}
عروض

"قطعة جحيم لهذه الجنة".. الأبجدية والبوط العسكري

جمال شحيّد

12 أكتوبر 2017

 

أصدر الشاعر السوري عادل محمود مؤخراً روايته الثانية "قطعة جحيم لهذه الجنة" (دمشق، دار التكوين، 2017) بعد رواية "إلى الأبد ويوم" التي حصلت على جائزة دبي الثقافية للإبداع (2007) والتي يسخر عنوانها من شعار "التأبيد" الذي بُليت به بعض الأنظمة السياسية العربية.  ولكن رواية "قطعة جحيم لهذه الجنة" تتناول حياة الكاتب أثناء سنوات الثورة السورية؛ وتتألف من 12 يومية تمتد من 3 إبريل/ نيسان 2011 وتصل إلى 9 ديسمبر/ كانون الأول.


بين الطفولة والسبعين


صحيح أن عناوين اليوميات تعالج السنوات الأربع من عمر الثورة أو الانتفاضة أو الأزمة، كما يحلو لبعضهم تسميتها، ولكن تداعيات الرواية تعيدنا إلى طفولة الكاتب: "في مثل هذا اليوم... / نطفة كالرصاصة، اخترقت بويضة، كالأسيرة، / فهشمتها، فجئت أنا إلى هذا الوجود، / وانضممتُ، مبتهجاً، الى ورشة الأعمال العسيرة... الحياة" (10/6/1946). ويذكر أنه في الخامسة عشرة حضر لأول مرة في حياته عرساً انتهى إلى مأتم، بعد أن دارت معركة بين البعثيين والشيوعيين. وعلى حائط غرفة الجلوس في بيتهم في القرية ما زالت تُعلّق صورة خاله الذي تطوّع في جيش الإنقاذ بقيادة فوزي القاوقجي، ولم يعد من حرب فلسطين. وفي الخامسة عشرة من عمره ايضاً، يروي لنا بعض قراءاته: "تحت ظلال الزيزفون" للمنفلوطي، "النبي" لجبران، ثم كرّت سبحة القراءة. كما يستذكر سنوات الدراسة في مدرسة بعيدة عن قريته، وكيف جرف النهر فردة حذائه أثناء مسيرة ساعتين للوصول إلى المدرسة.

بعد هذه الذكريات الطفلية ننتقل إلى حياة الرجل السبعيني التي دوّن فيها يومياته السورية في زمن الحرب. تعيدنا اليومية الأولى إلى ذلك الخصام الذي وقع بين علي ومعاوية والذي سقط فيه 60 ألف قتيل، وإلى ألوف الرؤوس المدحرجة بسبب الخلاف على النص القرآني: "هل هو وحي إلهي أو وضع بشري؟" ويعلّق قائلاً: "لو كان الملائكة عرباً لاختلفوا على جنس السماء، كما اختلف الفقهاء على جنس الملائكة".

بعد هذه الشذرات التاريخية اللمّاحة، يحدّثنا عادل محمود عن ذلك "العازب بلا هوادة"، مسترشداً بقول لفرويد: "الزواج قصة حب يموت بطلها في الفصل الأول" (ص 21). وننتقل بعد ذلك إلى علاقته بلونا الصحفية المسيحية الشاعرة التي فرّت من دير الزور وسكنت هي وزميلة لها في قرية بسنادا الساحلية. ومن الصفحة 24 حتى آخر الرواية ص 193 يتقاطع خطان متلازمان ومتوازيان: خط الحياة الشخصية مع لونا، وخط يوميات الحرب السورية. كأننا نعود إلى مقولة فرويد: حب Eros (بينه وبين لونا) وموت Thanatos (موت سورية).



سورية اليوم

وتبدأ اليومية الثانية بالقول: "نعرف النظام السوري منذ أربعين سنة: استبداد وفساد، السلاح والعنف أدواته. منذ عشرة أشهر نتعرّف على المعارضة: استبداد، فساد، سلاح وعنف". أمام هذه المعادلة البائسة والصحيحة في آن، يقول: "سورية أوجدت الأبجدية الأولى... وكذلك البوط العسكري الأول" (ص 33). وينقلنا إلى بدايات الثورة: "في ربيع العام 2011 خرج الشبان السوريون إلى المظاهرات يعلنون مطالبهم بالحرية والكرامة. وحاولوا احتلال الساحات في المدن الكبرى، وكانت المحاولات الدؤوبة يوم الجمعة في كل أسبوع، وبشعارات تطورت بسرعة، رداً على قمع شديد من السلطات، بعد فترة لين مدروسة، وأصبحت القسوة في ذروتها عندما انطلق شعار: الشعب يريد إسقاط النظام" (ص 40). وينوّه الكاتب بمؤتمر فندق سميراميس الذي سمحت به السلطة على مضض والذي أدى الى مزيد من القمع والتشريد.


ونصل إلى موضوع الضحايا والغنائم والسبايا. فيعلّق الكاتب استناداً إلى نوبواكي نوتوهارا، وهو مستشرق ياباني عايش العرب 40 سنة، وكتب عام 2003 كتاباً عن مشاهداته في ديار العرب؛ قال: "العربي يكتفي بالماضي. الحكومة لا تتعامل مع الناس بجدّية، بل تضحك عليهم. يعتقدون أن الدين أعطاهم العلم؛ وقد تعرفت على شخص لم يقرأ في عشرين سنة سوى القرآن. وبقي كما هو ولم يتغيّر. سيطرة العسكر على الشعب هي السبب في الدخول في حروب مجنونة..." (ص 51). وحول السبايا يذكر المؤلف أن المسلحين اقتحموا 14 قرية في ريف اللاذقية الشمالي، ونكّلوا بسكانها وسبوا 106 نساء مختارات؛ وكانت هذه العملية رداً على عمليات السلطة في بانياس والبيضة، كما ذكر. ولا يخفي الكاتب عمليات تعفيش العسكر بيوت هذه القرى المهاجَمة؛ كما لم يغفل عن تجاوزات بعض أفراد الطبقة الحاكمة التي أفرزت الشبيحة.

ويتنبأ عادل محمود بما سيحدث في سورية، قال للونا: "هذه الحرب المجنونة لم تصبح مجنونة بعد. سترين بعد قليل، وفي السنوات القادمة. ستفترس هذه الحرب سورية وتمزقها، ومن يعش بعدها وينجُ فستكون الأقسام الممزقة من روح الإنسان السوري صعبة الترميم: الحرب كالحب، سهل أن تبدأها، صعب أن تنهيها، مستحيل أن تنساها" (ص 84). وفي لحظة صدق يقول: "أعيش بين خندقين وقذيفتين وأبيع دوري في طوابير السراب".

وقبيل عودته إلى دمشق من اللاذقية، أطلق جندي خائفٌ النارَ على سيارته لكنه نجا بأعجوبة. ففكر في مغادرة الوطن. وذات مرة أوقفه جندي على حاجز وطلب الهوية فكانت مكسورة وملصقة. فاتهمه العنصر أنه من أنصار الشيخ العرعور وأنزله من السيارة بفظاظة وجرّه إلى الحائط. وفي ملاسنة بينهما "هجم هو وثلاثة عناصر ورموني على الأرض، وقال أحدهم: سأدوس على رقبتك ورأسك..." وكسروا له ضلعاً وقادوه إلى داخل المقر وبدأوا يطفئون سجائرهم في خاصرته وظهره العاري. ولكن أفرج عنه في النهاية بسبب تدخل "ضابط" من الداخل، حين عاين آثار التعذيب وسأل : "شو هاد؟" (ص 108) وقال للعسكري: "انزل معه، وأوقف له تاكسي، وأعطه هويته" (ص 108).

ويعلق على هذه الأجواء المحمومة قائلاً: "معظم الذين يقاتلون هذه السلطة هم أجيالها، الذين تربّوا في حضن ثقافتها وقيمها وشعاراتها... طلائعها وشبيبتها ومعسكراتها" (ص 112).  ويختم الأحداث المأساوية التي عاشها بهذه القصيدة الصغيرة:

"أنا لا يحبني سوى الفاشلين في العثور على الأفضل.

أنا تخطئني قذيفة كانت تشتهيني.

أنا البوصلة استولى عليها التيه.

أنا قارعة الطريق... تجمعوا عندي لأشحنكم إلى المنفى" (ص 128).



سبايا من كل حدب وصوب

واستكمالاً لظاهرة السبايا الايزيديات والآشوريات المسيحيات، صدرت في الرقة لائحة الأسعار: "125$، من 10 أعوام إلى 20. 85$، من 20 إلى 30. 60$، من 30 إلى 40. 170$، الطفلة ذات التسع سنوات" (ص 142). وهذا يذكّر برواية سليم بركات "سبايا سنجار" 2017، التي تناولت ظاهرة السبي الداعشي. ويعلق قائلاً: "نحن في حاجة إلى خطف هذه البلاد من بيت الاستبداد والفوضى، وإعادتها إلى بيت طاعة القانون البشري. نحن في حاجة إلى قنبلة إغماء تخدّر كل من يحمل سلاحاً، لساعات، يتم خلالها جمع الأسلحة ووضعها في بيت الصدأ" (ص 164). ولكن أمراء الحرب لا يريدون لهذه الحرب أن تنتهي.

اختفت لونا لثلاث سنوات، وعندما عادت من السبي قررا الزواج، بسبب إصرارها هي عليه. كانت في العقد الثاني من عمرها وهو في السبعين من عمره. وعادت وبين يديها طفل اسمه بدر الدين، وهو نسخة عنكِ، يقول الراوي للونا. واهتم محام لوذعي وأخصائي في التزوير بجميع الأوراق الضرورية للزواج وسُجّل بدر الدين باسم "كامل معروف" أبي الكاتب. وكان المحامي ماهراً في ضبط الأزمنة، والإفلات من المساءلات. "وهكذا... بعد سبعين سنة، صرت زوجاً على ورق، وأباً لولد ملتبس الهوية والمنفى" (ص 180). ويحتفلان عند صديق موسيقي بحفلة زواجهما. غنت لونا أغنية "في وردة بين هالوردات / سألتنا عنك..."، بعد أن غنى الصديق الموسيقي "عالبال يا عصفورة النهرين" و"خليك مثل القصب مايل على حيلك" و"يا فجر لما تطلّ"... وإذا بالراوي ينشد قصيدة لسعيد عقل بالعامية: "شفت عصفور مهموك، /مسلطن، / عم يخطب ويتجلى. / يقوللو لابنو: / طير وتعلّى / فتافيت خبز قلال... / بيكفوك، / بس السما / رح تلزمك كلّا" (ص 182). وتنتهي قصة الزواج بعودة الزوجين إلى البيت واكتشاف أن لونا عذراء. وارى ان هذه العذرية تترك نقاط استفهام كثيرة حول صدقيتها، خاصة وأنها سبيت لثلاث سنوات.

وتبدأ اليومية الأخيرة لسورية في زمن الحرب (9 كانون الأول / ديسمبر 2014) بهذه القصيدة اللماحة:

سورية... يا للجغرافيا القاتلة.

لطلب يدها... يحطمون قلبها.

للاحتفاظ بحليبها... يقطعون أثداءها.

للتفاخر بتاريخها... يمزقون هويتها

وللانتصار بها... ينتصرون عليها" (ص 187).

ويعلق: "ليس للأطراف المتصارعة مصلحة في الحل الآن". وكي لا يتركنا الكاتب في حالة من اليأس القاتل، يعنون آخر فصل من روايته "زمن النور". وتتكلم لونا التي ـ كما يقول النص ـ كانت حاملاً في شهرها التاسع، عن الخلاص السوري، الخلاص السوري / السوري / الأخوي فتقول : "سأقضي الوقت بالتضميد المثابر لجروح سأجعلها قابلة للشفاء" (ص 193). وتنتهي الرواية بهذا الهايكو الياباني:

"هذا الشارع... جميل جداً

في المطر،

وتحت أشعة الشمس.

إنه الشارع الأجمل في العالم...

هنا التقيته...

أول مرة" (ص 193).

عود على بدء

في هذا الكتاب الجميل الذي يراوح بين الرواية والشعر والسيرة الذاتية، باح عادل محمود بحبه الملتاع لسورية التي دمرها ـ كما قال ـ حقدان مدمّران ممثَّلان بالنظام الذي شدّد على أن السياسة: "ليست فن الممكن بل فنون المجزرة" (ص 133)، وبالمسلحين المصابين بداء النظام أي: الاستبداد والفساد. ويتكلم عن جرائم هاتين العصبتين (ص 112). ويعلن: "ها نحن في سورية تعوّدنا، مثل حفاري القبور، على مشرحة الذبح والتقطيع والتشويه والحرب" (ص 132). وفي لحظة يأس يقول: "ساعدوني أيها الأصدقاء في الذهاب إلى قبري، فدودي جائع" (ص 135).

ولكن هذه الرواية المسيّسة في المحصلة تهجس بمقولة الزمن أو التاريخ، مما يذكّر بابن خلدون القائل: إن الأنظمة السياسية، شأنها شأن كل الكائنات الحية: تنشأ، وتنمو، ويشتد ساعدها فتؤسس دولة أو إمبراطورية، وتعيش في بحبوحة، ثم تلجأ إلى جيش من الأجانب المرتزقة، وتضعف، وتأتي عصبية جديدة تحل محلها. أعتى الممالك في التاريخ سقطت. لذا أفضل أنظمة الحكم هي الأنظمة الواقعية الرشيدة التي شعارها: "قل كلمتك وامشِ". هذا ما قاله الكاتب في روايته "إلى الأبد ويوم".

قد يقول قائل إن عادل محمود في هذه الرواية زئبقي يضرب ضربة على الحافر (الجحيم) وضربة على المسمار (الجنة). كأني بصاحب هذا القول يفرض على الكاتب أن يصطف مع هذا الفريق أو ذاك. وهذا الاصطفاف: إما معنا أو علينا، هو الذي دمّر البلاد وسكّانها وممتلكاتها، ولم يأخذ بالتعددية السورية، وأفرز أمراء الحرب وأغنياءها  الذين "لا يريدون لهذه المأساة أن تتوقف" (ص 165).

ومن اللافت أن هذه الرواية مطبوعة في سورية وأنها حصلت على موافقة الرقابة، مما يشير – وقد أكون واهماً – إلى أن الانغلاق السابق بدأ يفتر، وأن أخطاء الماضي يجب ألا تتكرر بعد كل الكروب التي ألمت بسورية وبالسوريين.

يقول النص: "بلغ عدد السوريين المحتاجين للمساعدة 13 مليوناً. دعوا نصف هؤلاء، فقط، يقترحون الحلول للأزمة السورية، وأنا واثق من وجود مئة حل أفضل مما جُرّب حتى الآن. اذا لم ينفع كل ذلك، فهذا يعني: ليس للاطلراف المتصارعة مصلحة في الحل الآن. وعندئذ... سنقيم في الميلاد القادم، قداساً على أرواحنا" (ص 188). دعوة إلى التصالح، ولكن من منظور آخر.

يقول نبيل سليمان عن عادل محمود إنه يعزز الزحف الشعري إلى الرواية. ويتساءل إن كان ذلك "عبئاً بنائياً أو خديعة لغوية، أو نسغاً مختلفاً في الرواية" يغذّيه عدد من أهم الشعراء والروائيين العرب المعاصرين (الحياة 3/9/2017). ويبقى أن هذه الرواية التي يهديها عادل لنفسه هي سرد صادق للذات، وجمعت التراجيديا والكوميديا اللتين يقول كارل ماركس عنهما: "التراجيديا هي فناء شخص يكون صالحاً للحياة. أما الكوميديا فهي بقاء شخص لم يعد صالحاً للحياة" (ص 184). هي بخاصة رواية الجسد والتقدم في السن، رواية الذات القلقة ورواية سورية الراعفة التي تنتظر المجهول.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.