}
قراءات

"ماكبث": رواية بوليسية معاصرة

نجيب مبارك

30 أكتوبر 2018

 

بمناسبة الذكرى 400 لوفاة ملك الشعراء الإنكليز ويليام شكسبير، التي احتفل بها العالم سنة 2016، اختار مشروع "هوغارت شكسبير" خوض تجربة جريئة وغير مسبوقة، تتمثّل في إعادة كتابة وصياغة بعض من أشهر مسرحيات هذا العبقري الاستثنائي عن طريق النّثر، أي من خلال روايات يُوقّعها عدد من الكتّاب المشهورين عالمياً، بهدف تقديم كلاسيكيات الشاعر في قوالب جديدة ومشوّقة تكون أقرب إلى اللّغة اليومية للقارئ المعاصر وذوقه واهتماماته. وفعلاً، صدرت ضمن هذا المشروع ستّ روايات حتى الآن، كان آخرها رواية "ماكبث" للكاتب النرويجي الشهير جو نيسبو، التي بدأ تسويقها عالمياً مستهلّ هذا الشهر.

"هوغارت شكسبير": تجديد الكلاسيكيات

لا أحد يجادل أن أعمال شكسبير ستظل خالدة، لأنّ أسرارها ما فتئت تنكشف على مرّ القرون، وسحرها يزداد جاذبية مع الوقت، ما دامت تعبّر عن المشاعر والسمات الإنسانية الأكثر أصالة: الحب، الغيرة، الانتقام، الحسد، الندم، السلطة، الكبرياء ..إلخ. ذلك أنّ شكسبير حين اختزل بعبقرية فريدة هذه المشاعر في أعماله جعل منها اللّبنات الأساسية لمسرحيات إنسانية عالمية، تتخطّى حدود بريطانيا لتخاطب الإنسان في كلّ مكان. لهذا، سيكون أقصى ما قد يطمح إليه المرء هو إعادة إصدارها في طبعات جديدة.

لكن، دار النشر البريطانية "بانغوين راندوم هاوس" كان لها رأي آخر. لقد فكرت منذ 2015 في إخراج شكسبير من مجاله الطبيعي، أي خشبة المسرح، وإلباسه لباساً حديثاً من خلال تحويل مسرحياته إلى روايات. وفعلاً تحقّق ذلك، حين تمّ اختيار ثمانية كتّاب مكرّسين ومشهورين عالمياً لإطلاق هذا المشروع، وصدرت بعض من هذه النسخ الجديدة في الفترة ما بين 2016 إلى 2018. وقد تكلّف كل واحد من هؤلاء بكتابة رواية بالاستناد واستلهام واحدة من مسرحيات شكسبير الرائعة. فاختارت جانيت وايترسن مسرحية (حكاية شتاء)، واختار هويارد جاكوبسون (تاجر البندقية)، ومارغريت آتوود (العاصفة)، وتريسي شوفاليي (عطيل)، وإدوارد ست. أوبين (الملك لير) ، آن تايلر (ترويض النمرة)،  وفضَّل جو نيسبو الاشتغال على مسرحية (ماكبث)، وهي آخر راوية تصدر عن هذا المشروع حتى الآن، بينما من المتوقّع أن تنضاف إلى هذه اللائحة رواية أخرى لجيليان فلاين مستلهمة من مأساة (هاملت)، ستصدر سنة 2021. واللّافت أن كل الكتاب ابتكروا عناوين جديدة لهذه المسرحيات، باستثناء جو نيسبو الذي احتفظ بالعنوان الأصلي "ماكبث".

مع ذلك، هناك في بريطانيا من انتقد دوافع المشروع وطريقة إخراجه بشكل عام، معتبراً أن مبادرات المنتجين السينمائيين أو الناشرين، التي تهدف إلى تقديم أعمال شكسبير في حلّة جديدة، لا تخلو عادة من جشع ورغبة في كسب المال على ظهر هذا الشاعر العظيم، ودليلهم أنّه سبق لتشارلز وماري لامب أن قدّما قصصاً نثرية تعيد صياغة هذه المسرحيات قبل 200 عام، لكنّها لم تنجح مثل النصوص الأصلية، لأنّ سرّ عبقرية شكسبير في نظرهم يكمن في لغته البديعة، الّتي ربما صارت معانيها وتعابيرها تستغلق أكثر فأكثر على الأجيال الجديدة، بسبب بعدها عن المناخ الأصلي وتطوّر أساليب تعلّم اللغة الإنكليزية الحديثة على مدى قرون.

"ماكبث" بصيغة جو نيسبو

قام الكاتب النرويجي الشهير جو نيسبو، المعروف عالمياً برواياته البوليسية الناجحة، بأكثر من إعادة كتابة "ماكبث": لقد أعاد صياغة مسرحية شكسبير سردياً في شكل رواية جديدة برؤية معاصرة وذات خصوصية لافتة، بحيث نقل الحبكة الاسكتلندية إلى مدينة ساحلية مجهولة الاسم على حافة الانهيار، يجتاحها الفقر وينخرها الفساد. هي مدينة بمثابة خشبة مسرحية، تحتضر تحت أمطار عاصفية قوية ومتواصلة، على النقيض من ال"فايف" المتألّق في الجهة المقابلة من النفق (الفناء) ومبنى الكابيتول الكبير (من جهة الحديقة). وعلى خطى شكسبير (حتّى لا نقول على منوال أسلوبه) يعيد جو نيسبو إخراج وإعادة اكتشاف صعود وتنامي مشاعر القتل واللّاجدوى عند ماكبث، مشاعر تحرّكها رغبة قوّية في الانتقام الاجتماعي، تدفعها إلى التحقّق معشوقته "اللّيدي"، زوجته ومديرة "كازينو إينفيرنس"، بعد أن تعب من انتظار دوره، فقرّر أن يأخذ زمام مصيره بين يديه.

عبر جرائم قتل متسلسلة وخيانات متتالية، شقّ ماكبث طريقه المفروش بالنّيات السيّئة: مستسلماً لتحذيرات ونبوءات الساحر هيكات - بارون المخدرات الغاضب من رؤية تجارته تتراجع بسبب الشرطي الفاسد دونكان - يدخل ماكبث في سباق لا رجعة فيه، فيقتل عرّابه، ويسحق أعداءه الواحد تلو الآخر، وتنقلب علاقاته بأصدقائه من التحالفات إلى الوعود الكاذبة، وكل ذلك بإيعاز من عشقه المحموم ل"الليدي" الّذي أوصله إلى الجنون. لكن جو نيسبو يقوم بأكثر من مجرّد نسخ المسرحية بالمعنى الحرفي، لأن إعادة كتابة العمل مضلّلة بشكل مقصود: فإذا كانت الشخصيات والحبكة والأحداث هي نفسها لدى شكسبير، فإن رواية ماكبث المعاصرة تقدّم نفسها مثل رواية بوليسية مثيرة، مرعبة وتقطع الأنفاس. فكاتب سلسلة "هاري هول" و"دم على الجليد" يتفنّن في الدفع بالتشويق إلى مستوى تقشعرّ فيه الأبدان من خلال اللّعب بالأجواء، في هذه المدينة التي تستنشق هواء الانهيار الصناعي الملوث، مع رموزها القديمة التي تذكّر بمجدٍ غابر، وقد صارت الآن أدلّة دامغة على هلاكٍ لا مفر منه. مدينةٌ بلا ضوء، حيث يدخل كبير المفتّشين ماكبث في حرب شخصية بالكامل تحت غطاء إرث الراحل القائد دونكان (الذي قتله أيضاً)، من أجل القضاء على الجريمة المنظمة (التي يحميها بحسب احتياجاته)، والانتقام من موت عرّابه (الذي كان يرعاه). وبعيداً عن مؤامرات المحكمة، وعلى الرغم من أنّ ماكبث صار هو القائد الفعلي، فهذا لم يمنعه من الغرق في المخدرات والانحدار نحو الجنون مثل بطل شكسبير الأصلي. بينما ستختار "الليدي" الانتحار، بعد أن سقطت في قبضة حالات من السرنمة والهلوسة.

تشابه بين "ماكبث" و"دم على الجليد"

في الطبعة الجديدة من "ماكبث" ستتضاعف نسبة التشويق، كما يحدث في أي رواية سوداء، بعد أن تمّ تحويلها وإعادة تجنيسها أدبياً ونقلها من المسرح الإليزابيثي إلى رواية بوليسية من روايات بلدان الشمال. لقد دفع جو نيسبو التناصّ مع مسرحية ماكبث إلى حدوده القصوى باستعادة أمينة لكثير من الجمل الشهيرة في المأساة الأصلية، رغم تميّز الكتابة والحساسية والأسلوب المعتمد من طرف الكاتب، من خلال صور عن حالة الطقس تمنح إيقاعاً خاصاً للنص، تقحم القارئ بسرعة في أجواء الرواية منذ الصفحات الأولى ولا تترك له فرصة للإحساس بالملل مع تتابع الأحداث، رغم أنها معروفة سلفاً.

هكذا، سوف تصير قطرات المطر المنهمر بلا انقطاع في رواية ماكبث (وهي الاستعارة المهيمنة في النص، مثل خيط أحمر تقريباً) صدى للثلج والبرد القارس في رواية "دم على الجليد". لدرجة أنه لو وضعنا في مرآة واحدة الجملتين الافتتاحيتين لكل رواية، قد نحصل على مدخل للعالم نفسه: "كان الثلج يرقص مثل قطن تحت ضوء مصباح الشارع. بلا اتجاه، لا يُعرف هل كان يريد أن يصعد أو ينزل، بعد أن ترك نفسه منقاداً للرياح الجليدية المخيفة التي هبّت من الظلمات الهائلة لمضيق أوسلو" (رواية "دم على الجليد") ، بينما نقرأ في مستهلّ رواية "ماكبث": "قطرة المطر اللّامعة وهي تسقط من السماء اخترقت الظّلمات نحو الأضواء المرتعشة للمدينة الساحلية".

لكن، بعيداً عن المظاهر الأسلوبية والشكلية، تُسائل رواية "ماكبث" قضية الإبداع بشكل أوسع: هل يمكننا إعادة كتابة ما سبق كتابته فعلاً؟ في الواقع، لم يتمّ تغيير أسماء الشخصيات الرئيسية، لقد ظلّت كما هي عند شكسبير، مع إضافات طفيفة، بحيث يمكن اعتبار تحديث المسرحية في إطار مشروع "هوغارت" السالف الذكر (على غرار ما قامت به الأفلام السينمائية والتلفزيونية وباقي الأعمال الأدبية) تحيّةً وتكريماً للنص الأصلي. ثمّ، على نطاق أوسع من ذلك، ألا يمكن اعتبار أنّ كلّ كتابة ما هي في الواقع سوى مجموع الكتابات التي سبقتها، مع كلّ التأثيرات المتراكمة، والاستلهامات الممكنة، أي أنّها ذاكرة النصوص التي سوف تغذّي النصوص اللاحقة؟

بالعودة إلى "ماكبث"، يمكن القول إن جو نيسبو خلق جسراً بين جنسين أدبيين، وبين عالمين مختلفين. قام بتفكيك شكسبير لكي يلقي ضوءاً على حداثة كانت موجودة بالفعل، حاضرة مسبقاً في المسرحية منذ أكثر من أربعة قرون، وهو لم يقم سوى بابتكار نصٍ موازٍ حقيقي، سيّما وأنّنا نعيش عصر ازدهار المسلسلات الخيالية على الإنترنت، تلك الّتي يسميها ماثيو لوتورنو "سلسلةُ قصص الخيال".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.