}
قراءات

النصوص الموازية في ترجمات القرآن

محمود عبد الغني

10 يناير 2018

البسملة مرجعية أصلية ونصّاً موازياً

تطرح الترجمة الدينية، أو ترجمة النصوص الدينية، عدّة أسئلة، تختلف وتتطابق مع أنماط أخرى من الترجمة: الترجمة العلمية، الترجمة الأدبية.. لكن الترجمة الدينية تؤطّر أسئلة مختلفة عن أصناف الترجمات الأخرى التي تنقل كلام المؤلف، فيما الترجمة الدينية، في عمومها، تنقل كلام الله. وقد يتجاوز تأطير الأسئلة مسائل المضمون واللغة والأمانة والوفاء في نقل كلام الله إلى ألسنة أخرى، إلى قضايا مختلفة، أدبية خالصة، مثل التي تطرحها الباحثة المغربية سناء سميّج في كتابها "النص الموازي في ترجمات القرآن: من الغلاف إلى التقديم" باللغة الفرنسية (آفاق، 2017). يبرز طموح الكاتب واضحاً: دراسة ترجمات القرآن من زاوية نظر كثيراً ما دُرس الموضوع من خلالها، لكن بنقص في التحليل والاستقصاء بنظر نقدي موجّه إلى شكل الإخراج والهيئة. فقد ظلت تلك الترجمات الكثيرة موضوع نظر في ذاتها وبالمقارنة مع المعطيات المبثوثة في المقدمات والنقط والهوامش التي تمت معالجتها في استقلال عن النص، أو باعتبارها هي نفسها نصّاً. لكن بقيت غائبة مسألة دراسة ترجمات القرآن ضمن "كلية دالّة".

اعتبرت الباحثة أن "البسملة" مثال غني بالدلالات. فالقرآن، سواء في حالة القراءة، الترتيل أو الكتابة، يُنظر إليه دائماً باعتباره نصّاً تشكّل فيه الجملة الافتتاحية أو البسملة: "بسم الله الرحمن الرحيم" توطئة خاصة للنص المقدّس. فهي تؤدّي، منذ التجلّي الشفهي لهذا النص، وظيفة تهيئ المقرئ والمستمع إلى الإنصات والتأمّل بتوجيه تلقيهما. وهذا الطابع التمهيدي، كما ترى الباحثة، يمنح للبسملة حقيقة مرجعية أصلية ندائية تثير انتباه المتلقي، وهو ما يمنحها صفة النص الموازي. إن الانتقال من تلاوة القرآن إلى النص المكتوب، أعطى لهذه الجملة القرآنية صفة افتتاح كل السور القرآنية باستثناء سورة "التوبة". وقد برّر الدارسون هذا الغياب لأنها أعلنت نهاية السلم بين المسلمين والمشركين، فيما رأى بعضهم أنها استمرار للسورة رقم 8. هكذا أصبح من الصعب الفصل بين النص القرآني وبين البسملة باعتبارها نصّاً موازياً. وبعد تدوينها في العربية، ثم ترجمتها إلى لغات أخرى، انتقلت إلى الغلاف وأصبحت عنصراً ماديّاً يشكّل الكتاب وليس النص. لقد أصبحت البسملة، الجملة التي استعيرت من النص، والعنصر النصي الموازي، عتبة يتمّ اقتطاعها أحياناً من الصفحة الأولى من الكتاب، وبذلك تسمح بوضع النص في مكان مخصّص للنص الموازي. والنتيجة هي البدء في قراءة الترجمات انطلاقاً من الغلاف. وذلك يذكرنا باستنتاج لجيرار جينيت: "إذا لم يصبح "النص الموازي" هو النص بعد، فإنه قبل ذلك جزء من النص". (1982). 

ترجمة القرآن: ميثاق جديد للقراءة

الكثافة السيميائية للقرآن وأسلوبه متعدد المعاني وبلاغته كلها بنيات أنتجت أحياناً تفسيرات متناقضة، تاركة القارئ، في بعض الحالات، يختار معنى عن آخر. وهو أمر يتطلّب منه قراءة تنتقل من مرحلة الفهم إلى مرحلة التأمّل. والصعوبة التي يجدها عالم الدين هي نفسها التي تعترض كل قارئ، خصوصاً مترجم القرآن الذي لا يستطيع سوى عبور نفس الطريق والتوقّف في نفس المراحل. فهذا الأخير يجد نفسه أمام لغة أصلية تحتوي على فيض من الدلالات وعلى أوجه أسلوبية من الصعب استعادة معانيها الأولى، وهي مهمّة لا يمكن أن تتمّ من دون إغفال المعاني الخفية. انطلاقاً من هذه النقطة، يكون من الضرورة بالنسبة لهذا المترجم تسجيل ملاحظات في الهوامش أو في المقدمة على شكل محاور بدت له مهمّة من أجل تسهيل الولوج إلى النص للقارئ في لغة أخرى. تؤكد الكاتبة أنه هكذا نستطيع الحديث عن أحد الأسباب الكامنة وراء ولادة نص موازٍ لترجمات القرآن يمكنه أن يسهّل فهمه واستيعابه من طرف القارئ غير العربي. الأمر الذي يفسّر كثرة الشروح التوضيحية مثل النصوص التقديمية التي تلعب دور المرشد وسيرة النبي التي تؤطّر السياق التاريخي والثقافي للوحي. وهذه الشروح تثير اهتمام القارئ بشكل سريع. هكذا يبدأ النص الموازي لترجمات أي نص مقدّس في اتخاذ طابع الأهمية بالنسبة للمترجم، الناشر والقارئ. وما إن يغادر النص المترجم يدي المترجم، تباشر دار النشر عملية الطبع. إن مهمة المترجم تقترن بمهمة الناشر، فيقدمان معاً للقارئ احتمال قراءة موجّهة من طرفهما معاً. إن كل نصّ موازٍ ليس من باب لزوم ما لا يلزم، وفي حالة ترجمة القرآن يتخذ لزومية إضافية. في هذا السياق يقول جيرار جينيت إن النص الموازي "هو خطاب تابع، مساعد، مُكرّسٌ لخدمة شيء آخر". كل عنصر في النص الموازي، سواء كان افتتاحياً أو من وضع المؤلف/ المترجم، يؤدّي وظيفة، لكنها تمتلك هدفاً واحداً: "هي تكاد تكون دائماً بهدف التأثير، بل التحكّم، بطريقة واعية أو غير واعية. إن نزعتها هي التأثير في القراء ومحاولة تعديل تمثلاتهم أو أنظمة إيمانهم في اتجاه معين". (لان فيليب).

 

السياق التاريخي - الثقافي للنص الموازي في ترجمات القرآن

 في إطار دراستها السياق التاريخي والثقافي للنص الموازي في ترجمات القرآن العديدة إلى اللغات الأجنبية، عادت الباحثة سناء سميّج إلى الترجمات الأولى وسياقها التاريخي من أجل إزالة التأثير الذي أحدثته عليه. وطلباً لبساطة أكثر وبغرض تحديد الموضوع اعتمدت على الترجمات الفرنسية للقرآن. عادت إلى دراسة لـ"ريجيس بلاشير" عنوانها "القرآن" صدرت سنة 1977، ربط فيها ترجمة القرآن بنظرة الأوروبيين إلى الإسلام ونبيه، في حين تقوم الباحثة بربطها بالطبعات المتكررة لهذه الترجمات.

منذ الفتوحات العربية الإسلامية، يؤكد بلاشير، كان الاهتمام منصبّاً على القرآن والنبي محمد. هكذا، ورغم جهلهم اللغة العربية، قام علماء اللاهوت البيزنطيون بوضع مجموعة من الأفكار المثيرة للخلاف والجدل، مثل دراسة شخصية المسيح والتربية الجنسية وغياب المعجزات. وقد كانت نتيجة ذلك مجموعة من الترجمات الجزئية، موجّهة ومعدّلة بحيث لم تنتج أبداً ترجمة كاملة. هكذا، ومنذ القرن الثامن، قامت الترجمات الجزئية وشروح القرآن، المنجزة من طرف القراء البيزنطيين، بتغذية أفق انتظار المتلقي الأوروبي.

الترجمة اللاتينية المنجزة من روبير دي كوتون (1142-1143) تمّت بـ"قصد دفاعي" عن العقيدة المسيحية، إلى درجة أن المترجم كتب مقدّمة موجهّة ومنحرفة عن القرآن. بعد ذلك تتالت الترجمات محاولة القطع مع الترجمات الجزئية للقرآن، ثم مع الترجمة اللاتينية. فدخل على الخط بعض الدبلوماسيين الذين يعرفون اللغة العربية، فأخذوا مبادرة ترجمة القرآن كاملاً إلى الفرنسية. في هذا السياق تمت أول ترجمة فرنسية للقرآن انطلاقاً من النص العربي مباشرة، سنة 1647، من طرف أندري ريير. وهي الترجمة التي نُقلت إلى الإنكليزية والألمانية والأيرلندية طيلة القرن السابع عشر. وهذه الترجمة، حسب "لارزول سيلفات"، أحدثت قطيعة مع فكرة "الترجمة-الخيانة" إلى اللاتينية، لكن "سناء سميّج" تعتبرها مجرد نقل للخيانة نحو اللغة الفرنسية.

اسم المترجم في النصوص الدينية

وقف الكتاب عند قضية في غاية الأهمية: اسم المترجم على غلاف نصّ مقدّس، خصوصاً القرآن، وذلك يثير رُكاماً من الملاحظات. فحسب "ج. جينيت" يوجد الاسم في ثلاثة أشكال: اسم المؤلف، الاسم المستعار، المؤلف المجهول. ومن دون أن تكون قاعدة، فإن المؤلف المجهول في نص ديني إسلامي يعتبر فعلاً من كرم الأخلاق، ومثال ذلك "دليل الخيرات" (870 ه) الذي ظل مترجمه مجهولاً وليس له من هدف من هذا الاختفاء سوى رضى الله. وما إن تغيّر السياق التاريخي للنص وكذلك التاريخ المرجعي للمؤلف، فإن المعالم والنتائج لا يمكن أن تبقى ثابتة؛ خصوصاً أننا لا نتحدث عن أي نص ديني بل عن ترجمة نص مقدس.

لم يستعمل مترجمو القرآن أسماء مستعارة. لقد كان فخراً لهم أن يقرنوا أسماءهم بموافقة السلطة الدينية (مسيحية أو إسلامية)، أو ملكية كما هو الحال في ترجمة "ريير". فالترجمة كانت مرفقة بختم إمارة السلطان حسين، ما يعطي قيمة للترجمة ويعطيها وزناً ورفعة.

كذلك يتمّ دعم وتقوية اسم المترجم بعناصر أخرى موازية للنص، كما في حالة ترجمة جاك بيرك، إذ تمت الإشارة في الصفحة الأخيرة من الغلاف إلى "البروفيسور" و"رائد الدقّة الألف للغة". هكذا يصبح الاسم توقيعاً شهيراً وحجة اجتماعية. إنه الـ"عتبة" الداخل والخارج نصية التي تربط بين ترجمة النص والصورة التي يمنحها. من جهة أخرى، ورغم عدم تقدير القراء لهم، فإن أسماء مترجمي القرآن: محمد حميدو الله (1989)، محمد الشياظمي (2007) أو مالك شابل (2009) تشير إلى الانتماء الديني والإسلامي للمترجمين، في حين أن اسم "أندري شوراقي" مترجم الإنجيل يشير إلى عمق ديني آخر. إذن، للاسم وظيفة وصفية في ما يخص الانتماء الجنسي للمؤلف (ذكر أو أنثى)، أو الانتماء إلى العمق الديني الذي يمثله المترجم ويكون له تأثير على القارئ.

لماذا كتابة المقدمة ولماذا قراءتها؟

  استحقّت المقدمات التي كتبت لترجمات القرآن من الباحثة وقفة خاصة. وربطتها العلاقة المباشرة أو غير المباشرة بالمرحلة التي أُنجزت فيها الترجمة أو إعادة الطبعة. إن مقدمة نصّ أدبي ما يمكن أن تمثّل نظاماً يدخل في الاشتغال الجيّد للقراءة. فبصفتها عتبة أولاً، فهي تحوّل النص إلى كتاب. كتب "ثيميسول دي سانت هياسانث" في مقدمة كتابه "تاريخ الأمير تيتي" سنة 1736: "إذا ظهر هذا الكتاب بدون مقدّمة، فإنه بصعوبة يكتسي صفة كتاب. يجب كتابتها، لكن ماذا أقول؟". ثم إن اسم كاتب المقدمة والعنوان هما ما يدعوان إلى القراءة. وحالة القرآن هنا مختلفة عن حالة النص الأدبي. فهو كتاب بدون مقدمة. ومن جهة ثانية، هذا النص، في اللغة العربية لا يحتوي أبداً على مقدمة، ولم توضع له طريقة أو منهجية لقارئه للمساعدة على فهمه. ومع ذلك، فإن ما يفاجئنا هو أن ترجمته تحتوي على مقدمة ولا تتردّد أبداً في الحديث عن الصعوبات التي اعترضت المترجم، أو عن أشكال نجاحه أو فشله، أمام الاختلاف الموجود بين لغة الانطلاق ولغة الوصول.

 وقفت الباحثة سناء سميّج عند المقدمة التي وضعها محمد أركون "كيف نقرأ القرآن"، وهو ما جعل مقدمته تُصنّف في خانة "القانون" الموجه إلى المتلقي الذي سيقرأ ترجمة القرآن، والذي يضع، بذلك، وضعية من التواصل معه. هكذا أصبح كاتب المقدمة وسيطاً بين النص والقارئ.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.