}
قراءات

"في الرواية" لإميل زولا: العمل يكمن في الإنسان (2-2)

أنس إبراهيم

24 أكتوبر 2018

إميل زولا (1840-1902) روائيّ وقاصّ وناقد ومنظّر فرنسيّ للكتابة الأدبيّة، ويعدّ رائد الرواية الطبيعيّة ومساهمًا في تطوير المسرح الطبيعي، ومن الشخصيّات الفرنسيّة الهامّة التي لعبت دورًا في المجالات السياسية في عصرها.

يجمع كتاب "في الرواية ومسائل أخرى" ("مشروع كلمة"، 2015)، من ترجمة حسين عجّة ومراجعة كاظم جهاد، العديد من المقالات التي كتبت في فترات متفاوتة ومتباعدة، لكن بمجموعها تقدّم ملخّصًا مكثّفًا عن زولا الناقد والمنظّر الأدبيّ.

ويتعرّض زولا، في مقالاته هذه، إلى العديد من المواضيع الأدبيّة، التي رافقت حركة عصره الأدبيّة وتلك التي أثّرت وساهمت في خلق هذه الحركة، حركة الرواية الطبيعيّة أو الانطباعيّة.

وانقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام، الأول "في الرواية"، واشتمل على مقالات تنظيريّة في الرواية الطبيعيّة ودراسات عن ستندال وفلوبير والأخوين غونكور. أمّا القسم الثاني فقد عالج المسرح الطبيعيّ، وكذلك اشتمل على نقد للمسرح الرومنطيقيّ عبر نقد فيكتور هوغو. وأخيرًا القسم الثالث بعنوان "الكاتب والعصر"، وقد ناقش زولا في مقالاته في هذا القسم قضايا عديدة اجتماعيّة وسياسيّة وثقافيّة تخصّ الكاتب، كقضيّة المال والعصر، والعمل الصحافيّ، والأدب الفاحش، كذلك بعض المقالات المتعلّقة بالأدب.

هنا القسم الثاني والأخير من قراءة في هذا الكتاب:

ستندال المحلّل النفسيّ

غير المنطقيّ

رأى زولا في ستندال محللًا نفسيًا في المقام الأوّل، محللًا لم يهتم بأيّ شيء آخر غير حياة الرّوح. وبالنسبة لستندال ما يشكل الإنسان هو الدّماغ ولا شيء آخر، وأمّا بقية الأعضاء فهي غير مهمّة بالضّرورة. وبطبيعة الحال، شمِلَ اهتمامه بالدماغ ما اعتقد أنّه يقتصر على الدماغ وحده، أي الانفعالات والطباع والعواطف، أي "في المادّة المفكّر بها والفاعلة". لم يكن يعتقد أنّ لبقية أجزاء الجسم أيّ تأثير ملموس على الدماغ، أو على الأقلّ لم يكن يبدو له أنّ هذا التأثير إن وجد قد يتمتع بالقوة والمكانة إلى الحدّ الذي يمكن أن يقلقه.

وبالإضافة إلى اهتمامه الحصريّ بالدماغ وحسب، لم يأخذ الوسط بعين الاعتبار، أي ذلك الذي تحضر فيه شخصيّاته. فالعالم الخارجيّ بالكاد موجود لديه، إذ تبدو شخصيّاته كأنّها ولدت دون بيت عاشت فيه، أو أزقّة مشت فيها، وأنّها مجرّدة إلى حدٍ لا يطاق. وباختصار، فإنّ صيغة ستندال الروائية كما يصفها زولا هي: "دراسة آليّات الروح لما تتمتّع به من إثارة. هي دراسة فلسفية ومعنويّة محضة للإنسان، منظورًا إليه عبر ملكاته العقلية والانفعاليّة وحدها، ومعزولًا عن الطبيعة".

في الولع بالتحليل النفسيّ

يُمعِنُ زولا النّظر في ميكانيزمات الكتابة لدى ستندال؛ فهو يعتقد أنّ تفوّق ستندال الحقيقيّ يكمن في ولعه بالتحليل النفسيّ إلى حدّ الهوس، إذ ينبغي رؤية ستندال وهو ينطلق من فكرة ما، وتظهر هذه الفكرة تفتّح مجموعة أفكار أخرى تتوالد منها أفكار أخرى وأخرى تتعقّد بصورة مشتركة وتحلُّ بعضها البعض. ويجد ستندال متعته في هذه التعقيدات الفكريّة والنفسيّة لشخوصه، يفتح في كلّ لحظة عقل شخصيّته متوغّلًا به إلى أعماقه ليتمكّن من الإمساك بآليات الروح وعملها ويتيقّن من معرفته بها.

تعرض له فكرة، وإذا بالعجلة تعطي إشارة تحرّك نوابض أخرى، ثمّ فكرة أخرى، وثمّ فكرة أخرى، تنتظم العديد من النوابض، والعديد من العجلات، حتى تخلق عملًا منتظمًا ومكتملًا، ينتهي بإظهار الروح برمّتها وهي تعمل، بكلّ ما فيها من ملكات وعواطف وأهواء. تولد الشخصيّات من هذا التحليل المتواصل. ويقود ستندال المنطقيّ شخصيّاته بصرامة تامّة في وسط هذا العمل الدّائم الحركة. وكلّ طبع يخلقه في أحد شخوصه هو "بمثابة تجربة نفسانيّة يغامر بإجرائها على الإنسان. إنّه يقوم بابتداع روح بعواطفها وانفعالاتها الخاصّة، ثم يلقي بعدد من الأحداث ويكتفي بملاحظة اشتغال تلك الروح، وسط ظروف بعينها". لا يمثّل ستندال بالنسبة لزولا مراقبًا ينطلق من معاينته كي يصل إلى الحقيقة بفضل المنطق، بل هو منطقّي ينطلق من المنطق وغالبًا ما يصل إلى الحقيقة بتخطّيه المعاينة. إذ يبقى ستندال في مكتبه كمثل فيلسوف، يحرّك أفكاره، ولا يتناول من الإنسان غير رأسه وهو يجسّ كل نبضة من دماغه. هكذا يتخطّى الواقع ومعاينة الواقع ليصل إلى الحقيقة، الحقيقة التي يريد هو إنشاءها. فهو لا يكتب رواية حتى يحلل زاوية بعينها من الواقع، بما فيها من كائنات وأشياء، بل هو يكتبها حتى يطبّق نظرياته عن الحب، وحتى يطبّق نسقه النظريّ الخاصّ عن تشكّل الأفكار.

إنسان القرن الثامن عشر
وإنسان 
القرن التاسع عشر

يقرأ زولا روايات ستندال، ويتوقّف عند منتصف العمل ويقول لنفسه: "إنّ كلّ شخوص ستندال يبدون مصابين بالصداع، لكثرة ما يشتغل على أدمغتهم. عندما أقرأه أتألّم من أجلهم، وغالبًا ما تأخذني الرغبة في الصراخ بوجهه: من فضلك أتركهم هادئين قليلًا، ولتدعهم يعيشون أحيانًا ببساطة كالبهائم، في لحظة اندفاع الغريزة فحسب، وسط الطبيعة المعافاة؛ ولتكن أنت أيضًا بهيمة بينهم كما يليق برجل شجاع".

ذلك هو جوهر نقد زولا لستندال؛ فهو ينكر "العالي والواطئ، عند الإنسان"، كما يصوّره ستندال في رواياته. وينكر فكرة أنّ الروح في الأعلى والجسد في الأسفل. إذ لا يمكن تخيّل الروح دون جسد، بل هما في المكان ذاته. فإذا بُتِرَ الجسد، وإذا لم تؤخذ الفيزيولوجيا بعين الاعتبار، ضاعت الحقيقة. لم يعد بطل الرواية الطبيعيّة مجرّد عقل محض، أي كإنسان القرن الثامن عشر التجريديّ، وإنما هو فاعل فيزيولوجيّ، كائن مركّب من أعضاء ومنغمس في وسط يخترقه في كلّ لحظة. ولذلك يجب أخذ هذا التكوين الفيزيولوجيّ بالإضافة إلى العالم الخارجيّ بعين الاعتبار عند الكتابة. والوصف يجب ألّا يكون إلّا تكملة ضروريّة للتحليل؛ مع افتراض أساسيّ يقول إنّ جميع الحواسّ تؤثر على الروح، وفي كلّ حركة من حركاتها، أي الروح، تكون مدفوعة إلى التعجّل أو التباطؤ من قبل النظر والشمّ والسمع والذوق واللمس. وببساطة، أن نتصوّر روحًا معزولة تتحرّك وحدها في الفراغ، ذلك ما سيكون زيفًا، مجرّد آليّة بسيكولوجيّة وليس الحياة.

إلّا أنّ عبقريّة ستندال التي يعترف بها زولا تكمن في قوّة الحقيقة التي يتوصّل إليها بفضل تحليله السيكولوجيّ، وإن كانت تفتقر إلى الاكتمال ودائمة التوتّر. فرواياته هي أعمال منبثقة من الرأس، ومن الإنسانيّة وقد استحالت عنده إلى جوهر ثابت بفعل نهج فلسفيّ شديد الصرامة. إنّه يرى العالم جيّدًا، لكنّه لا يستحضره في مجراه الواقعيّ، بل يخضعه لنظريّاته ويصوّره عبر تصوّراته الاجتماعيّة الخاصّة. ويحصل أن يصل هذا المحلل النفسيّ المتعالي، كما يصفه زولا، إلى حقائق جسورة متفوّقة، لم يجرؤ على مثلها، في الرواية، أحد قبله.

وأخيرًا، يكتب زولا عن ستندال: "إنّه كبلزاك، أبونا جميعًا، لأنّه جاء لنا بالتحليل، ولأنّه كان متفرّدًا وقراءته ممتعة، لكن كانت تعوزه بساطة الروائيين المتمكّنين. إن الحياة أبسط من ذلك".

فلوبير... تلك الرواية الخالدة

لكن يبقى غوستاف فلوبير أبًا لحركة أدبيّة كاملة، وملهمًا خالدًا لزولا ورفاقه من روائيي الطبيعة الجدد. لكنّه أب ينكرُ أبوّته، وعبثًا حاول أن ينسب نفسه إلى الرومنطيقيّة ولطالما كره كلام زولا عن "مدام بوفاري"، بوصفها رواية العصر الأدبيّ الجديد.

عند ظهور "مدام بوفاري"، أحسّ زولا ورفاقه بأنّها علامة على تطوّر أدبيّ كامل. وبدا لهم أنّ صيغة الرواية الحديثة، المبعثرة في عمل بلزاك، قد تمّ تكثيفها والإعلان عنها بوضوح في كتاب من أربعمئة صفحة. "لقد اكتملت صياغة قانون الفن الروائيّ الجديد"، عندما انتهى فلوبير من وضع لمساته الأخيرة على روايته الخالدة. ولم يبق أمام أيّ روائيّ سوى انتهاج ذلك الدرب، وإثبات شخصيّته والسعي من أجل الوصول إلى كشوف خاصّة به؛ "لقد قال فلوبير الكلمة الحقيقيّة والصحيحة التي كان ينتظرها الجميع".

إنّ أولى سمات الرواية الطبيعيّة، التي جسّدتها "مدام بوفاري"، هي إعادة إنتاج الحياة بدقّة، وغياب كلّ عنصر رومانسيّ. صار التأليف مقتصرًا على اختيار المشاهد وتطويرها ضمن نسق معيّن. فالمشاهد تعرض نفسها أوّلًا، ويكون على الروائيّ فقط انتقاءها وموازنتها بطريقة تجعل من عمله "صرحًا فنّيًا وعلميًا أيضًا".

"إنّها الحياة ذاتها، لكنّها موضوعة في قالب رائع. يُستبعَدُ إذًا منها كلّ اختراع خارق للعادة. فلا نعود نلتقي فيها بأطفال موسومين منذ ولادتهم بعلامة ما، نضيّعهم ثمّ نعاود العثور عليهم في خاتمة العمل. كما لم تعد المسألة مسألة أثاث ذا أسرار، ولا أوراق يتمّ استخدامها في اللحظة المناسبة من أجل إنقاذ أبرياء ملاحقين. ويمكننا القول إنّها تخلو من كلّ عقدة، مهما تكن بساطتها. فالرواية تواصل مجراها قدمًا، تعيش الأشياء يومًا بيوم، دون أن تخبئ لنا أيّة مفاجأة، وأكثر ما يمكن أن تقدّمه هو مادّةُ حادثة عادية، وحينما تدرك خاتمتها، يشعر المرء وكأنّه ترك الشارع لكي يعود إلى داره".

لم يكتب زولا في مقالاته النقديّة وصفًا أجمل من وصفه لـ"مدام بوفاري"، أو حتى وصفه وكلامه عن غوستاف فلوبير الإنسان. وليس ذلك عائدًا إلى الصداقة التي جمعت بين الرجلين، والتي مكّنت زولا من أن يطبّق ما كتبه من قبل حول جوهر النقد الحديث ألا وهو أن "العمل يكمن في الإنسان"، بل بسبب من أعمال فلوبير الأدبيّة نفسها، تلك التي وضعت "الكلمة الحقيقيّة والصحيحة التي كان ينتظرها الجميع".

وأمّا السمة الثانية للرواية الحديثة، فهي أنّه لم يعد هناك عمالقة وأقزام أو أبطال يتحتّم على الروائيّ قتلهم في نهاية الرواية. تتضاءل الشخوص البسيطة وتقف في المستوى الذي تنتمي إليه في الرواية الحديثة. فحينما تسيطر الرغبة بكتابة عمل حقيقيّ، يصبح هذا العمل محضَرًا متوازنًا ومتطابقًا واقعيًا مع مغامرة ما. فعندما يتمتّع الروائيّ بأذن مرهفة، سوف تعلن الصفحة الأولى عن نغمة الصفحات اللاحقة، ثمّ تسود نبرة متناغمة، لا يُسمَحُ بصعودها أعلى من المتوقع دون التسبّب بشيوع النشاز في العمل. "لقد أردنا أن نصوّر مجرى الحياة العاديّة، فلنبقَ فيه إذًا"، إذ لم يعد جمال العمل يكمن في تضخيم الشخصيّة، التي لا تكون مجرّد شخصيّة طمّاعة أو شرهة، بل تصبحُ هي الشّراهة نفسها، والطّمع نفسه، بل الجمال يكمن "في حقيقة الوثيقة الإنسانيّة التي لا تقبل الجدال، وفي الواقعية المطلقة في التصوير، الذي يحتلُّ فيه كلّ شيء مكانه الخاصّ".

وليست الرواية الطبيعيّة بنموذجيّتها ومعياريّتها هي ما موضعت فلوبير، بل أعادت موضعة الروائيّ نفسه في الرواية الحديثة، وتلك هي سمة الرواية الطبيعيّة الثالثة، إذ يتظاهر الروائيّ الطبيعيّ بالاختفاء كلّيًا وراء الفعل الذي يقوم بسرده. إنّه كالمخرج محتجب للمأساة أو الحبكة المسرودة. ولا يكشف عن نفسه أبدًا في نهاية العبارات. ولا يُسمَعُ يضحَكُ أو يبكي مع شخوصه، كما أنّه لا يخوّل نفسه الحكم عليهم؛ إنّه ليس واعظًا أخلاقيًا، بل هو المشرّح الذي يكتفي بالنطق بما عثر عليه في الجثّة الإنسانيّة، وللقرّاء أن يخرجوا بما شاؤوا من استنتاجات أخلاقيّة وغير أخلاقيّة.

شهور من أجل مفردة واحدة

".. لا تشكّل الدفعة الأولى سوى مسوّدة، يعمل عليها فيما بعد لأسابيع. فهو يريد أن تخرج الصفحة من بين يديه أشبه ما تكون بكتلة مرمر، منقوشة إلى الأبد، بنقاء مطلق، وتقف ثابتة أمام العصور. هذا الحلم، هذا العذاب، هذه الحاجة التي تجعله يعترض على كلّ فاصلة، وطوال شهور لا يكفّ عن الدوران حول مفردة غير صالحة، حتى يعثر، بسعادة المنتصر، على الكلمة المناسبة لتحلّ مكانها".

كرّس فلوبير نفسه لعمله كما يفعل راهب بنديكتيّ، في حياة منظّمة بدقّة، تقوم على طقوسٍ يوميّة شديدة الصرامة. لم يكن ينطلق في عمله إلّا من ملاحظات دقيقة، كان قد تحقّق من صحّتها. فإذا كان عليه أن يبحث في مؤلّفات مخصوصة، أرغم نفسه على قضاء أسابيع في المكتبات العامّة، حتى يعثر على المعلومة المطلوبة؛ "فمن أجل كتابة عشر صفحات مكرّسة، مثلًا، لمشهد روائيّ يضع فيه بضعة مزارعين، لن يتراجع أمام الضجر الذي قد ينتج عن قراءة عشرين مجلّدًا أو أكثر تعالج الموضوع".

وحتى يكتب الفصل الأوّل من روايته "التربية العاطفية"، المتمثّل في رحلة عبر مركب بخاريّ على نهر السين من باريس وحتى مونترو، كان على فلوبير أن يقتفي مسار النهر بأكمله، في عربة يجرّها حصان، إذ لم تعد هناك مراكب بخاريّة منذ وقت طويل. وإن كان ما يودّ كتابته أفقًا خياليًا، لم يكن يهدأ إلّا بعد أن يكون قد اكتشف موضعًا ما من المنطقة يعطيه تقريبًا الانطباع ذاته الذي حلم به. هكذا يتوصل عنده، بالنسبة لأدنى التفاصيل، الهمّ الواقعيّ نفسه في الكتابة. فكتابة صفحة واحدة مخصصة لوصف الملابس، أو بعض الوقائع التاريخيّة، أو مسائل فنّية كالديكور، تأخذ منه أيامًا كاملة لدراستها، وكتاب واحد يكفي لجعله يقلب العالم برمّته بحثًا عنه.

في "مدام بوفاري" استخدم المعاينات التي قام بها في شبابه لمنطقة النورماندي والناس الذين التقى بهم خلال سنواته الثلاثين الأولى، ولكتابة "التربية العاطفية" لجأ إلى فحص تاريخ فرنسا السياسيّ والأخلاقيّ كلّه، ثمّ لخّص تلك المواد الضخمة التي نتجت عن بحثه في صفحات بسيطة هنا وهناك. ولكي يكتب "سالامبو" و"تجربة القديس أنطونيوس" قام بالسفر إلى أفريقيا والشرق، مرغمًا نفسه على دراسة التاريخ القديم بدقّة هائلة وهو ينفض الغبار عن عصور قديمة.

إنّ هذا الوعي هو الملمح الأساسيُّ في عمل فلوبير والخاصّ بموهبته الفريدة. لم يكن يريد أن يدين لمخيّلته بأيّ شيء. لا يعمل إلّا على المادّة الموضوعة أمامه. لا يضحّي بأيّة مفردة لإلحاح اللحظة؛ بل يجب أن يكون مسنودًا من كلّ مكان، وإلى أن يضع قدميه على أرضيّة يعرفها بعمق، يشرع بالكتابة كـ"سيّد في بلاد احتلّها". تدفعه رغبته المتوقّدة إلى الكمال بالنسبة إلى هذه النزعة الأدبيّة في العمل، رغبته التي تشكّل شخصيّته كلّها. يرفض أيّ خطأ مهما كان صغيرًا. يشعر بالحاجة إلى أن يكون عمله مضبوطًا بأكمله، كاملًا ونهائيًا. كان يكفي خطأ واحد حتى يجعله تعيسًا، لا يكفّ عن تأنيب نفسه وتعذيب ضميره كأنّه قد ارتكب خطيئة ما. ولا يهدأ إلّا عندما يكون مقتنعًا بالحقيقة الدقيقة لكلّ التفاصيل التي ينطوي عليها عمله. ذلك ما يشكّل عنده يقينًا، وكمالًا يستريح فيه؛ "فعن كلّ شيء، كان يرغب في قول الكلمة النهائية".

من المحتّم بعد ذلك أن يكون فلوبير بطيئًا. وذلك النهج الصارم من العمل كان لا بدّ أن تتمخّض عنه أربعة أعمال فقط، وهي التي ظهرت في فترات متباعدة جدًا: "مدام بوفاري" 1856، و"سالامبو" 1862، و"التربية العاطفية" 1869، و"تجربة القديس أنطونيوس" 1871.

شاعر يتمتّع

بدم بارد

عند الحديث عن فلوبير يحضر الطّموح القويّ إلى صنع عمل خالد، وإلى فكرة الأبديّة، والكمال إلى حدّ الهوس المرضيّ. ومدفوعًا بهوسه المرضيّ يتعقّب المفردات المكرّرة على مسافة ثلاثة أو أربعين سطرًا، يتألّم إلى ما لا نهاية لتجنّب التكرار، والمقاطع اللفظيّة التي تتضمّن نوعا من الخشونة. يستبعد المفردات المسجوعة، ونهاية الجمل التي تحمل الصوت ذاته؛ إذ في نظره لا شيء أكثر من ذلك يفسد نصًّا ذا أسلوب. غالبًا ما سمعه زولا يقول إنّ صفحة واحدة من النثر الجميل هي أكثر استعصاءً على الكتابة من صفحة من الأبيات الشعريّة الجميلة. فالنثر بطبيعته له حوافّ رخوة، على حدّ تعبير زولا، وميوعة تجعل من الصعب صبّه في قالبٍ صلب. وفلوبير يريد له أن يكون صلبًا كالنحاس، وبرّاقًا كالذهب.

إلّا أنّ تلك حياة قاسية على الروائيّ أن يعيشها، ونموذج فلوبير نفسه نموذج خطير جدًا لا ينبغي الاحتذاء به أبدًا، كما يحذّر زولا. فالدخول في مواجهة وصراع دائم مع اللّغة إلى حدّ الهوس قد يصل بصاحبه إلى حدود الخوف من اللغة نفسها. تصبح الكلمات مرعبة، ولا يعود بمقدور الروائيّ أن يعرف أيّ منها عليه أن يستعمل أو يستبعد، يأخذ بالتراجع أمام كلّ التعابير، ويصل لحدّ الشلل الكامل. فالتوتّر المستمرّ للعقل، والمعاينة القاسية لكلّ انحرافات القلم، تنتهي لدى العقول الضيّقة بشلّ الإنتاج وتعطيل انطلاقة الشخصيّة. وذلك ما مثّله فلوبير أيّما تمثيل. كان حلمه هو ألّا يكتب إلّا كتابًا واحدًا، وغالبًا ما كان يردّد أنّ كلّ إنسان لا ينطوي إلّا على كتاب واحد.

إنّ كلّ جهده ينصبُّ على رغبته في أن يكون مقتضبًا وكاملًا. ففي مشهد ما يكتفي بالإشارة إلى الخطّ واللّون الأساسيين، لكنّه يريدهما أن يصوّرا المشهد بأكمله. والأمر ذاته ينطبق على شخصيّاته. فهو يجعلها تنتصب بكلمة واحدة أو حركة واحدة. وبقدر ما تقدّم في عمله، تتضاعف رغبته في إخضاع صيغته الأدبيّة إلى مزيد من الاقتضاب وإلى نوع من الحساب الجبريّ. يحرص على إخفاء الأفعال الثانويّة. يتحرّك من طرف إلى آخر من كتابه، من دون أن يرتدّ ثانية على عقبيه. يخطو بوضوح، بخطوات إيقاعيّة خالية من الاهتزازات والتي من الممكن أن تفضح وجوده في داخل النصّ، الوجود الذي كان يحرص على إخفائه طوال الوقت.

إلّا أنّ فلوبير هو شاعر غنائيّ في المقابل، فهو قد ولد في صميم المرحلة الرومنطيقيّة، وكان في الخامسة عشرة من العمر عندما كان فيكتور هوغو في ذروة نجاحه. وكان متحمّسًا لتلك الكوكبة التي تألّقت في عام 1830، واحتفظ لنفسه بالتوقّد الغنائيّ للحقبة الشعريّة التي اجتازها. وفيما بعد أدرك أنّه رسّام رائع للحماقة والقبح الإنسانيين، وظلّت هذه الثنائيّة عالقة في داخله، بين الغنائيّ وبين الناثر المدقّق صاحب "التربية العاطفيّة" الشديد الصرامة. ومن قلب هذه الثنائية انبثقت موهبة غوستاف فلوبير، إذ حالما يكون هناك مكان للغنائيّة تنطلق في مكان ما من أعماله، وهي هناك جنبًا إلى جنب مع الروائيّ، تطالب من حين إلى آخر بحقوقها، لكنّها من الحكمة بحيث تعرف كيف تخفت وكيف تنطلق في الوقت المناسب؛ "من هذه الطبيعة المزدوجة، من هذه الحاجة المتوقّدة للشعر وللمعاينة الباردة، انبثقت موهبة غوستاف فلوبير.. وسأصفه بأنّه شاعر يتمتّع بدم بارد يمكّنه من الرؤية الصحيحة".

*كاتب فلسطيني- رام الله

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.