}
عروض

لا ماء يروي عطش المقهورين

عارف حمزة

20 أغسطس 2017

تأتي رواية "لا ماء يرويها" للروائيّة السوريّة نجاة عبد الصمد، في غير ما ننتظره نحن قرّاء الروايات السوريّة الصادرة في الأعوام الأخيرة؛ فهي رواية لا تجري خلال "الحرب السوريّة" التي ما زالت مستمرة منذ سبع سنوات تقريباً. على خلاف الروايات والقصص التي صدرت، منذ الثورة السوريّة في آذار/ مارس من عام 2011، وتصدر مُخلصة لتلك الحرب؛ سواء أكانت الحرب فضاء يُحيط بمجمل العمل، أو حاملاً له. كما أنّها، من جهة أخرى، تذهب إلى الريف السوريّ، الذي أدار له كثير من الروائيات والروائيين السوريين ظهورهم، رغم أنّ نسبة ساحقة من أولئك الكتّاب جاءت من ذلك الريف. ومن ناحية أخرى تُضيء عبد الصمد ما يُحاول الكثيرون إعتامه حول "الطائفة الدرزيّة" وحيوات الناس هناك في الجنوب الغربيّ من سوريّة، أو بالضبط في محافظة "السويداء" وريفها.

يشعر أحدنا بأنّ هذا العمل عملت عليه عبد الصمد حتى قبل كتابها "غورنيكات سوريّة" الذي صدر في عام 2013. يظهر هذا الكتاب الجديد، الصادر حديثاً عن منشورات ضفاف في بيروت ومنشورات الاختلاف في الجزائر، وكأنّه يُطبخ على نار هادئة؛ إذ يبدو الأمر لدى عبد الصمد وكأنّها تريد أن تُقدّم شيئاً مختلفاً دون استغلال أي ظرف من الظروف التي تحدثنا عنها في المقدمة، سوى متعة القارئ، رغم أن العمل كلّه مبنيّ على آلام شخصيات وجماعات وأماكن مختلفة. وهذا الإخلاص للمتعة جعلها أيضاً منتبهة حتى لعنوان الرواية "لا ماء يرويها"، إذ يحمل في حمولته الكثير بعد الانتهاء من العمل. تنتبه الكاتبة كذلك لأسماء الشخصيّات التي تبدو "دالّة" على مصائر ودواخل شخصيّتها ونصيبها في هذا العمل الروائي.

"حياة"، هي بطلة الرواية، بينما "ناصر" يبدو بطلاً صنعته حياة. هي ثنايّة الحب الذي لا يصل إلى نهايته. حياة صنعت بطولة هذا العمل بألمها الشخصيّ، الذي يُمكن توزيعه على كل النساء الحزانى والمُعنّفات في تلك البقعة التي لا يمرّ فيها أيّ نهر ولو عابراً، وكذلك على البقع الأخرى التي تفيض فيها أنهار كبيرة. أما ناصر فيبدو أن الآخرين صنعوا بطولته في هذا العمل؛ سواء من خلال إخلاص حياة لحبّه، أو من خلال إبعاد عائلته له عن حبيبته، أو من خلال حركة "فتح" التي حوّلته إلى فدائيّ يُنادونه "سبع الجبل". لا تتزوج حياة من ناصر، بل تزوّجت من قريبها "خليل" الذي أشبعها، كما سيرة والدتها مع والدها، إهانة وضرباً وتقتيراً وحتى تعذيباً جنسيّاً. خليل الذي كما كل "الديوك" يظنّ نفسه مالك كل نقطة في المرأة، ليس من أجل إسعادها، بل من أجل إبقاء نظراتها في الوحل. ومع ذلك تذهب حياة لخيانته عدّة مرّات مع أشخاص مختلفين، سواء بسبب الغريزة أو الانتقام أو العوز. "تحرصُ أمي على إغلاق الخمّ قبل حلول العتمة، فقد يتسلّل الحصيني ليلاً من بين رجوم السهول الغربيّة، ينقضّ على عنق الدجاجة، يخطفها ويجري بسرعة الطير ليخفيها في وكره ويعود في هجمات لن تنتهي قبل أن يعقر أعناق جميع الدجاجات، ويسحبهنّ إلى وكره قبل طلوع الصباح. ليس ديكنا وحده، كل الديوك لا تحمي الدجاجات الضحايا من أنياب الحصيني إذا هجم" (ص 38). لن يستطيع والد حياة، كديك، أن يُنجيها من الحصيني خليل. ولن يستطيع الديك خليل أن ينجيها من عوزها إلى الحب. وبسب ذلك تكره حياة والدها لأنّه يتمادى في تعذيب وتوبيخ زوجته. وتكره أمها بسبب ضعفها وانحدارها في ذلك الضعف الذي تحوّله إلى جبروت في وجه بناتها. وتكره "الدين" الذي يجعل الزوجة تدور حول فراش زوجها سبع مرات ليلاً وتسأله إذا كان يريد منها شيئاً. وتكره النذور التي تنذر فقط للصبيان كي ينجوا من المآسي ويكونوا سعداء وناجحين وأغنياء في حياتهم، بينما "لا تُنذر الشموع للإناث، الأنثى غنيّة عن شفاعة الشمع؛ لأنها بسبعة أرواح وستنجو حتى لو دقّوا رأسها بحجر" (ص 46).

شخصيات الرواية الأنثويّة لا تنجو إحداهنّ من مصائر الحزن، حتى في المرويات، التي تستخدمها عبد الصمد بإتقان ضمن عملها، تذهب كل النسوة تقريباً إلى القتل والذبح والإنكار والطرد والدفن من دون عزاء. الحزن والألم لا يُفارقان تلك الشخصيّات حتى في أحلامها. "ليس لي مَن أثرثر معه على الهاتف إلا أرجوان، حزينة تحنو على حزينة. امرأتان تلتصق بهما التعاسة ككاسات الهواء" (ص 183).

تبدأ الرواية مع ذهاب حياة إلى غرفة "الكرش" في بيت أهلها بعد طلاقها من خليل. وغرفة الكرش هي غرفة الكراكيب والمؤونة والأشياء التي ما عادت تلزم، ولكن ربّما تلزم في يوم ما. تضع أم حياة ابنتها هناك لأنها مطلقة كشيء ما عاد يلزم، ولكن ربّما يلزم في يوم ما. بعد ذلك تبدأ الرواية لتسرد حيوات شخصيّات وعائلات مختلفة، في السويداء وخارجها، طوال أكثر من أربعين عاماً من عمر حياة. تبدأ الرواية من نهايتها وتقوم نجاة عبد الصمد ببناء كل شيء من جديد، معتمدة على الكثير من البساطة والخفّة ومرويات الجنوب من قصص وحكايا شفويّة ومدوّنة، وعلى سير شخصيّات حقيقيّة ومعروفة في الشأن العام، وتعتمد على كشف بعض الأشياء من كتاب "الحكمة" التي تفيد الرواية في أحوال الزواج والنساء والطاعة والطلاق والتديّن..، وجاءت تلك المقاطع سائلة داخل العمل الروائي، وليست نافرة بقصد آخر. تعتمد عبد الصمد على السرد وتتخفف كثيراً من الحوار، وفي طريقها ذاك يتبدّل الراوي بشكل سلس ومرن ولا يقطع متعة القارئ خلال أكثر من 250 صفحة.

 رواية ممتعة ومتماسكة، بغض النظر عن جزء كبير من الفصل الأخير الذي جاء شارحاً لما لو بقي غامضاً لبدا أكثر متعة. فقدان الحب هو الأساس الضخم لهذا العمل؛ حيث فقدان الحبّ يتجول بين العائلات الغنيّة والفقيرة، وبين المغترب والباقي، وبين الريف والمدينة، وبين الدولة والشعب. لدرجة أن "فقدان الحب" هو النهر الوحيد والضخم الذي يسقي أولئك العطاش.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.