}
عروض

ما الذي جرى داخل بئر الخراب الصومالية؟

صهيب عبد الرحمن

29 يناير 2018

"اقتصاص نچيي" هو عنوان رواية للكاتب الصومالي إبراهيم هاود، الذي يعتبر رائدًا في القصة القصيرة الصومالية. صدرت قبل عدة أعوام ضمن ثلاثية روائية حملت عنوان "cirsan ka yeedh"، وهو معنى يشير إلى طائر يُبشر بالرغد والرخاء.

تدور أحداث هذه الرواية في إحدى ضواحي العاصمة مقديشو في قرية رعوية تسمى دمل وين. وتنفتح بتصوير قسوة الحياة البدوية، التي تفرض على الإنسان أن يكون في صراع مستمر مع قوى الطبيعة ومع قوى أخرى، مرئية وغير مرئية. ترحال دائم للبحث عن مراع جديدة للقطعان، رياح وأمطار ورمال وحيوانات مفترسة، مشهد مرسوم بالتعاسة والكآبة.

قسوة البدايات

في قلب هذا السياق، يولد أبطال الرواية: نچيي وصديقه ديرية، في فترة قريبة من لحظة الاستقلال. إضافة الى قسوة الحياة العامة، يولد المرء مع ثارات وأحقاد وضغائن. بطل الرواية نچيي يواجه هذا المصير في عمر الطفولة، يتعرض أبوه للقتل أمام ناظريه، ولأنه كان الولد الوحيد لأبيه وأمه، كما كان شأن أبيه (وهو علامة شؤم ونحس في تفكير البدوي) لا يوجد من يأخذ الثأر لأبيه إلا هو. يكبر ويكبر معه هذا القصاص المؤجل. في صغره لا يتوقف عن مشاغبة قاتل أبيه مرة في إحراق بيته، ومرات في التلصص وتهديده.

العالم بالنسبة لهذا الطفل ذي السنوات الست ينحصر في قرية دمل وين، يدرس في حلقة للقرآن، ولكن معلم القرآن يضربه بدون سبب وجيه. في أحد الأيام يُهشّم اللوح الذي يدوّن عليه القرآن على رأس المعلم. يصبح مطرودًا من صف دراسة القرآن، يلقبونه بالملعون والإبليس الصغير، لأنه لم يستح من ضرب شيخ القرية ومعلم القرآن.

تتزوج أمه رجلا آخر، ويتعاظم شعوره بالتعاسة والعزلة، يعيش في العراء خلف الإبل، ويتقاسم معها ذات القسوة والعطش والضياع، فالخارج يبدو موضعًا لكلّ الأخطار؛ الوحوش المفترسة والبيئة القاسية، فضاء الأخطار والخوف، ينفرد بمسرح الهول الأعظم، آهلوها هم من الحيوان الوحشيّ ومن كل أولئك، على غرار الشعراء، الصعاليك، الذين نبذوا روابطهم مع قبائلهم وقضي عليهم بالتسكّع. ينسلخون الى درجة الحيوانية.

حين يكبر يأخذ بالثأر لأبيه، ولأن القتل يتهدده إذا استمر في البقاء في القرية، يهرب الى مدينة حمر: الاسم الشعبي لمدينة مقديشو. وهنا تبدأ حياة المدينة المعقدة والوعرة أكثر من ذي قبل.

مدينة حمر... والحداثة المخنوقة

في أول الأمر يهتدي إلى بيت خاله روبلي، الشخصية المتعلمة والمتأثرة بنمط العيش الأوروبي. يقول الجيران عنه إنه يشبه الكفار، لأنه لا يغار على ابنته وعلى زوجته من الرجال الآخرين، بل يرتكب جُرمًا حين يرفض ختان ابنته. يعزو الجيران هذا السلوك الغريب إلى كونه قد تأثر بالكفار في فترة إقامته في بريطانيا، وتقول الإشاعات إنه تناول لحم خنزير مع زوجته، وأصبحا بلا غيرة.

أسرة روبلي مثقفة وسعيدة، يبرع الكاتب في وصف الارتياب والتوجسات بين عائلة روبلي وجيرانها من المجتمع، نظرات يشوبها الاتهام والريبة، وعدم الاطمئنان، الأب ليس طاغية كما يفترض أن يكون، بل وديع، باهت تقريبا، وبلا غيرة، وتلك منقصة عظيمة. وفوق كل ذلك، يرفض المشاركة في دفع الدية حين يقتل أحد أبناء العشيرة شخصًا ما. ويعادي الجميع رؤيته الأنانية تلك.

هناك في البادية أخوه مِعلباح، وهو اسم يشير إلى كونه أخذ الثأر لأبيه ليس من شخص هذه المرة، بل من أسد. تقول الحكاية إنه في صغره سافر مع أبيه، وحين انسدل الليل في وقتٍ كان أبوه مشغولًا بطبخ الصيد، باغته أسد، فهرع الولد إلى التسلق على شجرة، وشاهد بأم عينيه كيف افترس الأسد لحم ودم أبيه، لم يترك إلا بقايا عظام بيضاء، لكن أباه سيترك جُرحًا في أصابع قَدم الأسد أثناء القتال بينه وبين والأسد، وهذه ستكون علامة للاهتداء إليه فيما بعد، عبر تتبع آثار مشيه. سيأخذ الثأر من الأسد حين يكبر، فيهاب منه الجميع، ويمتلك سمعة طيبة بسبب ذلك.

يطلب روبلي المتعلم في أوروبا من أخيه البدوي قاتل الأسد أن يرسل إليه ولده الصغير، كي "يؤنسنه"، يعتقد أن الشخص بدون تعليم ليس إنسانًا. يأتي راغي الصغير إلى بيت عمه. ويجتمع في بيت واحد مع نچيي، القاتل الهارب من البادية.

مصير شخصيتين

تسير الرواية في خطين متوازيين للسرد وتتتبع من خلالهما مصير هاتين الشخصيتين، كل واحدة منهما تأخذه حياة المدينة مسارًا مختلفا عن الآخر، برغم تشابه نشأة حياتهما البدوية.

 يواجه راغي تناقضات المدينة المريعة. ويعيش في حياته كمّا هائلًا من الأسئلة المقلقة. يتعوّد على أجواء العائلة المثقفة، وبدوره يخصص أغلب وقته للقراءة والدراسة، ويتقن لغة الكفار ولغة القرآن، كما كان يحلم في صغره. ومن ثم يسافر إلى بريطانيا في منحة حكومية. لكنه لا يكمل تعليمه هناك، بسبب انخراطه في كتابة مقالات منددة بسياسات الغرب المؤيدة لدكتاتوريات أفريقيا، ويشبه الدكتاتور الأفريقي في أحد مقالاته برجل يغتصب أمه، فتسحب منه المنحة بسبب ذلك، ويعود الى البلد. لكنه لا يستسلم، يكمل تعليمه، ويبدأ بالتدريس في إحدى المدارس الحكومية.

تتسم شخصية راغي بالتفاؤل والإيمان بالمستقبل. يخوض نضالًا قوميًا ضد المحتل الأجنبي، وفي الوقت نفسه يتبنى أفكارًا منددة بدكتاتورية النظام الاشتراكي.

في مناسبة وطنية يُطلب منه كتابة مسرحية تعرض أمام "أب الأمة وقائد الوطن". لكنه يتجرأ على كتابة مسرحية تصور فظاعة نمط الحياة الذي فرضه النظام الشيوعي في عهد العسكر. يا له من فعل يفوق كلّ جسارة. إنّها جريمة لا تغتفر. ينتهي أمره بالسجن والتعذيب. ولأنه لا صلة طيبة تربطه مع عشيرته، يكابد مشقة السجن وحده.

يزداد تعسف وبغي الحكومة الاشتراكية، وتـأخذ أشكالا مافيوزية، مما يجبر المثقفين أمثال شخصية روبلي على مغادرة البلاد والاحتماء بالدول الأجنبية، لكن راغي يظل عصيا على الاستسلام، ويرفض ببسالة استقبال الأجنبي على أنه المنقذ.

برجوازية الجيش

تصور الرواية برجوازية مؤسسة الجيش عن طريق شخصية نچيي الذي ينتسب للجيش فور دخوله للمدينة، ويصبح جنرالًا على مرّ الأيام. في ذلك الوقت، في الصومال كما في معظم أفريقيا، كان الانتساب إلى الجيش أقصر الطرق لكسب الثراء الفاحش والسريع.

جميع الصفعات المؤلمة التي تلقاها نچيي في بداية حياته ترتد على شكل لُؤم وقسوة وشراسة في شخصيته، يختاره النظام العسكري لعتوّه وفظاظته في العمل في المناطق المعارضة للنظام. يمارس اللصوصية والقتل في مدينتي جالكعيو وبرعو دون رادع ولا رقيب.

في هذه الفترة، أي نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، وبعد هزيمته في الحرب الإثيوبية- الصومالية، تحول النظام إلى نظام مافيوزي بامتياز، ينتهج اللصوصية والنهب والإعدامات كسياسة بقاء. كان العسكر يعتبر البلاد مزرعة له، يملكه وما فوقه من البشر، ويتصرف في أجسادهم بما يحلو له من الاغتصاب والتعذيب والقتل. تجسد شخصية نچيي ذلك الجنرال البدوي الذي يسحق الجميع بلا أدنى رحمة.

في موازاة شرره المنفلت، هناك شخصية أمرن، زوجة الجنرال، وتعمل مع عالم الكائنات الغيبية، تستحضرها متى ما شاءت، تداوي بها نساء المدينة، تعيش معها في البيت، جنبًا إلى جنب مع البشر، لا بد من استرضاء أرواح الجن عبر تقديمها للأضاحي، تجذبها رائحة البخور. يرتعب نچيي أمام هذه الجو، وحدها القوى اللامرئية تردعه وتضع حدا لطغيانه. لكن وبسبب عدم تحمله لهذه الأجواء تنتهي أسرته بالتفكك والطلاق.

 يأتي القصاص من ولده البكر كليل ثأرًا على القتل الذي ارتكبه، فالثأر لا يُهمل ولا يُنسى. لكن يتضح في الأخير أن الولد المقتول ليس من صلبه، وإنما من صلب رجل آخر. يتعاظم غضبه وشعوره بالذل والعار من خيانة زوجته، لكنه الآن جنرال عنيد، وبوسعه الانتقام بشكل شامل.

موجة الوهبنة

في تلك الأجواء المشحونة باليأس من الحياة، تظهر شخصية الشيخ حسن، وهو مُعمّم درس في السعودية، ويعمل لصالح "رابطة العالم الإسلامي"، وهي منظمة نهضت بدور نشر المذهب الوهابي في العالم الإسلامي. يستشهد الشيخ حسن على الدوام بأشعار وأمثال عربية، لا يخفي رغبته بأن تحل العربية محلّ الصومالية. وهذا يضعه في خلافات مع شخصية راغي، مدرس الأدب في المدرسة الحكومية، يختلفون في البدء حول الزي المدرسي الذي يفرض على البنات نزع الحجاب الشرعي، هذا الأمر يكاد يفجر أعصاب الشيخ حسن، ويراه سببًا كافيًا لاستحقاق هلاك الله، "وما القتل الذي يمارسه النظام على الناس سوى عقاب من الله على بعدهم وتركهم للدين".

وبمرور الأيام يتكون لدى الشيخ حسن مريدون سلفيون كُثر. ويتعاونون على منع الرقص الشعبي والتضييق على الأماكن الاحتفالية، ويسمون بالبدع والشرك والضلال كل ما يخالفونه.

كاميرا الأجنبي

ظلت كاميرا الأجنبي مثار قلق وارتياب، فهناك دائما الشخص الصومالي دائم الشكوى من الألاعيب الهوليوودية التي تبث الدعاية عنه، لكن لماذا يستهدفونه بالدعاية وبث الصورة السلبية عنه؟ يأتي الجواب على لسان شخصية راغي الذي يقول: "إن الأجنبي يبحث من وراء ذلك السلوك عن سبب يبرهن لنفسه على مدى تفوّقه ونُبله".

في مكان آخر، نتوقف في مشاهد الحوار بين شخصية أوسكار بيترسون، الصحافي الأجنبيّ، وبين راغي، الذي يشاهد الصحافي الأجنبي وهو يبحث عن صورة مناسبة للالتقاط، ومن ثم يسأله: "لماذا لا تذهب إلى برعو وهرجيسا، وتنقل الصور من هناك حيث سُويت مدنٌ كاملة بالأرض؟" يجيب الصحافي متظاهرًا باللطف بأنه "لا يجب أن نظهر كل الفظائع". لكن الأمر متعلق، حسبما تقول شخصية راغي، بأن الغرب يقف مع النظام ويمده بالأسلحة والمعونات (تلقت الصومال أكبر معونة أجنبية في تلك السنوات من أميركا). وبالتالي من مصلحة الغرب غض الطرف عن تجاوزات النظام البشعة. وبرغم أنه من بلدان الشموليات الرثة المتميزة بالخواء، كان النظام حريصا على الحفاظ على علاقة جيدة مع الغرب بعد أن اصطدم مع المعسكر الشرقي في حرب القرن الأفريقي (1977-1978).

الانهيار الدراماتيكي

 يُنسب إلى نيتشه قوله: "في الحروب يكون الناس على حافة بئر واحدة، بيد أنّ هذه البئر العميقة تحتاج إلى زمن طويل كي يُعرف ما الذي يحدث في أعماقها". تنزل هذه الرواية في قلب بئر الخراب، لتضيء حقبة مظلمة من تاريخ الدولة الصومالية، التي يجري البكاء عليها الآن. فأغلب التناول لتاريخ الخراب الصومالي يؤرّخ بدايته - جهلًا أو عمدًا- من فترة هروب سياد بري إلى بلد خارجي، أي عام 1991، لكن الحقيقة أن النظام منذ نهاية السبعينيات تحول إلى نظام مافيوزي، يستهدف مُدنا كاملة بالتدمير والتشريد. وتنجح هذه الرواية، التي أتقنت الالتفات إلى تفاصيل مدن الخراب والذل التاريخي، بتصوير ما الذي جرى في بئر الحرب. تأتي الأسئلة عبر الشخصية القلقة راغي، الذي يتساءل: "متى أجهض حلم الدولة الصومالية، أم أنه حلم لم يولد في الأساس، وإذا صح أنه وُلد، هل وُضع على سرير الولادة أم على فراش الموت؟".

إلى جانب فساد مؤسسة الجيش، وكونها تابعة لطبقة غنية مترفة وفوق القانون، وتمتلك التصرف بالناس وبأجسادهم، بالقتل والاغتصاب، هناك الطبقة السياسية التي تجسدها شخصية ديرية، صديق الطفولة لنچيي، يشتغل في إدارة مدرسة، وهو بلا أدنى نصيب من التعليم. لا مكان للمثقف والمتعلم في حسابات التعيينات لدى النظام، بل تحترم اللص وابن العشيرة. وفي نهاية دراماتيكية ينتهي أمر ديرية بقتله في وقت كان يحاول الهروب من البلد على يد أحد طلاب مدرسته، لأنه لم يتعلم منه إلا العربدة والجهل. صديقه الجنرال ينتهي إلى نفس المصير، تهاجمه مجموعة من اللصوص وهو أيضًا يحاول الهروب إلى الخارج، بعد أن حول البلد إلى جحيم مفتوح.

فسحة الرواية الأفريقية... من شرفة واثيونغو

يجد المرء في حال الدولة الصومالية إعجازًا غير مسبوق، وما زالت واقعا مركبا لا يمكن تفكيكه، ربما الأدب والرواية خصوصا هما وحدهما القادران على الشرح. ومن خلال شخصية راغي ونچيي تناول هاود مسارًا تاريخيا دقيقا للصومال في سنوات الاشتراكية وما قبلها في الحياة البدوية، محاولا تفكيك التعقد التي شكله الانهيار اللاحق، لكن بتحقق ظاهر أكثر من المحاولات التبسيطية التي تصاحب الغربيين في تناولهم. تأتي "اقتصاص نچيي" على شكل وثيقة سردية للشهادة بالكتابة على ما اقترفه نظام العسكر من جرائم وحشية في حق الشعب، وعلى فضحٌ خرائط الرعب العسكري، وخراب العقول.

من جهةٍ أخرى يبرز هذا العمل قيمة النظر الروائي، فالرواية كما يشاع تتسع للعواطف الشخصية إلى جانب القضايا الكبرى وحمولاتها الثقيلة، أكثر من أي فن آخر، وتحفر في التفاصيل التي لا تصل إليها يد كتب التاريخ. لكن تقليد الرواية غير منتشر في اللغات المحلية الأفريقية، وفي الغالب الأعم تحلّ مكانها أعمالٌ مكتوبة بلغات أجنبية عن أفريقيا.

 وتحقق هذه الرواية نبوءة الكيني نغوجي واثيونغو الذي طالما دعا إلى أدب أفريقي يُستثمر فيه الوقت والموهبة بلغة أفريقية، ويراجع مراجعة شاملة السياسات اللغوية النيوكولونيالية المفروضة على واقع أفريقيا، لأن الكاتب الأفريقي هو المؤهل أكثر من غيره في اقتحام الحلقة الشريرة، حسب تعبير واثيونغو، كونه متسلّحا بترسانة لغوية تحوي ملامح السرد الشفاهي، إلى جانب استعارة اللغة وأوزانها وقوافيها وأنصاف قوافيها وأبياتها وشعرها وصورها. وتنجح هذه الرواية بتوظيف كل ذلك لتكون فسحة الرواية الأفريقية... من شرفة واثيونغو. 

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.