}
قراءات

"بوضة" أورهان باموق المُـرّة!

الصحبي العلاني

30 سبتمبر 2017

"التجارة شطارة"... مَثَلٌ سائر على الألسنة، لطالما ردّدناه وردّده قبلنا أجدادنا حتّى استقرّ في الأذهان استقرار القاعدة العامّة والقانون الثابت، به تُفسّر أحوال السوق بين تراجع وركود، ورواج وصعود. ومع ذلك، فقليلاً ما يخطر ببالنا أن نسحب هذا المثل على عالم الكتب والمنشورات، هذه التي تُطالعنا يوميّا في واجهات المكتبات أو في الأكشاك وعلى قارعة الطرقات. ففي نظر الكثيرين ما يزال إنتاج الأفكار وتداولها مُحاطاً بهالة من النُّبل والفخامة، والوقار والجسامة، إلى درجة أصبح فيها من العسير أن نتخيّل أنّ قوانين السوق التي تحكم الخيار والكباب، هي نفسها التي تحكم المجلّة والكتاب! 

لكن، وفي ظرف ثلاثة أشهر (بين يوليو/ حزيران وسبتمبر/ أيلول 2017) نبّهتنا دار غاليمار الباريسيّة للنشر إلى "الحقيقة الحلوة"! حقيقة أنّ ترويج الكتاب عمل من أعمال الإثارة والمهارة. وذلك ما ينطبق على الترجمة الفرنسيّة لرواية الكاتب التركي أورهان باموق التي حملت عنوان "هذا الشيء الغريب فِيَّ"...

كتاب الصيف.. كتاب الخريف!

في منتصف يوليو/حزيران، وقبل أن يُعلن الصيف بكامل الوضوح عن حرارته، تصدّرت رواية أورهان باموق واجهات المكتبات.

يبدو الخبر، إلى حدوده هذه، عاديّا جدّاً ومألوفاً للغاية. فدُور النشر الفرنسيّة لم تنقطع يوماً عن إصدار عشرات الأعمال وفق نظام لها معلوم وخطط تسويقيّة مدروسة صارت أقرب إلى "الشفرة" أو "الرمز الاصطلاحيّ" المتّفق عليه بينها وبين سائر القرّاء. من ذلك، وعلى سبيل المثال، أنّها تُخصّص الصيف لما يمكن أن نُسمِّيه بـ"منشورات الاسترخاء". وهي منشورات يجد القارئ معها -أثناء العطلة- متّسعاً من الوقت للمطالعة دون أن يكون واقعاً تحت ضغط الزمن المتسارع ونسق الحياة اليوميّ القاتل.

أمّا في الخريف، أو ما يُعرف لدى الفرنسيّين -اصطلاحاً- بـ"فترة العَوْدة" (أو -حرفيّاً- بـ"الدخول")، فغالباً ما يقع الترويج للنصوص الجديدة والحرص على إبرازها والتركيز عليها، أملاً في أن يحصل أحدها على جائزة من الجوائز الكثيرة التي تزخر بها الساحة الثقافيّة الفرنسيّة.

وأمّا الشتاء، فتحكمه -في عُرف دور النشر الفرنسيّة- تقاليد أخرى من أهمّ ما يميّزها الإقبال على إصدار الأعمال التي يشتعل معها الخلاف وتتطاير على جَنَباتها ألسنة الجدل ولا سيّما في مجالَيْ السياسة والمجتمع.. خلاف وجدل يجد فيهما قرّاء الفرنسيّة بعض ما يُدفئ ليالي الشتاء الباردة!

وأمّا الربيع، فله شأنٌ آخرُ مغايرٌ لأنّه مزيجٌ من سائر الفصول وإعلانٌ عن حياة لا تنقطع!
وما كان لنا أن نرسم هذه الصورة عن "دورة الفصول" في سياسات دُور النشر الفرنسيّة ولا أن نستحضر ملامحها الكبرى المميّزة، فَصْلاً فَصْلاً، لولا أنّ عمل أورهان باموق قد وقع موقعاً غريباً بعض الشيء يكاد يخرق "القواعد" ويلامس حدود الاستثناء.

فبعد أن عمدت دار غاليمار إلى إصدار الرواية في منتصف شهر يوليو/حزيران على أساس كونها عملاً يُقرأ لمجرّد "المتعة والاسترخاء"، ها هي تفاجئنا بإدراجها ضمن نصوص "العَوْدة" (أو "الدخول")؛ فتجعلها بذلك من بين ما تُراهن عليه ضمن الأعمال المرشّحة للفوز بجائزة من جوائز الموسم الجديد.

ما الذي حصل -بالضّبط- حتّى يتحوّل نصّ روائيّ وضَعَه ناشره ومترجمه -في البدء- ضمن "سياق صيفيّ" سِمَتُهُ لذّة القراءة ومتعة المطالعة ثمّ ما لبث أن حوّله إلى "سياق خريفيّ" مختلف سِمَتُهُ التزاحم والتنافس، أملاً في الظّفر بجائزة من الجوائز الأدبيّة الفرنسيّة التي لا يمكن إلاّ أن تضمن للنصّ هالة من التكريس والتبجيل والانتشار؟

باموق... الحجَر والياقوت!

جواب ذلك في المَثَل الذي افتتحنا به هذه المقالة: "التجارة شطارة"، وفي ما أضفناه إليه حين نبّهنا إلى أنّها أيضا "إثارة ومهارة". ففي الصيف، لفتت دار غاليمار للنشر انتباه قرّائها إلى رواية باموق وسوّقتها على أساس كونها "مجرّد" نصّ من نصوص "المتعة والاسترخاء"، لا غير؛ حتّى إذا تأكّد لديها أنّ القرّاء قد "ابتلعوا الطُّعم" الذي استدرجتهم به، عمدت إلى نقل الرواية إلى مقامٍ أرفع: مقام النصّ الجدير بأن يُنافس على أهمّ الجوائز، جوائز الخريف. وبفضل هذه السياسة التسويقيّة، تحوّل "حَجَرُ" باموق "الزهيد" إلى "ياقوت فريد"، فاكتسبت الرواية بذلك قيمة مضافة في أعين القرّاء والنقّاد، لمجرّد أن القائمين على ترويجها قد خرجوا بها من مقام "المطالعة الاستهلاكيّة" إلى مقام "المراهنة على التتويج".

ولكنّ "تحويل وجهة النصّ"، هذا الذي تحكّمت فيه سياسات التسويق وانعكس بشكل مباشر على سياقات النشر ومقامات التقبّل لم يكن بالمرّة -وحسب تقديرنا- مجرّد عمل عفويّ مُرتجل؛ بل إنّ ثمّة أسباباً موضوعيّةً دفعت إليه وحدّدت ملامحه الكبرى والاختيارات الأساسيّة فيه.

فرواية أورهان باموق، "هذا الشيء الغريب فِيَّ"، رواية ضخمة على صعيد الكمّ، تقع في حوالي 700 صفحة؛ حتّى إنّني -لحظة اقتنائي لها ووقوفي في الطابور الطويل لسداد ثمنها- كنت أسلّي النفس وأواسيها عبر طرح أسئلة مضحكة/غبيّة من قبيل:
هل هذه روايةٌ أم دليلُ هاتف؟!
هل ستكفيني عطلة الصيف لقراءة صفحاتها الطوال؟
ما الشيء "الغريب" الذي سكن أورهان باموق ودفعه إلى كتابة هذا الفيض الغامر من الفصول؟

وبالنظر إلى ضخامة كمّ الرواية، يبدو من الواضح أنّ دار غاليمار للنشر قد منحت قرّاءها الصيفَ كلّه حتّى يطالعوا العمل ويغوصوا في عوالمه (على هامش غوصهم بين الأمواج هنا وهنالك!)... حتّى إذا انقضى "لغو الصيف" (كما يقول طه حسين) عادت بهم إلى "جِدّ الخريف" (كما لم يَقُلْ، رحمه الله!).

ومهما يكن من أمر؛ فقد أحسنت دار غاليمار للنشر صُنعاً، (من هذه الزاوية بالذات). فرواية أورهان باموق، "هذا الشيء الغريب فِيَّ"، لا يمكن أن تُقرأ إلاّ في متّسع من الوقت وفي غمرة من المشاعر المتضاربة كالأمواج تماماً! وليس من الصدفة أن يكون صاحبُها التركيَّ الوحيدَ الذي حصل على جائزة نوبل للآداب (2006) بمعدّل سحب لأعماله يتجاوز عشرة ملايين نسخة في أكثر من ستّين لغة عبر العالم. ولعلّ مكمن القوّة في نصوصه -بدءاً بروايته الأولى "جودت بك وأبناؤه" (1982)، مروراً بـ"المنزل الهادئ" (1991)، و"القلعة البيضاء" (1995)، و"الكتاب الأسود" (1997)، و"متحف البراءة" (2008)، وغيرها- أنّها تعبّر بصيغ شتّى عن عشق واحد اسمه "اسطنبول"!

تلك التي في خاطري وفي دمي!

على امتداد مدوّنته السرديّة التي يعود أوّل نصّ من نصوصها إلى بدايات سنوات الثمانين من القرن المنقضي، وصولاً إلى روايته الأخيرة، "ذلك الشيء الغريب فيَّ"، لم تغب اسطنبول عن أعمال باموق. ولكنّ حضورها المستمرّ عبر آثاره لم يوقع الكاتبَ في التكرار والاجترار. فهو لم يتوقّف عند حدود تصوير الواقع الراهن للمكان "كما هو"، ولم يقتصر على استعادته واستدعائه من الماضي "بالصورة التي كان عليها"، ولم يكتف بمساءلة المستقبل عمّا يمكن أن يأتي به الغيب أو يكشف عنه المستور؛ بل إنّه عمد إلى توظيف تقنيات سرديّة متنوّعة أتاحت له أن يدفع القرّاء إلى الوعي بأنّ المكان/اسطنبول مضمّخ بالزمان/تاريخها (مذ كان اسمها "القسطنطينيّة")، ملطّخ به، مضخَّم بواسطة التخييل ومن خلاله. وتأسيساً على هذا المعنى، بدا المكانُ الذي رسمت عوالمُ باموق السرديّةُ حدودَه مُخْتَرَقاً بالزمان اختراقَ "النّصل الحادّ" لـ"الجسد الحيّ".

وفي خضمّ "ألم الاختراق"/"ألق الاختراق"، اكتسبت نصوص الكاتب مذاقا مختلفا امتزجت فيه المرارة بالحلاوة، والبساطة بالفخامة، والتعاسة بالسعادة. ومن عمق التقابل الحادّ الذي يسم هذه المفاهيم، وفي صميم التباين الصارخ الذي تطالعنا به، ظلّ خطاب أورهان باموق السرديّ قائما على ما يشبه النواة المنشطرة ذات المكوّنات المتفاعلة التي تتولّد عنها، وإلى ما لا نهاية، طاقةُ الحكي التي لا حدود لدفقها.

لكن -وخلافاً لما كان عليه الأمر في روايات باموق السابقة، هذه التي تميّزت بسَبِرِها المتواصل لحياةِ الأرستقراطيّة التركيّة- سلك الكاتب في روايته الأخيرة، "هذا الشيء الغريب فيَّ"، مسلكاً مغايراً بدا لنا فيه أنّه من الواضح يبحث عن آفاق في الكتابة جديدة وعن مجالات في التخييل مغايرة؛ بالرغم من أنّه لم يفارق عالم اسطنبول ولم يغادر حيّزها المكانيّ/الزمانيّ.
وفرق ما بين سابق الأعمال وراهنها أنّ أورهان باموق لم يهتمّ في عمله الأخير بـ"الباكوات" ولا بـ"الباشوات"، هؤلاء الذين ركّز عليهم في روايته الأولى "جودت بك وأبناؤه" (1982)؛ وأنّه لم يحصر أفقه السرديّ ضمن "فضاءات مغلقة"، مثلما هو الشأن مع روايتَيْه "المنزل الهادئ" (1991)، و"القلعة البيضاء" (1995)؛ بل أنّه بدا حريصا كلّ الحرص على الانعتاق من أسر المكان ليرتمِيَ -دون أدنى تحفّظ- في أحضان الزمان؛ وهو يدرك جيّداً أن ارتماءه ذاك ليس ارتماءً في الفراغ أو في المجهول. فقد كانت اسطنبول بالنسبة إليه أكثر من "نقطة" في خرائط الجغرافيا، وأعظم من صفحة في حوادث التاريخ: إنّها كينونة حملها في "خاطره وفي دمه" وبثّها في روح شخصيّاته.

دروب اسطنبول الخفيّة

في روايته الأخيرة "هذا الشيء الغريب فيّ" يتّخذ السرد لدى أورهان باموق أبعاداً جديدة من أهمّ ما يميّزها اهتمامه بالفئات الشعبيّة ذات النشأة العاميّة المتواضعة. وتأكيداً لهذا المنحى، كان مدار الأحداث في العمل على شخصيّة محوريّة حملت اسم "ميفلوت كاراتاس". وهي شخصيّة رأت النور في الأناضول، في بيئة ريفيّة فقيرة بائسة؛ ولكنّ أورهان باموق اختار لها قدراً جديداً مغايراً حين أغراها بالنزوح إلى اسطنبول بحثا عن "حياة أخرى" وعن "أفق مختلف". غير أنّ هذا المكان الجديد الذي اعتقدت الشخصيّة -واعتقدنا معها على سبيل التماهي- أنّه جنّة العيش وموطن الاستقرار وموعد الخلاص والفرصة المثلى لتحقيق الذات وإثبات الوجود لم يكن كذلك حقّا، بل يستحيل أن يكون!

فاسطنبول بالنسبة إلى "ميفلوت كاراتاس"، وبالنسبة إلى حجافل النازحين من الريف أمثاله، ليست سوى "ورطة" لا فكاك منها، ولا أمل في تخطّيها أو الابتعاد عنها!

سرديّاً، ومن منظورٍ فنيٍّ خالصٍ، كان أورهان باموق في منتهى "الدهاء" وفي غاية الحرفيّة!
فقد أرخى لـ"ميفلوت كاراتاس" عنان الحركة في المكان حين اختار له مهنة "التاجر المتجوّل". وإمعاناً منه في توريط شخصيّته الروائيّة المركزيّة عبر تفاصيل المكان، لم يسمَحْ لها بأن تتاجر في الأقمشة الناعمة ولا في الأثاث القديم (على عادة التجّار المتجوّلين)، ولم يغامر بها ومعها من خلال تعريضها لمخاطر المتاجرة في الممنوعات (وقد كان مثل هذا المسار السرديّ التخييليّ ممكنا وأكثر تشويقا)؛ بل إنّه سلك بها مسلكاً وسطاً وطريقاً "مأمونة" -في الظاهر على الأقلّ- حين جعل من "البوضة" (تقليديّة الصنع عريقة المذاق) محور نشاطها التجاريّ الجوّال.

ولعلّ أكثر ما يشدّ القارئ إلى هذه الرواية المطوّلة أنّ "ورطة" المكان (اسطنبول)؛ و"ورطة" الحدث (بيع "البوضة" عبر الشوارع والأحياء)؛ قد أفضتا بالشخصيّة المركزيّة في العمل إلى الوقوع في الورطة الأعمق: ورطة الزمن! وهي ورطة من الواضح أنّ شخصيّة "ميفلوت كاراتاس" لم تحسب لها أيّ حساب؛ شأنها في ذلك شأننا نحن القرّاء الذين أسرَنا "عبق المكان" فذهلنا عن حقيقة جريان "أحكام الزمان" (وما أقساها!).

من سنة 1969 إلى سنة 2012، أي على امتداد ما يناهز نصف قرن من الزمان، أفنى "ميفلوت كاراتاس" عمره في المكان وهو يجوب جغرافيا اسطنبول ويدفع أمامه عربة البوضة ويبيع للعابرين حلاوة الدنيا وأطيب المذاقات...

وفي غمرة انغماسه في المكان وتجواله عبره، انبثقت أمامنا -بين سطور الرواية وفي تضاعيف صفحاتها الطوال- الحقيقة الأكثر مرارة:
لقد كانت بوضة "ميفلوت كاراتاس" مغشوشة!

صحيح أنّنا نجد فيها -للوهلة الأولى- طعم السُّكَّرِ إلى درجة السُّكْر والانتشاء؛ ولكنّ مذاقها الحلو سرعان ما ينقلب إلى مرارة في الحلق... إلى ما يُشبه الغصَّة تأخذنا، وتغمرنا، وتستبدّ بنا ونحن نجهد النفس -عبثاً- في إخفائها... إلى أن ينكشف "الشيء الغريب فينا"... البَوْحُ الذي لا نستطيع كتمانه.. والمجاهرة بالأسرار التي لم يقدر أورهان باموق على إخفائها!

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.