سرديةٍ تخييلية سرديةَ الواقع التي أنتجتها، بإخفائها. كأن المكافأة الوحيدة التي يمنحها نصُّ "الكذب" لنص "الحقيقة"، هي ذاتها العقاب: أن يواريه فور ولادته بحيث يصبح الواقع الوحيد الممكن هو الواقع الفني. لكن العكس حدث مع رواية "أولاد حارتنا"، فقد حاكمت سرديةُ الواقع سرديةَ الخيال قبل أن تنجو بفعلتها، فتحت لها مقبرةً كادت في لحظة أن تُغلق دونها، لكنها بالمقابل أدخلت نفسها تلك المقبرة، بأيدي مُلّاكها الصغار: الجنرالات والمشايخ ومؤرخي الحقبة ونخبة المصالح والقطيع المُلقَّن، حتى صار العثور على سياقٍ تاريخي متسق قابل للاستعادة ضرباً من المعجزة.  

في "أولاد حارتنا/ سيرة الرواية المحرمة" (دار العين، القاهرة) يحاول "محمد شعير" تحقيق هذه المعجزة، باسترداد نص الواقع، (الذي بات نص التاريخ)، النص الذي لفظ "أولاد حارتنا" بالمعنيين: الولادة والوأد. إنه فعلٌ أقرب للترميم، بالمواد نفسها التي صيغ بها هذا الواقع/ التاريخ: الأوراق والوقائع والشهود، عبر تحقيقٍ واسعٍ، يبحث فيه أحد ألمع المحررين الثقافيين العرب عن كافة المتهمين في قضيةٍ لم يُعرف فيها سوى متهم وحيد، اسمه: نجيب محفوظ.

 

(2)

الكولاج: "مِزق" الإيديولوجيا

لم يعد من وجود الآن لمخطوط "أولاد حارتنا"، لقد فُقِد، أو اختُطِف، منذ زمن بعيد وليس ثمة سبيل للعثور عليه. أنكر من يُفترض أنهم يعرفون مرقده صلتهم به: محمد حسنين هيكل ناشر المخطوط في نسخة الأهرام المسلسلة (والمغرم بالاحتفاظ بالوثائق)، زوجة سهيل إدريس صاحب دار الآداب وناشر الطبعة الأولى من الرواية في بيروت، "أبو السعود إبراهيم" رئيس قسم الأرشيف الأسبق بالأهرام، الذي التحق بأرشيف الأهرام عام 1965، والذي يؤكد لشعير: "طوال فترة عملي بالأرشيف لم أشاهد أي مخطوطات لروايات نجيب محفوظ". أما إجابة "فيليب ستيوارت"، أول مترجم للرواية إلى الإنكليزية، فجاءت مشككةً في رواية أسرة "إدريس" بسخرية واضحة: "ربما ترقد المخطوطة داخل خزانة أحد البنوك في بيروت!".

 رحلةٌ شخصية خاضها شعير عبثاً لمعرفة مصير تلك المخطوطة "النادرة"، وكانت الإجابة الوحيدة هي: لا وجود لتلك الأوراق التي سلّمها محفوظ بيده لجريدة الأهرام في خريف عام 1959.     

 الزمنُ الذي أنتج رواية نجيب محفوظ "المحرمة" نفسه فُقد، أو اختُطِف، ولا وجود حتى لنسخةٍ موثقة منه كتلك التي حظيت بها الرواية: بقي مخطوطاً أبدياً يقبل التحريف ويستعصي في الوقت ذاته على المحو.

ربما يرقد ذاك الزمن في مكان غير بعيد عن مثوى المخطوط، حيث لا سبيل إلى ترميمه، لا أمل في يدٍ تمتد لتنتشله من ضياعه، لنعرف، بالضبط، أو على وجه التقريب حتى، أي  زمن أنتج "أولاد حارتنا"، أي زمن حاربها، وحاكمها، وأي زمن كافح عبثاً ليواريها ترابه. "محمد شعير" يحاول مد هذه اليد: يد يعرف أنها قد لا تعود، قد تضيع في هواء الأزمنة المُعادية، لتضيف للمفقودين ضحية جديدة.

ببنيةٍ كولاجية، لا تتوخى الانسجام البنيوي أو الاطراد الخطي الآمن للوقائع في تعاقبه "الكرونولوجي"، يلتقط شعير مزق مخطوط التاريخ، والذي يضم في الحقيقة أكثر من حقبة تضمها دولة يوليو نفسها: من الدولة الناصرية التي عوقبت فيها الرواية لدولة مبارك حيث عوقب جسد محفوظ نفسه بطعنة الإسلام السياسي عام 1994، وصولاً لأغسطس/آب 2006 عندما لفظ محفوظ أنفاسه الأخيرة.

 الحقبة الناصرية، حقبة نشر "أولاد حارتنا" ومصادرتها معاً تبسط مناخها على النصف الأول من "السيرة المحرمة": الوثائق الرسمية، قصاصات الصحف، الحوارات، التصريحات، وحتى رسائل القراء، ويغذيها المحقق بمقابلات شخصية شملت من تبقى "الشهود"، على رأسهم محفوظ نفسه وعدد من أبرز الفاعلين في ذاك المشهد إن من أنصار محفوظ أو مناهضيه. يعيد شعير مساءلة ذلك القوام الثقيل، ليجعل من كتابه قراءةً حقيقية وليس كتابةً تغلق باباً على إجاباتٍ سهلة مثلما يُغلق المشيعون باب مقبرة على جثمان آملين في الجنة.

بمعنى آخر، يرُد شعير "أولاد حارتنا" لجذورها المرجعية، ليكتب "رواية" الواقع والتاريخ، الأسبق على رواية التخييل المحفوظية والأشمل منها والمحيطة بها إحاطة السوار بالمعصم. إنها عمليةٌ تمثل بالضبط عكس العملية الفنية، فبينما يأخذ النص الأدبي الواقع إلى شرط التخييل، فإن "سيرة الرواية المحرمة" تعيد التخييل لسياقه، طامحةً في نصٍ موازٍ، نصٍ "شارح" (بالمعنى الواسع للكلمة). إنه الطموح الذي أظن أن الكتاب نجح فيه، وهو، أيضاً، ما يجعل من هذا الكتاب سيرة "نص" وليس سيرة "أشخاص".

سيحفل الكتاب باستباقات واسترجاعات، وقد اختط لنفسه بنيةً تجعل من كل فصل سؤالاً يعيد تدوير التواريخ في فلك البحث عن إجابة، حتى أن كل فصلٍ في الكتاب ينتهي بتساؤل فيما طمع المتلقي في إجابة. كأننا أمام دوامات متلاصقة تعيد تدوير علامة الاستفهام نفسها عبر أوجهها المختلفة. وببنيةٍ "مرآوية" يضع المحقق التفاصيل وجهاً لوجه باحثاً عن التناقضات بأكثر مما يبحث عن انسجام الريبورتاج المتصالح. ليُنتج في الأخير سيرةً، ربما، محرمة بدورها، لا تقل خطورة عن الرواية التي نهضت  لـ"تتحرّى" عنها.

وفق هذا التصوّر، طمح شعير أن يُنتج خطاباً يعتد ببنية "التهجين"، ما بعد الحداثية، بالذات. التهجين ليس محض لعبةٍ شكلانية، بل رؤيةٍ متألبة على أطر التحقيق المدرسي المصمت، وهي أيضاً بنية كاشفة لنصٍ "قلِق" لا يمكن لصاحبه أن يكتفي بدورٍ واحد حيال أدوارٍ معقدة، ناقض بعضها نفسه. فهو ينهض ضد نقاء البنية وانسجامها الكاذب الذي يعكس، من ثم، انسجام العالم الذي تعكسه وتماسك المعنى المطلق واطمئنان الإيديولوجيا العقائدية. يزيل شعير عبر التهجين أيضاً الفروق "الطبقية" التي تُصنَّف وفقها أهميةُ الشهادات، فالجميع هنا "شهود" متساوون، طالما يملكون ما يدلون به.

 هنا، إدانة (في كتابٍ لن يخلو من توجيه الإدانات) لتماسك التاريخ نفسه، لدلالته الأحادية التي تصب في الأخير في خدمة جمود العقيدة: عقيدة الجنرال والفقيه معاً وقد جمعهما أخيراً الخندق نفسه في مواجهة عدوهما المشترك: الخيال.

 

(3)

العلامة/ إبطال العلامة

تُعادي الثقافة العربية فعل "التفكيك". إنه الفعل الذي عوقب طه حسين و نصر حامد أبو زيد جراء "اقترافه"، في زمنين مختلفين. ليس عبثاً أن يذهب لهما إهداء كتابٍ غرضه الواضح هو ذلك "التفكيك" وبطله متهم ثالث بالجريمة نفسها هو محفوظ نفسه. العدو الظاهر للثلاثة كان التشدد الديني لكن ذلك العدو في الحقيقة، كما تكشف "سيرة الرواية المحرمة" دون تورية، لم يكن ليفعل شيئاً  دون تواطؤ الديكتاتور، في علمانيةٍ هشة يحرك دماها المشايخ من خلف ستار مسرح دولة يوليو/تموز (والقائمة إلى الآن على تراوح الإيديولوجيات بين رؤوس السلطات المتعاقبة)، وحيث تتعاقب الأزمنة كتعاقب الفصول دون أن تُبدِّل شيئاً سوى الملبس.

 من أجل هذا التفكيك يقرر شعير أن تكون بنية تحقيقه هي الشك، والمقصود هنا ليس الشك الذي تنفيه المصادر والوثائق، بل العكس: الشك الذي تُعمِّق الإجابات "المتاحة" من ظلاله. فعلُ التفكيك هنا لا يكتفي بالنص الأدبي، بل يفتحه على مجمل سياقاته، لينسحب التفكيك على النصين السياسي والديني كضلعين يكملان مثلث هذه الرواية. ربما هذا أول ما يجعل رحلة "سيرة الرواية المحرمة" سيرة شائكة، لأنها تفتش فعلياً في المسكوت عنه وما يجب أن يظل مسكوتاً عنه.

من اللحظة الأولى يضع شعير نفسه كمحقق، مشككاً في المادة المتاحة رغم الأرشيف الضخم الذي أعاد قراءته، وتصنيفه، ومن ثم أعاد بذره في 315 صفحة، (قبل أن يُلحق بكتابه قدراً من ذلك الأرشيف في صورته الأولية كمادة جاهزة جاعلاً من هذه المقابلة نفسها مواجهةً ذات مغزى). في الوقت ذاته يكشف المحقق عن تناقضات لا تُحصى تسم ما يفترض به أن يكون "ثبتاً" لكتابٍ مثل هذا.  إنه نص "أصوات" لكن في منحى تسجيلي (لا يعدم بنيةً روائية رغم ذلك على المستوى التكويني) يضع الواقعة أمام شهودها، كأنما لنكتشف في النهاية كذب الجميع. إنه لا يخجل من مراجعة محفوظ نفسه إن لزم الأمر. يتهم محفوظ مثلاً  "أحمد عباس صالح" بأنه من بدأ الهجوم على "أولاد حارتنا"، ويدحض شعير اتهامه: "إشارة محفوظ التي ذكرها لعادل حمودة وفي حضور هيكل إلى أن الهجوم بدأه أحمد عباس صالح ليست صحيحة تماماً".

وكسلفه "السيميوطيقي"، يبحث شعير مهتدياً بنصر أبو زيد عن "العلامات" كمفاتيح للكشف عن جمود النص بغية خلخلته. تتيح السيميوطيقا انطلاقاً شمولياً من الشكل بغية الوقوف ليس على الدلالة الكامنة خلف الدال/ العلامة، بل المرجعية التي تتشكل عبرها الدلالة نفسها. وهو بذلك يقرر قراءة التاريخ كنص، وهو ربما نص لا يقل قدسية عن النص الديني نفسه، ويغدو فض خطابه (كنظيره الخطاب الديني) ضرباً من التجديف. يحاول "شعير" الربط بين أسئلة قد تبدو متباعدةٍ ظاهرياً:  لماذا توقف محفوظ عن الكتابة لخمس سنوات (بعيداً عن الإجابات الإنشائية) ولماذا عاد بنصٍ (فوق واقعي) في سياق لم يكن ليرحب بأي رمزية مع تزايد الدعاوى بالفن الملتصق بأسئلة المجتمع؟ ربما خاض محفوظ حربه الخاصة عبر "العلامات" بالذات، نصه الأدبي كعلامة أمام فعل التلقي (تلقي السلطة) الذي يفض بدوره العلامة مُنتِجاً، لإبطالها، علامة أخرى "مناهضة".

لذلك، ووفق منهج شعير في استقراء العلامات، فإنه يبدأ من ملابسات نشر "أولاد حارتنا" لأول مرة، في حلقات مسلسلة بجريدة الأهرام، قارئاً المدينة نفسها (القاهرة) كعلامة مركزية في هذا الكتاب. يغور عبر ذلك في اللحظة دون أن يمنح ترتيباً "طبقياً" لعلاماتها، فرسالة من قارئ غاضب (مشكوك في هويته) ربما تكون مستصغر الشرر لنارٍ هائلة دفعت عبد الحكيم عامر بطل هزيمة يونيو/حزيران 1967 إلى الأمر باعتقال محفوظ لولا تدخل عبد الناصر في اللحظة الأخيرة.

لقد استبدل محفوظ برجوازية القاهرة بأرستقراطية قصة الخلق: الطبقة التي خُلق على شرفها العالم. هل فطنت بعض أجنحة النخبة لهذه الخيانة فزجت بالكرة مباشرة لملعب الإسلام السياسي الفاعل من خلف الكواليس؟ لا شك أن أن ما تعرضت له "أولاد حارتنا" هو فعل "تأويل" أيضاً، كأنما عوقب التخييل من داخل شرطه نفسه، لكن بسلطةٍ قادرة أن تمنح تأويلها صك الحقيقة التي لا تقبل التشكيك. وهكذا جرى تأويل "العلامة" في اتجاه واحد، وكأن ما قصد به محفوظ أن ينجو من سؤال شعير: "هل كانت الرواية تحمل ذلك التفسير السياسي الذي كان محفوظ يخشى الإشارة إليه؟" كان فيه، بالضبط، عقابه.

***

لا تمثل علمانية العسكر إلا قناعاً هشاً هدفه الوحيد "غائي" هو مناهضة الخطاب الديني، الذي يمثل عدواً "إيديولوجياً" دون أن يغادر الخندق المعرفي نفسه. بوق المنصة أمام بوق المنبر، فصيلان يتقاتلان على قطيع واحد هو الشعب. لكن تحت ذلك القناع، يحيا وجه الفقيه، بالضبط، مثلما يعيش وجه الديكتاتور بالمقابل، تحت قناع الفقيه. لقد جاءت "أولاد حارتنا" لتفض الخصام الظاهري بين خطابين يشتركان في العقيدة ذاتها: "القمع" تموههما علامتان متناقضتان: "الاشتراكية" كعلامة علمانية، و"الإسلاموية" كعلامة دينية، ولتفتح باباً جديداً لقراءة دولة يوليو كجسدٍ يمشي بالبيادة فيما تعلو العمامةُ رأسه. جاءت "أولاد حارتنا" في لحظة المنتصف بالضبط، بعد سبعة أعوام من قيام حركة الضباط الأحرار وقبل ثمانية أعوام من هزيمة يونيو/ حزيران 1967 والتي انتهت فيها عملياً الدولة الناصرية. هكذا اتحدت المصالح أخيراً على كبش فداء ملائم، جاء كـ"كنز سياسي" في لحظةٍ دقيقة: "وسط أجواء هذا الصراع، بدت "أولاد حارتنا" كنزاً سياسياً تتصارع عليه كل القوى السياسية، وتحاول توظيفه لمصلحتها الخاصة، صراع على المكشوف، تحالف بين الشيوخ والقوى السياسية اليمينية داخل السلطة الناصرية. وهكذا وجد محفوظ نفسه أشبه براوي أولاد حارتنا الذي احترف الكتابة "رغم ما جرته عليه من مشكلات".

التصالح على شرف "أولاد حارتنا"، تُرجم، علاماتياً، لتعبير دال: "الاشتراكية الإسلامية". تعبيرٌ أوجد تلفيقاً علاماتياً صالَح بين علامتين يُفترض أنهما متعارضتان في الصراع السياسي. تعبيرٌ كتب فيه "حسن عباس زكي" وزير الاقتصاد آنذاك، واحدا وعشرين مقالاً بين "الأهرام" و"الأخبار"، فضلاً عن حملة هجوم في البرلمان ضد "زميله" وزير الثقافة ثروت عكاشة الذي أسند مهمة الرقابة "لرجل متهم في عقيدته الدينية". كمال الدين حسين (عضو مجلس قيادة الثروة) اسم آخر ضالع في التحريض على أولاد حارتنا، وبدوره، جمع بين "المرجعيتين"  اللتين تحيل لهما العلامة المهجنة، فهو ناصري / إخواني: " كان شديد المحافظة على المستوى الديني والاجتماعي والثقافي، وقد ارتبط خلال سنوات الأربعينيات عاطفياً وتنظيمياً بجماعة الإخوان المسلمين، بل كان عضواً بالجهاز السري للإخوان المسلمين".

في الحقيقة يحاول شعير إعادة استقراء العلامات من هذا النوع ليعيد بدوره قراءة السياق التاريخي بعيداً عن ثنائية (عسكر/ إخوان)، أو ثلاثية (عسكر/ إخوان/ مواطنون)، ما يجعل من "سيرة الرواية المحرمة" في جوهره محاولة لإذابة هذه الثنائية التي فرّقت دم محفوظ بين فصيلين متعارضين، حيث يمكن فقط بهذه الإذابة/ التفكيك الوقوف على قدر من حقيقة مرة، مفادها أن هذا النص كان عدواً للجميع، وأن هؤلاء "الجميع" كانوا في الأخير الجلاد نفسه.

 

(4)

الصحفي أم المحقق؟.. المؤرخ أم الراوي؟

أي دور تلعبه الذات المنتجة لـ "سيرة الرواية المحرمة"؟ هل يشبعها الصحفي، المحقق، المؤرخ؟ أم ربما تحتاج دوراً جديداً؟ أحال شعير إلى نفسه في تصدير الكتاب المجتزأ من "الثلاثية": "إني سائح في متحف لا أملك فيه شيئاً. مؤرخ فحسب. لا أدري أين أقف؟" سائح (في وطن آخر؟ ربما، وماذا نملك حيال وطن وُجد قبل أن نولد سوى أن يكون مكاناً لسياحتنا كغرباء؟". غير أن التأكيد "الوجودي" على التيه والاعتراف باستحالة العثور على حقيقة، لن يلبث أن يجادَل بتنقل مدروس بين الأدوار. 

لا يخلو كتاب شعير من "راوٍ"، لا يكتفي بما يعثر عليه، بل يذهب مباشرة ليخلق قصته، ومن هنا يقابل بنفسه نجيب محفوظ، محمد حسنين هيكل، فيليب ستيوارت، سليمان فياض، سامي شرف، محمد فائق، عايدة إدريس، وغيرهم ليحصل على روايته الشخصية. الفارق بين الصحفي أو المؤرخ، والراوي، ليس فقط في طبيعة الخطاب (غير تخييلي/ تخييلي)، بل في تصور كل منهم عن "دوره" في إنتاجه. الراوي وحده يرى في نفسه منتجاً للخطاب، وضالعاً في لعبة المصائر، وهو دور يتجاوز الصحفي والمؤرخ، على اختلاف طبيعتيهما. هناك أيضاً دور "المتحري" الذي يمارسه شعير في غير موضع.

***

ثمة شخصٍ يُدعى "محمد أمين" لم يكن لاسمه (إن وُجِد حقاً) أن يُذكر إلا على ألسنة أبنائه، لكن رسالةً (مشكوك في أمرها) منه لمجلة المصور أدخلته (كشخصٍ أو كشخصية) التاريخ من باب ضيق وواطئ، حد أن عبوره يتطلب قدرةً هائلة على "الانحناء". يفترض أن صاحب هذا الاسم أرسل خطاباً غاضباً لصالح جودت يهاجم فيه "أولاد حارتنا"، التي لم يكن قد اكتمل نشرها على صفحات الأهرام، ويتهمها بالتجديف وإهانة المقدسات. رسالة تلقفها جودت (صاحب التاريخ المعروف في دعم المصادرة والتحريض عليها، وهو الشاعر والأديب، وصديق محفوظ) ورد عليها بنفسه، رداً مائعاً بدا دعماً أكثر منه تفنيداً.

أمام هذه الرسالة، سيغادر "شعير" مقعد المؤرخ، والمحقق، ليقوم برحلةٍ بطلها هو "المُتحري"، رحلة ربما كانت من أشد حلقات هذا الكتاب تأثيراً وترجمةً لأمانةٍ نموذجية، باعثها الشغف والمغامرة والمهنية، وربما تصلح في ذاتها مادةً لرواية. في مدينة "شبين الكوم" بدلتا مصر، وفي أحد الشوارع الهامشية، المتفرعة من شارع "جمال العبد الناصر" (ربما بالضبط مثلما كان محمد أمين شخصية هامشية خارجة من السياق الناصري) سيبحث شعير عن صاحب الرسالة، وسيسأل الجيران القدامى ممن يعرفون سكان الشارع، وسيعود بإجابةٍ واحدة: صاحب الاسم (إن كان المقصود شخصا لقبه الأمين وليس أمين)  "مصارع، وكان يعمل مدرباً للمصارعة، ولم نعرف عنه إطلاقاً أنه مارس الكتابة أو أبدى اهتماماً بالأدب". ربما لا وجود لشخصٍ يدعى "محمد أمين"، لكن الأكيد، أن "صالح جودت" كان دائماً موجوداً.

خيانة "المثقفين" سؤال آخر شديد الخطورة في هذا الكتاب، وربما لم يرد ذكره من قبل لدى التحدث عن "المتآمرين" على حرية التعبير، ربما لأن المتحدثين الوحيدين عن المؤامرة كانوا المثقفين أنفسهم والذين لن يزجوا بأنفسهم كطرف فاعلٍ في الاغتيال المعنوي لشيخهم، ذلك الاغتيال الذي لم تتوقف حلقاته إلى الآن. الوشاية تبناها عدد من "أولاد الكار" ليصبح العدو الأول لمحفوظ هو حلفاؤه البديهيون. التصريح يأتي على لسان محفوظ نفسه: "بدأت الأزمة بعد أن نشرت الصفحة الأدبية بجريدة الجمهورية خبراً يلفت النظر إلى أن الرواية المسلسلة التي تنشرها الأهرام فيها تعريض بالأنبياء. وبعد هذا الخبر المثير، بدأ البعض، ومن بينهم أدباء للأسف، في إرسال عرائض وشكاوى يطالبون فيها بوقف نشر الرواية وتقديمها إلى المحاكمة، وبدأ هؤلاء يحرضون الأزهر ضدي على أساس أن الرواية تتضمن كفراً صريحاً، وأن الشخصيات الموجودة في الرواية ترمز إلى الأنبياء. وقد عرفتُ هذه المعلومات عن طريق صديق لي هو الأستاذ مصطفى حبيب الذي كان يعمل سكرتيراً لشيخ الأزهر، وكان شقيقه يعمل وكيل نيابة، وأخبرني أن أغلب العرائض التي وصلت إلى النيابة العامة أرسلها أدباء".

"أديب" يتبنى رسالة من قارئ كقناعٍ لتمرير "بلاغه" الشخصي، وآخرون يبادرون بالإبلاغ في عرائض جماعية، خيانة دالة لرجل كتب للتو روايته الأولى بعد خمس سنوات من الانقطاع، وبعد أن شهد عمله السابق (الثلاثية) بالذات خيانة من صديق عمره وناشره "الروائي" عبد الحميد جودة السحار والذي أخّر نشر "الثلاثية" خمس سنوات كاملة ليفسح الطريق أمام روايته "الشارع الجديد"، والتي كانت رواية أجيال أيضاً كتبها بعد أن أفشى محفوظ فكرة الثلاثية ونشر السحّار روايته بعد ستة أشهر ليحظى بالسبق: "إحساس محفوظ بالصدمة من خديعة السحار دفعه للتوقف عن الكتابة، وخاصةً مع تأخر نشر الثلاثية خمس سنوات كاملة". يوسف إدريس نفسه (الموهوب لكن الغيور، وابن ثورة يوليو الأولى بتدليلها من محفوظ الوفدي الليبرالي ابن ثورة 1919) ساهم في المؤامرة آملاً أن يصيب عصفورين بحجر واحد: إرضاء السلطة الراغبة في التعتيم وتحقيق انتصارٍ إعلامي لنفسه على غريمه، معجلاً بنشر رواية غير مكتملة هي "البيضاء" في جريدة يوليو أيضاً "الجمهورية"، (والتي كان لها بدورها صراعها الخاص مع الأهرام) وهي الرواية التي نُشرِت مبتسرة لأن إدريس بات يكتبها يوماً بيوم ليفي بنشرها، وهو ما لم يقدر عليه في النهاية، وانتهى نشر روايته "الناقصة" بطريقةٍ عبثية: "تفتق ذهن سكرتير التحرير عن حل للمشكلة.. قبل أن تنتهي فصول الرواية كتب بخط يده بعد آخر سطر كلمة "تمت".. وانتهى الأمر!"

 إدريس كان لاعباً في صراع آخر هو الصراع ضد "الأهرام"، نفسها، والتي كان هناك جناح داخل السلطة يرغب في النيل منها ومن هيكل. في مقابلة مباشرة يسأل شعير هيكل: "هل كان الهجوم على أولاد حارتنا مقصوداً به نجيب محفوظ أم محمد حسنين هيكل؟ ابتسم: المقصود به "الأهرام"، ليس شخصي ولا محفوظ، هناك داخل السلطة من أزعجهم نجاح الأهرام، لم نكن في طوع الاتحاد الاشتراكي (التنظيم السياسي القانوني الوحيد)، ولا الحكومة، ولم نكن نطلب مساعدات منهم".

 ربما كانت خيانة الأدباء هي الأشد غوراً في روح محفوظ، وربما وضعت بنفسها المطواة في يد المتشدد الذي سيوجه لاحقاً طعنةً لعنق محفوظ بعد ذلك بخمسةٍ وثلاثين عاماً، عندما كان محفوظ يتمشى أعزل كعادته في شوارع مدينته التي كانت دائماً حصنه، فيما كان المثقفون يحتمون بـ "الحظيرة".

 

(5)

بنية الشريط السينمائي

لا يمكن اختصار "سيرة الرواية المحرمة" في مادتها المهمة دون النظر للكيفية التي تحولت بها هذه المادة التأريخية إلى سياق "درامي" يعيد تشكيل المتن التوثيقي بروح روائية.

في الحقيقة، ليس الشكل "الفني" لسيرة الرواية المحرمة محض حلية هدفها "تجميل" نص "الحقيقة"، لكنه جزء أساسي من نظرته نفسها لما يمكن أن تنطوي عليه كلمة "الحقيقة". يعتمد "شعير" بنية الفيلم التسجيلي (وهي بنية تسم الفيلم الروائي بالأساس) فيمنح "سيرته" (بما للكلمة من إحالة سردية مباشرة) إلى ثلاثة فصول تضم تحت مظلتها الفصول السبعة عشر المعلنة.

ثلاث لقطات "بانورامية" بلغة السينما تضمها "سيرة الرواية المحرمة"، تعمل في الحقيقة كافتتاحيات لمفاصلها، أو لحركاتها الثلاث الرئيسية. اللقطة الأولى في "21 سبتمبر 1959" يوم نشرت الحلقة الأولى من رواية "أولاد حارتنا" على صفحات الأهرام. اللقطة الثانية في "13 أكتوبر 1988" يوم أُعلن حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل في الآداب. واللقطة الثالثة "14 أكتوبر 1994" يوم تعرض محفوظ للطعنة. هذه التواريخ هي نفسها عناوين لفصول ثلاثة، هي في الحقيقة فصول الحكاية الرئيسية، وقد وُزِّعت على سبعة عشر "مشهداً" هو عدد فصول هذا الكتاب. في الفصول الثلاثة نكاد نكون أمام كاميرا ترصد، بعين طائر، صورة بانورامية للقاهرة في فوتومونتاج يمزج الأحداث السياسية بالفنية، أبرز الجرائم بأخبار الكرة، الأفلام الجديدة في دور العرض وصولاً لحالة المناخ.

من هذه المفاصل، تكتسب "سيرة الرواية المحرمة" بنيتها الكلية، متعالقة مع بنية الفيلم التسجيلي (التي لا تنفصم أيضاً عن الروح الروائية للفيلم الروائي)، وبحيث توزع سردية هذا الكتاب على الفصول الثلاثة (بلغة السينما أيضاً) التي يغزوها موضعان أساسيان للحبكة. فهناك تمهيد يبدأ من التأسيس الأول إلى أن يخرقه موضع الحبكة الأول، صفحة 43، مع الفصل المعنون بـ"رسالة غاضبة" والمستهل بعبارة: "كيف بدأت المشكلات؟" حيث ستبدأ نذر المشكلات تحيق بالرواية وتمنح السيرة منعطفاً أول. ينطلق الفصل الثاني في ستة فصول تبدأ بـ"كيف يقرأ المشايخ الأدب" وحتى "الأصل البعيد"، وهي فصول تتحرك في سياق الصراع ككاشفةٍ لأوجهه. مع حصول محفوظ على جائزة نوبل في الآداب ينطلق الفصل الثالث حيث يحيل لموضع حبكة ثانٍ أفضى لذروة جديدة مثّلها تعرضه للطعن، لتأخذ السيرة منحى جديداً وذروة غير مسبوقة، قبل أن تنتهي الحكاية، كحكاية كل إنسان، بموته.

 بنية شمولية يغذيها الترميم الكولاجي (الذي أسلفنا الإشارة إليه)، ليحقق كتاباً استفاد من أكثر من بنية خطابية كي يخلق خطابه الخاص.. وسؤاله الكبير: أي أرض تقف عليها "أولاد حارتنا" فيما يحاول وكلاء السماء، ووكلاء كل مطلق، زعزعتها بلا هوادة؟

لقد ربط أولئك الوكلاء "أولاد حارتنا" بالسماء، بينما قرر "محمد شعير" أن يعيدها للأرض: أرض الجنرالات الذين حاصروها والفقهاء الذين أفتوا بذبحها وذبحه، وحيث الإله الوحيد الذي كفرت به رواية محفوظ المحرمة، ليس في السماء، بل على هذه الأرض. 

 

 

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.