}
عروض

"مدن ومدنيات" لداود أوغلو: يفسّر التاريخ وينفتح على المستقبل

يعيد الكتاب الجديد "مدن ومدنيات" الصادر في صيف 2016 للأكاديمي والسياسي التركي أحمد داود أوغلو إلى الواجهة هذه الشخصية المثقفة التي اختفت فجأة عن المسرح السياسي بعد أن تركت بصمتها في الحياة السياسية والفكرية في تركيا، والسياسة الخارجية الجديدة منذ التحول الكبير الذي شهدته تركيا في 2002، وبالتحديد، منذ قبوله بمنصب مستشار رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان للشؤون الخارجية (2003-2009) وعمله وزيراً للخارجية (2009-2014) ثم رئيساً للوزراء(2014-2016) إلى تنحيه المفاجىء نتيجة للتوتر المكتوم بينه وبينه أردوغان، الذي يعكس الفرق بين السياسي الشعبوي والسياسي الأكاديمي.


في السنوات السابقة ارتبط اسم داود أوغلو بكتاب "العمق الاستراتيجي" الذي نظّر فيه لمكانة تركيا الجديدة بالاستناد إلى ميراثها السلجوقي- العثماني و"المجال الحيوي" لها في العالم المتغير الذي أصبح يمتد من حدود الصين إلى ساحل البحر الأدرياتيكي، وتصفير مشاكلها مع الدول المنبثقة عن المجال العثماني السابق، وهو ما اعتبره البعض الأساس لسياسة "العثمنة الجديدة" أو "العثمانية الجديدة"، التي برزت خلال عمله مستشاراً للشؤون الخارجية ثم توليه وزارة الخارجية أو رئاسة الوزراء. أما الآن فيعود أوغلو مع هذا الكتاب الذي يجمع بين بداياته الأكاديمية، التي طرحت على نفسه الأسئلة الجديدة حول تفسير التاريخ بعد قراءته لكتاب أرنولد توينبي "دراسة في التاريخ"، التي أدت إلى مقاربته الجديدة لـ "العمق التاريخي"، وبين جولاته في المدن التاريخية التي عمّقت لديه هذه المقاربة كطالب وأكاديمي ووزير للخارجية ورئيس وزراء، ليصل إلى مصير العالم مابين المدنيات العريقة والحداثة والعولمة الغربية.

تجدر الإشارة هنا، أن أوغلو بدأ حياته الأكاديمية في الجامعة الإسلامية العالمية في كوالالمبور، ماليزيا، حيث أسس وترأس هناك قسم العلوم السياسية 1990-1993، وبدأت بذرة هذا الكتاب هناك خلال عمله في أول محاضرة في التاريخ مع الطلبة الذين يمثلون مدنيات عريقة من آسيا وأفريقيا. فقد لاحظ أوغلو أن الكتاب المقرّر إنما يمثل ويفرض النزعة الأوروبية المركزية التي سعت إلى "وضع تاريخ الإنسانية في قالب جديد"، ولذلك قرّر فجأة إلغاء الكتاب المقرر، وتجميع كتاب من دراسات تمثل مقاربة مختلفة تحترم دور أحواض المدنيات العريقة في آسيا وأفريقيا. فقد كانت أوروبا، حسب داود أوغلو، بعيدة عن أحواض المدنيات التي ميزت تاريخ الإنسانية، ولكنها سعت ونجحت في وضع نفسها في مركز السيرورة التاريخية "بعد أن أبعدت عن ذلك المراكز العريقة التي حفرت المسار التاريخي للإنسانية".

كان هذا "النجاح" المتمثل في الكتاب المقرر "صدمة" لأوغلو لأنه في هذا الكتاب المعبّر عن المسار الفكري للنزعة الأوروبية المركزية (التي تستند إلى التراث الفكري اليوناني- الروماني والحداثة) وجد أن التراث الفكري لأحواض المدنيات العريقة غائب تماماً، أو قد يبرز من حين إلى آخر "حين يكون ذلك في خدمة العلاقات مع أوروبا". ومن هنا كانت هذه "فرصة"، كما يقول أوغلو، حتى يلمس "الوهم المفاهيمي الذي سببته الشبكة الأوروبية المركزية لتاريخ الفكر في أحواض المدنيات غير الغربية".

بالاستناد إلى كل هذا أصبح أوغلو منشغلاً بالتفاعل بين المدنيات العريقة، الذي تابعه خلال وجوده في ماليزيا، واستمر بعد عودته إلى "عاصمة الإمبراطوريات" (استانبول) ليبلور هناك مقاربته الجديدة لـ "العمق التاريخي"، وبالتحديد لمسار النظام العالمي بعد المدنيات العريقة والحداثة والعولمة.

تزامنت عودة أوغلو إلى تركيا مع بداية الاحتفالات والندوات العلمية بمناسبة الذكرى الـ 700 لنشوء الدولة العثمانية، وهو ما جعل "الحالة العثمانية" في مركز اهتمامه سواء بالنسبة لـ "العمق التاريخي" أو لـ"العمق الاستراتيجي". كان ما يشغل أوغلو هو التفاعل بين المدنيات، التمييز بين المدنيات التي تتفاعل أو تحتوي غيرها، وبين تلك التي لا تتفاعل أو تقصي غيرها. ومن هنا قدم دراسته الأولى بمناسبة الذكرى الـ 700 لنشوء الدولة العثمانية بعنوان "تفاعل المدنيات والتركيب العثماني"، وهي التي وسّعها في دراسته اللاحقة "دور المنهج في تشكيل الإدراك التاريخي: التاريخ العالمي والدولة العثمانية من زاوية التفاعل بين المدنيات"، التي اعتبرها الأساس لمقاربته أو نظريته في "العمق التاريخي". وبالاستناد إلى ذلك انشغل في عمله الجديد "الإمبراطورية العثمانية كخليط مدنيات" وعندما أنجز الفصل المعنون "المدن العثمانية" شعر بأن الأمر أوسع من ذلك، وهو ما جعله يتوجه إلى هذا المجال الواسع: مدن ومدنيات.

في هذا المجال ينطلق أوغلو من أن الأصل في التاريخ الحضاري المثمر هو الانفتاح والاختلاط والتأثر والتأثير، وهو ما يشبهه بالدوائر التي تنشأ في المياه الراكدة نتيجة لسقوط حجر. ومع بروز شخصيات مهمة في أحواض المدنيات مثل زرادشت، وبوذا، وكونفوشيوس، وسقراط وغيرها، تجلّت في الأمبراطوريات التي قامت في تلك الأحواض العريقة وامتد تأثيرها إلى الجوار مما قدّم الأمثلة الأولى المعبرة عن اختلاط الحضارات. وفي هذا السياق يفهم أوغلو الحضارة الاسلامية الجديدة باعتبارها تركيبا synthese بين أمرين: الإدراك الذاتي القائم على عقيدة الوحدانية، وتراث المدنيات في الأحواض المذكورة.

بيد أن داود أوغلو يميز هنا بين نوعين من المدنيات: مدنية تنفتح على الآخرين وتستفيد منهم أو غير إقصائية، ومدنيّة إقصائية لا تحتوي الآخرين. في الحالة الأولى، تزدهر المدنية وتزدهر معها الإنسانية. أما في الحالة الثانية، فتصل المدنية إلى طريق مغلق وتهدد الآخرين. إن هذا التهديد، بحسب أوغلو، لا يتعلق بالماضي فقط بل بالحاضر والمستقبل. فالآن نجد أنفسنا بين خيارين: نظام عالمي يقوم على هيمنة مدنيّة واحدة، ونظام عالمي متعدد يقوم على التفاعل بين المدنيات. وكما لم تستمر في التاريخ المدنيات التي قامت على الإقصائية، فإن النظام العالمي الجديد الذي يقوم على الإقصائية لا يمكن أن يقدّم حلولاً للإنسانية.

وفي هذا السياق يصل المؤلف إلى أن النظام العالمي الأفضل ستبنيه تلك المجتمعات والاتجاهات السياسية التي ستتجاوز المصالح القومية الضيقة لصالح قيم باسم الإنسانية كافة، وهي بذلك تعيد إبراز المعايير الأساسية للمدنيات التي تنتمي إليها.

في هذا الكتاب، الذي نأمل أن يصدر في العربية قريباً بعد أن صدرت ترجمته الأولى إلى الألبانية في جمهورية مكدونيا (سكوبيه، لوغوس 2017)، نجد جولة ممتعة للمؤلف في المدن العريقة التي تمثل المدنيات الكبرى في التاريخ والتي عرفها عن قرب طالباً للعلم (مثل عمّان التي قضى فيها ثمانية أشهر لتعلم العربية)، أو زائراً رسمياً حين كان وزيراً للخارجية أو رئيساً للحكومة. ولكن يلاحظ هنا أنه حتى خلال البرنامج الرسمي المزدحم يجد أوغلو الوقت ليجول في المدن العريقة ويترك فيها بصمته "العثمانية" كما في حلب ودمشق والسلط وغيرها في المشرق، أو في بريزرن وسكوبيه وسراييفو وغيرها في البلقان، حيث يجلب الاهتمام بزيارته إلى أمكنة تاريخية لها علاقة بالإرث العثماني أو يبادر ويفتتح منشآت تذكّر بذلك الإرث العثماني.

ومع كل التقدير لما في هذا الكتاب من أفكار جديدة تنشغل بمستقبل الإنسانية، وليس فقط بالمجال الحيوي لتركيا، كما في "العمق الاستراتيجي"، فإن الكتاب في طبعته العربية سيحدث دوائر في المياه الراكدة حول أمور قد نتفق أو لا نتفق مع المؤلف حولها. وأخيراً، كان من المتوقع لأكاديمي حريص على الإرث العثماني أن يذكر على الأقل من خاض في هذا المجال قبله، ومن ذلك العالم الموسوعي شمس الدين سامي (1850-1904)، الذي عرف برياديته في التاريخ والأدب والمعاجم، ومن ذلك نشره في استانبول 1879 لأول كتاب بعنوان "المدنية الإسلامية" تطرق فيه إلى بعض الأمور التي وردت في كتاب أوغلو، ومن ذلك التفاعل بين المدنيات ودفاع المؤلف عن المدنية الإسلامية في وجه أنصار النزعة الأوروبية المركزية التي ظهرت آنذاك مع تحول أوروبا البعيدة عن أحواض المدنيات إلى مركز للمدنية الجديدة التي تريد فرض قيمها ورؤيتها على المدنيات الأخرى.

*أكاديمي كوسوفي/ سوري

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.