}
قراءات

"مكالمات تليفونية" لروبرتو بولانيو..الوجه فوق القناع

طارق إمام

2 يناير 2018

في قصصه القصيرة، يبدو الكاتب التشيلي روبرتو بولانيو كما لو كان يلتقط أفكاره وشخوصه من قارعة الطريق، فقط ليتركها على قارعة الطريق.  

 ثلاث عشرة قصة يضمها الكتاب القصصي "مكالمات تليفونية" (دار بتانة، القاهرة) والذي ترجمته عن الإسبانية عبير عبد الحافظ، ليصبح أول كتاب يُقدم بولانيو "القاص" لقارئ العربية في عملٍ مكتمل، بعد أن تُرجم عدد من أبرز رواياته إلى العربية خلال السنوات القليلة الفائتة، مثل "التعويذة"، "ليل تشيلي"، و"المخبرون المتوحشون".  

ربما يبدو بولانيو في هذا الكتاب، الذي يمثل تجربته القصصية كونه يجمع ثلاث مجموعات قصصية، كما لو كان يقدم الروائي وهو يخون نفسه في قصصٍ تبحث عن رواياتها، التي ربما لو أمهله العمر، هو الذي غاب في الخمسين، لأتمّها. يخون بولانيو ما يكاد يكون اتفاقاً حول  طبيعة القصة القصيرة من أنها تفصيلة مجتزأة من حياة عريضة، فجميع قصص هذه المجموعة تعرض لحيواتٍ كاملة أو شبه كاملة، لشرائح أفقية عريضة زمنياً ومكانياً في بعض الأحيان. قصص عالقة بمصائر، تنتهي أحياناً بنهايات أصحابها أنفسهم، لتصل بهم إلى قبورهم. كأن قصص "مكالمات تليفونية" هي في جوهرها "معالجات" روايات مختزلة وملخصة في محطاتها الرئيسية لا ينقصها سوى إشباع فراغاتها لتصبح روايات كبيرة. في كافة قصص "مكالمات تليفونية" تظهر شخصيات "روائية" إن جاز التعبير، تعبرها الشهور والسنوات من شبابها المبكر حتى موتها أو على عتبات مصائرها.

 

ما دون الواقع

مبدئياً، لن يشعر قارئ روايات بولانيو بغربة مع قصصه، فالتقنيات هي نفسها، وكذلك العوالم، فضلاً عن طبيعة اللغة. عالم الأدب والكتابة هو مجدداً عالم "مكالمات تليفونية"، فأغلب القصص تدور داخل ذلك العالم. والراوي، في الأغلب الأعم، يكتب بالضمير الأول، مذيباً المسافة بين قناع السارد ووجه المؤلف، لنواجه سارداً هو روبرتو بولانيو نفسه. يلعب بولانيو بنفسه كشخصية قصصية هي "أرتورو بولانو"، التي تظهر أيضاً في عدد من رواياته، كأنما يكسر إيهام النص المتخيّل، فهو يكتب قصصه بوجدان كاتب يوميات، وبروح تسجيلية توهم بغياب التخييل كأن النص محض إعادة تدوين لواقعة عادية أو لقاء عابر، تدوين لا يحتمل الاختلاق ويضيق بالتحريف، مُرسَلٌ بما يليق بكاتبٍ هاوٍ، ثرثرته لغو، ولا تمثل نهاية أي نصٍ فيه أكثر من قرار بسيط بوضع نقطة قبل أن تتضح أية دلالة محتملة لسيل الثرثرة الذي بلا قوام. يكتب بولانيو وكأنه لا يكتب، في الحقيقة يكتب وكأنه يتكلم، يبدأ من أي نقطة وينهي النص فجأة بينما تتساءل: ماذا حدث، وما الذي يجعل من هذا النص قصة مكتملة سوى أن صاحبها يرى ذلك أو يريده؟ يحبط بولانيو قارئه بأن القصة، في كثير من الأحيان، ليست موجودة كخطاب فني بل كمحاكاة لقصة الواقع التي تعوزها البنية والدلالة معاً، قصة تشبه الحياة في افتقارها للبناء: محض لقاء عابر، حوار مطول مع شخص لا يحيل إلى شيء، أو ثرثرة مبتسرة حول شخص يمكن أن يكون أي شخص.

ربما يحاكي بولانيو سلفه بورخيس (وأحد كتّابه المفضلين) في الاتجاه العكسي، حيث تغييب زائف للتخييل يطمح للنهوض بتخييل كامل من بوابة التوثيقي أو التأريخي، لكن بينما كان بورخيس يتعكز على الفانتازيا ويجيد إحكام حكاية مغلقة، فإن بولانيو يرتدي القناع البورخيسي بإيهام واقعي يكاد يتجاوز الواقعي نفسه للطبيعي مع بنيةٍ قصصية مفتوحة حد أن قارئها يشعر في كثير من الأحيان أنها لم تُكتب بعد.

 

روايات مغدورة

"وهكذا مر عام". ببساطة يمكن أن نعثر على عبارة مثل هذه في قصة لبولانيو، بينما يتتبع السارد (كمحقق) حياة "روخيليو إسترادا" في قصة "الجليد"، لكن الأعوام والشهور التي تمر في قصص بولانيو حاضرة على الدوام في "مكالمات تليفونية". هذه قصص تعبرها السنوات الطويلة ببراءة حكاء شفاهي يختصر حياةً في جلسة.

تستدعي "جوانا سيلفستري"، بالضمير الأول، حياتها كممثلة أفلام إباحية. تخون "الموقف القصصي" المتمثل في رحلة للوس أنجليس من أجل تصوير أربعة أفلام، لنصير أمام ذاكرة تستدعي الحياة الكاملة لساردة في السابعة والثلاثين. إنها ترسم صورة لحياتها بأكثر مما تنخرط في حبكة قصة مجتزأة من الرواية التي تؤلفها هذه الحياة. ثمة "محقق" غامض، بوجودٍ مضبب، يظهر كسببٍ واهٍ لكي تدلي بحياتها وكأنها أقوالها. غير أن جوانا سيلفستري، التي تبدو الوجه الحسي لساردة "التعويذة" نفسها، ليست الشخصية الوحيدة التي تتحقق على هذا النحو، فبطل القصة الأولى "المدعو سينسيني"، يمارس اللعبة نفسها، لكن "المحقق" هذه المرة هو السارد، متحدثاً بالضمير الأول، لتنقلب اللعبة، فيصبح البطل الفعلي للقصة "هو" بدلاً من "أنا". ومثلما تنتهي قصة جوانا بلقاء رجل قادم من الذاكرة، تنتهي قصة سينسيني بلقاء السارد وابنته. "هنري سيمون لوبرنس"، شخصية أخرى، تقدم قصتها كبانوراما "عمومية" وليس كمشهد مقرب أو مفارقة. لا ينهض في علاقة مباشرة بالراوي، لأن قصته تحدث "أثناء الحرب الثانية". هنا، يتحول السارد غير المشارك إلى سارد عليم، يطل على حياة بطله من أعلى ولا يتورع عن قراءة أفكاره وتقديمه بالنيابة عن نفسه. لكن المحصلة هي، مجدداً، رواية ملخصة ومبتسرة إذ لا تمثل نهاية القصة نهايةً من أي نوع.

على جانب آخر، دائماً تنطلق القصص من هذا الغياب رغبةً في حضور أخير، غالباً ما يكون عابراً ومحبطاً، كأنه الحضور الذي يعمق الغياب. تنتهي مراسلات الكاتبين "السارد وسينسيني" بلقاء عبثي مع ابنة الكاتب لا يستغرق من القصة سوى بضعة سطور. وبالمثل تنتهي قصة "مغامرة أدبية"، التي تحتل لعبتها مطاردة غامضة بين كاتبين "أ" و"ب" بلقاء سريع لا نلمح منه سوى عبارات التحية، وبعد ذلك لا شيء. لا تبدو نصوص بولانيو القصصية قصصاً تنطفئ فجأة بقدر ما تبدو في حاجة لاكتمال، كأنها مكتوبة بيد الضجر.

العكس أيضاً يحدث، فمن قمة الحضور بين السارد و"إنريكي مارتن"، في القصة التي تحمل اسم الأخير، لقمة الغياب، عندما يشنق الشاعر غير المتحقق نفسه تاركاً قصائده في ظرف مغلق للسارد، كأنه يأتمنه على مقبرته.

 في القصص الثلاث عشرة التي تشكل مجمل النصوص، يلتقط بولانيو الذوات الأشد هامشية في العالم، من الأميركيين اللاتينيين التائهين في العالم، ضحايا الظرف الاجتماعي أو الديكتاتورية والاستبداد، ضحايا الكتابة والأوساط الثقافية الأوروبية. كافة الشخوص التي دخلت العالم من بابه الصغير هي أبطال هذه المجموعة وتظهر دائماً في حالٍ من اثنين: إما في علاقة بالسارد، الذي يحضر في هذه الحالة بالضمير الأول ملتبساً ببولانيو الواقعي نفسه، وإما عبر وجودٍ بانورامي لشخصية يرصده السارد دون أن يشارك فيه لكن بنظرة كلية تجعله أقرب ما يكون للسارد العليم وبروح تلخيصية تُجرد القصة من أية حيوية مشهدية لصالح تقريرية تلخيصية: "يُدعى البطل لوبرنس. يعطي الاسم انطباعات معينة لا يُعرف مصدرها تحديداً، كما أنه ليس "برنس على الإطلاق، بل ينتمي إلى الطبقة المتوسطة أو المتوسطة الدنيا، وذو صداقات متواضعة، وهو كاتب. هو كاتب فاشل بما لا يدع مجالاً للشك، أي يعيش على العمل في جرائد الصحافة الفرنسية الحقيرة".

يُبئِّر بولانيو في هذا الكتاب القصصي، شخصيات تبدو وكأنها وجدت نفسها فجأة تحت ضوء الفن فيما هي ذائبة في عادية الحياة اليومية. مرة بعد أخرى، تبدو القصة "بورتريه" لشخصية فنية في طريقها للعثور على قصة من بين ركام قصص تُشكّل حياتها، أكثر مما تبدو مشهداً حدثياً أو تفصيلة حكائية تبرزها المفارقة. من اللافت أن سبع قصص من بين القصص الثلاث عشرة التي تؤلف المجموعة تحمل عناوينها من دون مواربة أسماء أبطالها، وحتى القصص الأخرى، تتمحور كل منها بوضوح حول شخصية فنية توحي بأنها ليست بشخصية فنية. يرسمها بولانيو أكثر مما يمنحها القصة، كأن القصة في هذه المجموعة نص إرجاء. كأنها، بالأحرى، وعدٌ بنصّ.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.