}
عروض

"محاكمة برودسكي": الأدب أسيرًا لتفسيرات السلطة السياسية

إيهاب محمود

28 يناير 2018

كان الشاعر الروسي جوزيف برودسكي (1940- 1996) يحلم بكتابة كوميديا إلهية تخصه، غير أنه كان يبرر سبب أنه لم يفعل بالقول: "عندما نغادر البلدان التي طردنا منها، تصبح الخيبة عنصرًا في الوجود، وتقل حماستنا الحيوية التي تحتاجها المشاريع الكبرى".

في الثامن عشر من فبراير 1964 كانت السلطات السوفييتية تعتقل الشاعر الروسي جوزيف برودسكي والتهمة: "يكتب خارج الإطار المرسوم للأدب"! وبررت النيابة فيما بعد اتهامها له بأنه أيضًا لا ينتمي لاتحاد الكتاب السوفييت، وكان ذلك اتهامًا مشروعًا لأن الأدب وقتها كان عليه أن يمر بالقنوات الرسمية قبل خروجه للنور وإلا اعتبر منشورًا سريًا، وعلى ما يبدو أنهم نسوا أن شكسبير مثلًا لم يكن عضوًا باتحاد الكتاب في بلده.

هذه المحاكمة التاريخية دونت جلساتها الصحافية فريدا فيغدوروفا، التي اهتمت بتأليف كتاب مشترك عن هذه الواقعة الاستثنائية مع كل من هيلين كاريير دانكوس، إيفيم إيتكند، ليديا تشكوفيسكايا، شارل دوبزينسكي، وكلهم من الشعراء الأقرب إلى برودسكي. وذات يوم، وبينما كان يمر بأحد الشوارع القديمة المكتظة بالكتب على أرصفة شاطئ السين، وقع كتاب "محاكمة برودسكي- أول محاكمة لشاعر" في يد المترجم العراقي شاكر نوري، الذي سارع بترجمته، وصدر الكتاب مؤخرًا عن دار ومكتبة سطور.

عشرة اتهامات وجهتها المحكمة إلى برودسكي وكلها تحمل الكثير من الكوميديا، منها أنه تسلق سلم التطفل الاجتماعي وحده بعيدًا عن الرابطة الشرعية وهي اتحاد الكتاب. وفي مجتمع سوفييتي محكوم بالسلطة الجماعية، فإن هذا يُعدّ خروجًا عن القانون. ومنها أيضًا أن جميع قصائده تعبر عن رؤية تشاؤمية للعالم وعن تمرد ضد السلطة وبها قابلية للتفكير في الانتحار وربما التشجيع عليه.

ومن الاتهامات التي تثبت أن الرؤية الرسمية للأدب وتصورات موظفي الدولة عنه لا تكشف دائمًا إلا عن جهل، يأتي الاتهام الرابع الذي يتساءل في دهشة عن مصدر برودسكي للمعرفة: "إنه يفتقر إلى الثقافة والمعرفة. أية معرفة يمكن أن يمتلكها جاهل، شخص لم يكمل حتى دراسته الثانوية؟".

 في جلسة 18 فبراير 1964 يبدو استجواب القاضي لبرودسكي عبثيًا للغاية. الأسئلة كلها حول محور واحد: أن برودسكي لم يكمل تعليمه ومن ثم فإنه بلا وظيفة ولا يمكن له هكذا أن يعيش أو يكون ثقافته:

القاضي: وهل درست لتحقيق هذا الهدف؟

برودسكي: أي هدف؟

القاضي: هدف أن تصبح شاعرًا.

برودسكي: لم أكن أفكر بأن هذا الشيء يمكن تعلمه على مقاعد المدرسة.

لم يكن برودسكي فاشلًا، ولم يترك المدرسة إلا بسبب عدم قدرته على مشاهدة الصور المعلقة على الجدران يوميًا، وكانت الصور لديرجنفسكي ولينين: "كانت رؤوسًا في غرفة الصف لا أستطيع تحمل رؤيتها ببساطة، وهكذا ذات صباح شتائي جميل، وفي أوج الدرس، نهضت من مقعدي، وبطريقة مسرحية للغاية، خرجت من غرفة الصف عارفًا تمامًا أنني لن أعود إليه أبدًا". حدث هذا في سن الخامسة عشرة.

محاكمة عبثية وساخرة

عبثية المحاكمة لم تكن فقط في تقديم شاعر للمحاكمة لأسباب تافهة كالتي بررت بها المحكمة أسبابها لاقتياد برودسكي والتعامل معه كمجرم، لكن العبثية تبدو، على أوضح ما يكون، من خلال تعليقات القاضي والنيابة ورؤيتهما لبرودسكي أو بالأحرى رؤيتهما للأدب عمومًا وتقبلهما له، فالثقافة عندهما لا يمكن تحصيلها بدون المدرسة أو قنوات التعليم الشرعية، لا يدركان أن الإبداع ليس وظيفة أو مهنة يمكن مزاولتها بالممارسة والمران. يتذكر إيتكند جلسات المحاكمة: "حين أقرأ الآن ما سجلته خلال المحاكمة بعد مضي سنوات عليها، يتهيأ لي وكأنني أشاهد محاكمة ساخرة. لكن آنذاك لم يكن لدينا رغبة في الضحك إطلاقًا". في الوقت نفسه لا يلقي إيتكند بلوم كبير على القاضي، الذي يؤكد إيتكند أنه تلقى تعليمات صارمة بمعاملة برودسكي بأقسى ما يمكن.

حكمت المحكمة على برودسكي بالسجن خمس سنوات مع الأشغال الشاقة المؤبدة. بعد عامين، وتحديدًا في عام 1966، أطلق سراحه وذهب ليعيش في الولايات المتحدة الأميركية منذ عام 1972 بعد أن طردته السلطات السوفييتية من كل البلاد.

في خريف 1974 اختارت الأكاديمية السويدية جوزيف برودسكي لتمنحه جائزة نوبل في الآداب، مفضلة إياه على أوكتافيو باث، ومواطنه جنكيز إيتماتوف. كان الاختيار غريبًا لبرودسكي الذي لم يكن في جعبته سوى ربع ما أبدع أوكتافيو باث، ولم يكن في شهرة وتحقق إيتماتوف الذي ترجمت أعماله إلى لغات عديدة. كانت سن برودسكي صغيرة أيضًا (47 عامًا) غير أن إيفيم إيتكند يبرر تصرف الأكاديمية السويدية: "لم تأخذ الأكاديمية السويدية بعين الاعتبار شهرته وعمره والشكل التقليدي لقصائده فحسب، إنما في النهاية كلاسيكية خارجة عن الموضة من حيث صورها وأفكارها، هنا وهناك".

يتابع: "لقد نجح في إقناع الأكاديمية بأنه يوجد شيء ما أكثر أهمية من كل شيء، وهو ما يمكن تسميته النقاط الضعيفة مجتمعة".

ملاحقة قديمة- متجدّدة

الكتاب، بغض النظر عن موضوعه الجدير بالقراءة، يمكن اللجوء إليه في أوقات لها خصوصيتها، تمامًا كأوقاتنا الحالية التي نعاني فيها مما عاناه برودسكي ورفاقه قبل ما يزيد على نصف قرن. فنحن الآن وبينما نتخطى الألفية الثالثة بثماني عشرة سنة، نجد أنفسنا مضطرين للدفاع عن شاعر فلسطيني اسمه أشرف فياض (1980) يعيش في السعودية وبسبب قصيدة تحكم عليه المحكمة السعودية بالإعدام، ثم تصبح أكثر رحمة به وتخفف الحكم للسجن ثماني سنوات والجلد 800 جلدة، ذلك لأنه سخر من الشمس في إحدى قصائده وبما أنها من مخلوقات الله فإن ما كتبه فياض يعد تجاوزًا في حق الذات الإلهية!... هكذا يفسر القضاة الشعر!

وفي مصر، كان الروائي والصحافي أحمد ناجي (1985) يقضي سنة في السجن بسبب رواية "استخدام الحياة" التي كتب فيها ألفاظًا خدشت حياء قارئ ما وأصابته بهبوط حاد، وعلى الرغم من أن النيابة استمعت لأقوال ثلاثة من المفكرين والكتاب المصريين هم جابر عصفور، محمد سلماوي، وصنع الله إبراهيم، إلا إنها مضت في طريقها لتفسر الأدب كما يفسره القضاة، وهكذا يأتي كتاب برودسكي ليخبرنا أن الأمر قديم، وأن الأدب سيظل خاضعًا لتفسيرات السلطة السياسية التي تبني معرفتها على الجهل بكل شيء إلا رأيها، والشك بكل شيء إلا ما يوافق أهواءها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.