}
عروض

علي أبو عجمية جامعًا ثلاثة من أشكال البناء الشِعريّ

عمر شبانة

15 أغسطس 2017

يشكّل الشاعر الفلسطيني علي أبو عجميّة حالة من حالات "الخروج" على مألوف القصيدة الفلسطينية، إذ يضرب في طرقات جديدة، حتى لو كانت صورة من صور "المتاهة"، بحثًا عن مخارج ومداخل إلى "وطن" شعريّ جديد. هذه هي السمة البارزة في تجربة الشاعر الشابّ الذي يبدو متمرّدًا على "شعرية" الوطن ومفرداته المألوفة، من خلال كسر المتوقّع، وولوج الغرائبي.

منذ المفردة الأولى في عنوان مجموعته الشعرية هذه "نهايات غادرها الأبطال والقتلة"، يرسم الشاعر علي أبو عجمية بداية الخط البياني لقصيدته "ثلاثيّة الجنسية" إذا جاز التعبير، إذ إنه يكتب ثلاثة أشكال من القصائد تتجاور في هذه المجموعة، أعني "البحور الخليليّة المركّبة"، إلى جانب قصيدة التفعيلة الواحدة (ولنسمّها السيّابية نسبة إلى السيّاب)، وجنبًا إلى جنب قصيدة النثر أيضًا، وإن كنتُ أفضّل القصيدة الخليليّة لديه، كونَها الأقوى سبكًا، والأقدر على الوصول بمضمونها وصورها ومفرداتها وبنائها، فضلًا عن طزاجتها التي نادرًا ما يجيدها شاعر من هذا الجيل (علي أبو عجمية مولود في مدينة الخليل عام 1988، وصدرت له من قبل مجموعة "سفر ينصت للعائلة" 2013). هنا إضاءات أوّلية على هذه التجربة الشابّة، ولكن الجريئة أيضًا.

منذ كلمة "نهايات"، إذن، يأخذنا الشاعر إلى عالمه، بل عوالمه التي تتمظهر في صور من الخيبات، لعلّها تتمثّل أول ما تتمثّل، وبعد عتبة العنوان الأول، في عناوين القصائد: الخسارات، عشاء القطيعة، أقفاص سعيدة، غرفة اليأس النضرة، طير اليأس، موقد الطير، تفّاحات ثملة، الماء والحريق والموت، أخطاء الشطرنج، قلّتي في الظلّ.. كثرتي في الريح، وغيرها. لكن ليس هذا كل ما هنالك، فثمّة أنفاس أخرى تسري في المجموعة، تحمل عناوين الحب والطبيعة وغيرها.

بالعودة إلى العتبة الأولى لهذه المجموعة (صدرت عن الأهلية للنشر والتوزيع في الأردن- عمّان، 94 صفحة، وصمم غلافه الشاعر زهير أبو شايب من لوحة للفنان الكندي سكوت بيرغي ووقّعها الشاعر في متحف محمود درويش قبل أيّام)، فإننا نجد أنفسنا حيال نهايات تجمع "الأبطال والقتلة"، على حدّ سواء، والعنوان نفسه، مستلٌّ من مقطع في قصيدة "عشاء القطيعة"، حيث المؤلّف يؤلّف نهايات، لكنّ "كلّ النهايات التي ألّفتُها/ غادرها الأبطال/ والقتلة". أما إهداء المجموعة "إلى صديق لا يعود، وإلى امرأة لا تأتي"، فهو مدخلٌ آخر إلى الخيبات والخسارات. وفي قراءتي هذه، سوف أحاول الوقوف على هذه الأشكال الثلاثة من القصيد، الخليلية والسيابية والنثر، متوقّفًا سريعًا عند ملامح من كلّ شكل منها.   

في باب قصيدة التفعيلة الخليليّة المركّبة، يكتب أبو عجميّة ببراعة وانطلاق، لا تعيقه "القيود" التي يتحدّث عنها كثيرون ممّن لا يجيدون الكتابة بالبحور الخليليّة، فنجد استخدامه للبحر البسيط ذي التفعيلات المعروفة "مستفعلن/ فاعلن/ مستفعلن/ فعلن"، في القصيدة الأولى من المجموعة التي تحمل عنوان "منذ الإنشاد"، ليقدّم لنا تأمّلاته الإنشادية العذبة "من أنتِ؟ من ذاكَ؟ من لا يعرفُ الأمَلا/ أو يعرفُ اليأسَ عند اليأسِ متّصلا/ أرى جدارًا، أرى ليلًا ونائمةً/ أرى كتابًا لها مستوقفًا رَجُلا/ لهُ النهارُ، لهُ النومُ الخفيفُ لهُ/ المُستنقعُ الملِحُ، لكن يصعد الجَبَلا".

وقد يبدأ الشاعر قصيدته بالنثر، ثم يكمل بالتفعيلة الواحدة، وهذه ظاهرة غير مالوفة في شعرنا الجديد تحديدًا. نتوقّف مثلا لنرى ما هو الحال في قصيدة "عن الحبّ والغابة" حيث البداية بالمقطع النثريّ "أغنّي للصعاليك والقتلى/ حنجرتي مذعورة مثل ناي من الدم/ آهٍ أيُّها الحبّ، يا سيّدَ الانهيار/ امنحني بِشارةَ الملحِ والنسيان، واترك لنا صورة في رحيلك". ثم في المقطع التالي ينتقل إلى قصيدة التفعيلة، كما في هذه الأبيات "هو الحبّ يأتي ببطء، ودون أذىً/ ثمّ يمضي كأرنبةٍ/ تعثر الآن في غابة فتموت". وفي القصيدة ذاتها نقرأ "تركنا نبات الوُعول على حجر في البراري/ ولكن إلى أين تأخذنا يا قليل المَسرّات/ يا سيّد الغابةِ الآن".

وسواء توقّفنا عند القصيدة الخليليّة المركّبة، أم مع قصيدة التفعيلة الواحدة، أم قصيدة النثر، فإنّنا في الحالات كلّها أمام لغة منحوتة بمهارة، لغة تصويرية حينًا، تأمّلية حينًا، وجديدة في كل الأحوال. وفي هذه اللغة الجديدة والمختلفة، وعبر تراكيب غير مألوفة، وعلى قدر من الإدهاش، يصوغ أبو عجمية عالمه المحتشد بالغرائب والتراكيب اللغوية كما في قصيدة "الخسارات"، حيث نقرأ قوله "أنا المُسافرُ أيّامي لمن ذهبوا/ إلى الخسارات تلكَ الـمَهْرُها ذهبُ"، فهنا نحن حيال جناس ما بين معدن الذهب الثمين، وبين الفعل "ذهبَ" ومصدره الذهاب، من جهة، ومن جهة ثانية أمام استخدام لأل التعريف مع اسم ينتهي بالضمير "المَهرُها"، وهذا نادر الاستخدام عربيّا. 

ورغم تفضيلي القصيدة الخليليّة، بسبب حبّي الشديد للإيقاعات الموسيقية والغناء، لكن هذا لا يمنع من الاستمتاع بمقاطع شعريّة النثر، أو الشعر في النثر، كما هو الحال في هذا المقطع الذي يؤنسن عناصر في الطبيعة "يا تُرابَ الغاباتِ اتبعني إلى الرَدْمِ الكبير، اتبعيني إلى الشجرةِ يا فراشاتُ"، أو يجعل من المتكلّم في القصيدة "عائلةُ الليل"، حينا، ويجعل "الفأسُ الولّادةُ فأسي"، فكيف تكون الفأس ولّادة؟ هنا على القارئ أن يتأمّل عميقًا.

ونذهب إلى مقطع نثريّ آخر، لكنّه محتشد بالشعر، بل بالغناء والتراتيل الإنشاديّة أيضًا، وفيه التعويذة والنُسك والمرارات، وهي ما يمنحه شاعرية مختلفة "يحدثُ أن أُحبّكِ؛ أن أعذّبَ قلبكِ كلّما شِئتُ، وأن أُعوّذَهُ بالروائحِ والأناشيد، ما من أحدٍ أراني ما رأيتُ منكِ، إذ لا تُصنعُ عيني إلّا على عينكِ، وما شغلني عن يديكِ الناسكتين إلّا طريقُ المرارةِ والخُبزِ، إنّني أفنيتُ أيّاميَ كلّها ولم أجد للنُّكرانِ باباً ولا لروحيَ المغلوبةِ موئلاً إلّا غِيابكِ الغنيّ ونسيانكِ الفقير".

أخيرًا، فإنّ ثمّة بعض الزحافات، وربّما الكسور الوزنيّة، مثلما هو الحال مع قوله "صيفي نبيذي، دمي الآن أهتكه/ فيما نديماه الشيطان والشغبُ"، إذ لا يستقيم الوزنُ إلا إذا استعملنا همزة القطع في مفردة "الآن"، بينما حقُّها همزة وصل كما هو معلوم، وكذلك الحال مع مفردة "الشيطان"، إذ لا يستقيم الوزنُ إلا بهمزة القطع، فيما حقُّها همزة وصل أيضًا. لكن مثل هذا الخلل قليل جدا، وربّما يعدّه البعض في باب "ما يحقّ للشاعر ولا يحقّ لغيره"، إلا أنّها تستوقف القارئ ذا الأذن الموسيقيّة شديدة الحساسيّة، خصوصًا أن الشاعر يجيد بناء البيت العموديّ على نحو جميل ومتين، ما يجعل من أيّ خلل عَروضيّ أمرًا ناتئًا وشاذّا.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.