}
قراءات

"نساء بلا أثر": حفر الجسد وبتر الاجتماع

علي جازو

6 يناير 2018

ليس سهلاً عرضُ رواية مكثفة وطويلة نسبياً في مقال قصير. رواية هي لقاءٌ سخيٌّ بين فنون عديدة، منها السينما والرسم والشعر وتأويل الوقائع أحلاماً ورؤىً.

لا يُخضع محمد أبي سمرا شخصياته إلى تراتبية تفصل بين ميولهم وآرائهم وعيشهم اليومي، بل يترك "ماريان" في روايته الأخيرة "نساء بلا أثر" (283 صفحة، دار رياض الريس)، بلا أي قيدٍ، وهي بذلك تكون اجتماعَ نَفْسها الحقيقيّة.

الروائي والصحافي اللبناني، صاحب "سكان الصور" و"الرجل السابق" و"موت الأبد السوري"، في تتبّعه حياة ماريان من لبنان إلى فرنسا، مروراً بأميركا، بعدما بلغت الستين، إنما ينقل حديثها مع نفسها، عبر كلماتٍ ملتصقة بأفكارها، وخارجة من جسدٍ يتذكَّرُ، على مثالٍ قريبٍ مما رآه الأيرلندي وليام بيتر ييتس أن "الشعر وعي الجسد".

الكلامُ والأفكارُ، من جهة، والجسد والذاكرة، من جهة أخرى، تتمازج مع أحداثٍ وحواراتٍ، وشخوص تُستعادُ على نحوٍ يتداخل فيه الحاضر بالماضي تداخلَ الصور والمشاعر مع الجسد الذي يبدو محور الرواية ومخبأها ومصفاتها.

التذكّر غير الحنين، وماريان لا تشكو ماضي حياتها ولا تحنّ إليه، قدر ما تستعيده، وتتقصّى تحولاته في نفسها وجسمها. إذ عاشت الرسامة الأرمنية اللبنانية في بيروت، نابذة منشأها التقليدي، وخالطت خلية مثقفي الحزب الشيوعي، مجرّبةً ولا مبالية ومُقهقهة، كما عملت مُدرّسة في معهد الفنون أثناء الحرب الأهلية.

 

تكثّفُ الرواية سيراً فردية لنساءٍ عديدات، منهن والدة ماريان وصديقتها "عذراء الشهداء"، الصحافية التي شاركتها مراسم توديع شهداء الحزب والعمل في المرسم الحزبي، وأخيراً سارة اللبنانية الجنوبية "زينب فرساي"، ومقتل شقيقها في سورية، مع سيرتها طفلةً في دمشق وزوجةً سرية قاصراً في جنوب لبنان، ثم زوجة علنية لشيوعي كحولي، إلى حين تعارفهما، سارة وماريان في فرنسا مصادفةً، تعيد الأخيرة إلى بيروت، بعد غياب ثلاثين سنة.

إذا كان الحنين يشي بنوع من حضور الفقد والندم والحزن، واستعادة تبجيلية واهية للماضي، فإن ماريان تحوّل التذكّرَ إلى فعلِ قوة ذاتية خالصٍ، من دون ادعاء ولا تعالٍ. 

بوصف دقيق للمكان، حيث كانت تمارس رياضة المشي في الحديقة، إلى حين عودتها وجلوسها في بيتها، مضيئة شمعتها الستين، وعلى وتيرة بطيئة وبعينٍ سينمائية ضامّة مشاهدَ من يومياتها الراهنة، وسنواتها الماضية، تخرج صورٌ من قلب صور وأطرافها، ويتموج الزمنُ ما بينها تموّجَ الذاكرة.

لا تخلو الرواية من كوابيس واعترافات تتلاقى على وتيرة ساخرة مريرة، وتستعيد حروب لبنان حتى يومنا الراهن على وقع الكارثة السورية، كما نلمس تحولات طريفة، في مناخ سوداوي هازئ من رجال جاوروا واختلطوا وعاشروا نساءً هن صديقات ماريان على وجهٍ من الوجوه.

تكمن قيمة الرواية في بُعدها عن "تأديب" الواقع، إذ لا يأتي على هيئة أدبية متعالية، ولا بنبرة وعظية هي بالضد منها، إنما بلغة تخالط اليوميّ النافل والحدثيَّ الحميم والتخيليَّ الذي يعيد ربط الزمن والحدث معاً، لتمزجه كلّه بعضاً ببعض. لغة بطيئة ملموسة، عضوية، تعتمد تسجيلاً توثيقياً ذا بعد بصري لافت. كما أن السرد يتجذر من داخل الشخصيات ليتفرع إلى خارجها وحولها، فتبدو الوقائع شجريَّةً متشابكةً ومتزامنةً رغم بُعدها الزمني وتناثرها المكاني والحيز الاجتماعي المترامي الذي تستغرقه وتتقصاه. كذلك فإن ماريان الراوِيةَ والرسّامةَ تتعقّب مشاهد سردية تصويرية، بعضها من لوحاتٍ لها تناولت بيئتها وأصدقاءها وصديقاتها، وأخرى من منامات ورؤى مزيجة الحقيقة والخيال، تعيد بها تركيب الأحداث لتغدو أقرب إلى عمارة بانورامية شخصية وعامة في آن. تجمع هذه العمارة الأشياء والبشر والحوادث والأفكار والقصائد والأغاني واليوميات. ولعلَّ في هذا البُعدِ - على صلته الوثيقة بالتّقصّي والتتبع وحسّ المراقبة والنظر العياني - الرَّحِميّ التناسلي المتداخل بين مدن وأمكنة وبشر وتواريخ، تبرز آثار الجمودُ الأهلي ولهاثه وآفاته التي تكاد في نهاياتها تكون أقرب إلى كوميديا خانقة، ترافقها ايروتيكا كابوسية.

تقرن "نساء بلا أثر" الجسد بالكابوس والمتعة المتخيلة بعزلة تجرّدُ الواقع من حيويته وانفتاحه الدعيّين، ليست غاية ماريان فيهما (الكابوس والمتعة) تبجيل شيء ولا تبريره، قدر ما هي تظهيرٌ شديدٌ الحسيّة لتجارب عايشتها واختبرتها. فالرواية سجّلٌ قرينٌ، وحفرٌ نفسيٌّ أسودُ لــــ"عزلات ماريان البيضاء" بداية مراهقتها وشبابها إلى حين راهِنِها أخيراً امرأةً ستينيةً. كما أنها ساخرةً هازئة، تتجاوز سمتها الشهوانية والجنسية المحض محوّلة إياها إلى سبرٍ اجتماعي تكتشف فيه النساء أنفسهن ومتعهن وأزماتهن. ومن خلال بلوى النساء هذه، إذا صحت العبارة، يُحرَّك جزءٌ راكدٌ من ماضي دمشق وبيروت واختلاطهما الدموي المشترك، كما يُبرز الفصلُ الكاذبُ بين السياسة والدين والعنف، وبين المجتمع الخلو من السياسة والسياسة الخالية من الناس. وهذا الماضي وشماً لا يمّحي ما هو سوى مرآةٍ على حال مجتمعٍ مهترئ عنيفٍ منافقٍ ومزيف.    

يبقى الرابطُ بين البداية، عيد ميلاد ماريان، بالنهاية زيارةً للمقبرة حيث دُفنت آخر نسائها البلا أثر، رابطاً تصويرياً استعادياً، على حال ما يكون الرسمُ والسينما تركيباً دامجاً وإحلالاً يدغم الزمن في أحشاء الزمن، فعبور الأعمار الشبحيّة الطيفية لنساء الرواية وتحولاتهن إنما هو طوافٌ ليلي لولبي مضفور التقاطع، وما تفعله ماريان ليس سوى فرار أخير، ولعل إقلاع الطائرة في ختام الرواية مغادرةً بيروت ومعيدة ماريان إلى وحدتها، مثالٌ حاسمٌ عن بتر الصلة بالمدينة وناسها وسهراتها ومقابرها.

يبقى الجامع بين كل هذه التحولات والسير، المتصلة المنفصلة، حفراً في أرض ذاكرة نساء عديدات وضمّها إلى أحداث راهنة، نوعاً من تأملٍ غريزي ونسج عضويٍّ وعرٍ لا يخلو من سخرية وسبر اجتماعيين، واعترافاتٍ وسير ذاتية عن حال أفراد وجماعات وأفكار وأحزاب، على وقع تداخل مصائر ومصادفات، لا تمنع ماريان جريانها العابث قدر ما تسخر منها مقهقهةً.

 

ماريان في "نساء بلا أثر" واحدة منهنّ وخارجة عنهنّ، وهي في وحدتها وخروجها، تصل ما انقطع من سيرٍ وتناثر من وقائع، وعبر الجمع والتشريح تقوم بما يقوم به طبيبٌ يعاين جثة، إذا قبلنا الماضي وسبْيَهُ الحاضرَ قتلاً للزمن. ومع ذلك، فإنها لا تشكو، قدر ما تضعنا على لسانها وصورها، وعبر جسدها وذاكرتها وتهيؤاتها، داخل دوّامةٍ فاتنة، ظلت تقابلها بالهزء والقهقهة من دون انقطاع.    

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.