}
عروض

"مكان وسط الزحام" لعمار علي حسن.. أين السيرة الذاتية؟

إيهاب محمود

8 نوفمبر 2018

ثمة عبارة تقول: "إن السيرة الذاتية لا تكون صادقة، إلا بقدر ما هي مشينة". وإذا طبقنا هذه العبارة على كتاب "مكان وسط الزحام" الصادر مؤخرًا عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة للروائي عمار علي حسن، سنجد أنفسنا أمام كتابة أقرب للفضفضة منها لأدب السيرة، كما أنه لا توجد أية مواقف أو أحداث مشينة تذكر، ولا توجد حتى عقبات تجعلنا نتعاطف مع صاحبها، الذي على ما يبدو أنه لم يحالفه التوفيق حين اتخذ قراره بكتابة سيرته، لسببين: أنه لم يصل في رحلته للنقطة التي يكون منطقيًا عندها أن يكتب عن نفسه، بمعنى أن الرحلة لا تزال تحتاج للكثير كي تكتسب متعتها، وخبرتها، وتملي دهشتها على المتابعين، أما السبب الثاني فهو أن ما كُتب لا يرقى بحال من الأحوال ليكون سيرة ذاتية، بل هي خواطر ربما، أو فضفضة يسري بها عمار عن نفسه، وبكل الأحوال نحن أمام كتاب يقول صاحبه إنه "تجربة ذاتية في عبور الصعاب"!

يقسم عمار كتابه/ سيرته، إلى ثلاثة أقسام: طفل كبير، صيد الحكايات، والقسم الثالث حفر في صخر.

يحكي في القسم الأول أنه لم يكن طفلًا عاديًا، كان مسؤولًا ولديه أعباء يضطلع بها، كما أنه كان منعزلًا عن أقرانه، يشعر أن ثمة فارقًا كبيرًا بينه وبينهم، ليس تعاليًا منه بقدر ما هو إدراك لعدم التشابه الواضح، يتفوق في الثانوية العامة، يلتحق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، مؤكدًا لأبيه أنه لن يكلفه نفقات باهظة، حيث يعمل في الحقول الزراعية وبنايات المدن، فيما تحمل والده جزءًا يسيرًا من نفقاته.

سريعًا جدًا، ينتقل عمار لجامعة القاهرة، ويلتحق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وعلى الرغم من أهمية المرحلة ودقة لحظتها، نجد عمار يطويها سريعًا أيضًا ليتحدث عن فترة تجنيده بالجيش المصري، وعلاقته بالضابط الذي شك فيه، واتهمه بأنه ينتمي لتنظيمات إرهابية، بسبب أنه وجده يقرأ في كتب سيد قطب، وبمرور الوقت، أدرك الضابط أن عمار محب للقراءة بشكل عام، بعدما وجده يقرأ في كل الفروع، لا عن التنظيمات اليمينية فقط.

ترشحت كتيبة عمار للمشاركة في حرب الخليج الأولى، غير أن الأوامر صدرت في ما بعد باستبعاد الكتيبة لعدم جاهزيتها، وعلى الرغم من دقة الظرف، وأهميته تاريخيًا وعسكريًا وطبعًا عربيًا، لم يزد عمار عن ثلاث صفحات أو أقل ليتحدث عن الحرب، وكان مهمًا، في ظني، لو أفرد لها صفحات أكثر وأولاها اهتمامًا يفوق ذلك، حتى لو كتب ذلك من وجهة نظره فقط، لا كمحلل سياسي، بل كمواطن عربي شاهد العرب يتقاتلون، وعاصر فترة من أهم وأخطر الفترات في تاريخنا الحديث.

في هذا الجزء الأول أيضًا، تحدث عمار عن الموت، الذي هاجمه أكثر من مرة، ويحكي كيف نجا منه وخرج سليمًا. اللافت هو أن القصص لا توجد فيها ثمة معاناة أو لا تحمل آلام الموت الحقيقية، وهواجسه المخيفة. للموت هيبته، وقسوته، ولكن ما حكاه عمار تعرض له، تقريبًا، الجميع بلا استثناء. إنه يحكي مثلا عن نجاته من الموت بعد إصابته بمرض الزائدة الدودية التي كادت أن تودي بحياته! يحكي عن مشاجرة مع طفل في مثل عمره، اشتبكا معًا بالأيدي، وكاد الطفل أن يخنقه ولكنه تخلص منه بصعوبة وانهال عليه ضربًا، وبذلك هرب من موت "محقق"!

ويسرد عمار قصته مع الموت الذي هاجمه بسبب الأستاذ محمد حسنين هيكل: "ومرت سنوات ثم جاء الموت يراودني مع سيجار الأستاذ محمد حسنين هيكل. كنت قد زرته برفقة المفكر الاقتصادي عبد الخالق فاروق... يومها أتى بصندوق فاخر وفتحه فأطل منه سيجار كوهيبا الأنيق بعضه فوق بعض، والتقط واحدًا ومده إلي، وهمَّ أن يشعله، فقلت له سآخذه تذكارًا، ونسيته شهورًا، حتى ليلة كنت ذاهبًا فيها إلى المقهى لأحتسي الشاي وأدخن الشيشة كعادتي، فالتقطه من مكانه. لم أكن أعرف أن مدخنيه يسحبون منه على مهل ولا يبلعون الدخان إنما يطردونه من أفواههم سريعا. أنا دخنته كما تدخن السجائر، سحبت الدخان داخلي حتى أجهزت عليه تمامًا، وبعدها شعرت أن رئتي قد سدتا تمامًا وأن الدماء قد توقفت في شراييني.. تمددت على الأرض وساند صديقي محمد رشدي خطواتي حتى أوصلني إلى شقتي، فقضيت الليلة ساهرًا أحرس نفسي من موت محقق"!!

يزيد عمار على الخمسين عامًا، ولا أعرف حقيقةً هل تخلو حياته من المعاناة فعلًا، لدرجة أنه يستدعي مواقف لا شأن لها بالصعوبات أو المتاعب، ولا تتماشى مع العنوان الفرعي الذي منحه لكتابه "تجربة ذاتية في عبور الصعاب". هذا الحديث عن الموت، يعد استخفافًا إما بالموت، وإما بالقارئ، وهذه الصعاب في أنه كان طفلًا لأسرة فقيرة، وأنه كان يعمل لينفق على نفسه، وأنه قضى فترة تجنيده في صعوبة، هي أمور يمر بها المصريون يوميًا، ولا ينظرون لذلك على أنه معاناة، بقدر ما هو جزء من أصيل حياتهم.

في القسم الثاني "صيد الحكايات"، يفرد عمار المساحة لعلاقته بالكتابة والرواية والقصة، وعن نبوءة مدرس اللغة العربية له أن يصير كاتبًا. بدأ شاعرًا، ثم تحول إلى السرد، لينشر مجموعته القصصية الأولى "عرب العطيات" عام 1998، ثم روايته الأولى "حكاية شمردل" عام 2001، ليواصل بعدها الإنتاج الأدبي، لتبقى في جعبته الآن عشر روايات، وخمس مجموعات قصصية. يحكي عمار عن تجربته الكتابية ولكن ببساطة غير محببة إطلاقًا، حيث يسرد قصة كل عمل في بضع سطور، ويدافع عن اتهامه بإغراق أعماله الأدبية في السياسة، مسترشدًا بجملة نجيب محفوظ: "لا يوجد حدث فني، إنما هو حدث سياسي في ثوب فني"، مؤكدًا أنه ليس وحده، بل يكتب في نفس المساحة صنع الله إبراهيم وعبد الرحمن منيف ومؤنس الرزاز: "إنني لا أحتاج إلى الأدب لأختبئ فيه وأبث آرائي السياسية، إذ أكتبها وأقولها جهارًا نهارًا، ولم أتهيب أو أتحسب يومًا، ومقالاتي أيام حكم مبارك والإخوان والسيسي شاهدة على ذلك".

أما القسم الثالث، فخصصه عمار للحديث عن صعوبة التحاقه بوظيفة، وأنه سعى كثيرًا بحثًا عن عمل، وكيف قضى شهورًا يتردد على أماكن التوظيف والمجلات والجرائد. ثم لقائه بالدكتور جهاد عودة، مدير مركز التنمية السياسية والدولية وقتها، حيث طلب عمار العمل معه، ويبدأ الطريق حيث تمنى دائمًا أن تأتي وظيفته في مجال البحث العلمي والعلوم السياسية، حتى تحقق له ما أراد.

المشكلة ليست في ما كتبه عمار، بقدر ما تكمن في طريقة العرض، كان بوسعه أن ينشر مقالات إنسانية عن محطات في تجربته الذاتية، ولكن أن تأخذ قرار كتابة سيرتك الذاتية، وأنت لم تتعد الخمسين إلا بسنوات قليلة، ولم تكن تجربتك في العمل العام ذائعة الصيت عظيمة التأثير، فهذا غير منطقي بالنسبة لي، إلا لو كانت في الحياة الخاصة أمور تستحق الحكي وتسترعي النظر، ولكن هذا لم يكن موجودًا أيضًا، فجاء الكتاب كله وكأنه حديث على قهوة في وسط البلد في جلسة لساعة أو ساعتين، وليس كتابًا برهبة السيرة الذاتية "التي لا تكون صادقة، إلا بقدر ما هي مشينة".

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.