}
قراءات

"تبغ وزيتون": وجه آخر لتاريخ المقاومة الفلسطينية في لبنان

بلال محمد شلش

21 يوليه 2017

تتجاوز معظم الروايات التاريخية المنشورة إبراز أي مقاومة فلسطينية للعدوان الصهيوني جنوبي لبنان عام 1982، وتختصر هذه الروايات النشاط الفلسطيني المقاوم للعدوان بنشاط المقاومة الفلسطينية في معارك الدفاع عن بيروت. لكن نشر مؤخراً نص يقدم رواية استثنائية تظهر وجهاً آخر لمعارك المقاومة الفلسطينية عموماً وكادر حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) خصوصاً. ففي "تبغ وزيتون، حكايات وصور من زمن مقاوم" (416 صفحة) الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ضمن سلسلته الجديدة "ذاكرة فلسطين"، تحدث معين الطاهر قائد كتيبة الجرمق، إحدى كتائب قوات العاصفة العاملة في الجنوب، عن معارك التصدي للاجتياح الصهيوني للجنوب اللبناني عام 1982. مفصلاً حجم المقاومة الذي نفذته كتيبة الجرمق - خصوصاً - في قلعة شقيف وجوارها، وحجم الإعداد للمعركة المنتظرة على مدار الشهور السابقة للاجتياح، مبرزاً دور الشهيد علي أبو طوق ورفاقه في تحصين مواقع الكتيبة العسكرية وإعدادها للمعركة الأخيرة. ويظهر النص استمرار المقاومة في نشاطها العسكري برجالها ونسائها، في الجنوب اللبناني، على الرغم من الاختراق الصهيوني للجنوب ووصول قواته لأطراف بيروت.

هذه الرواية المغايرة للرواية التاريخية السائدة عن هذه الحقبة المهمة في تاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة، تضاف إلى رواية استثنائية أخرى انفرد بها نص الطاهر الجديد تتعلق بالمقاومة الفلسطينية خلف خطوط العدو خلال 1982- 1983. ففي الفصل العاشر من الكتاب تحدث الطاهر عن عمليات المقاومة التي شنت ضد الاجتياح الصهيوني للبنان، معتمداً بالدرجة الأولى على دفتر للشهيد علي أبو طوق قائد كتيبة الجرمق الجديد بعد إصابة الطاهر في أول أيام الاجتياح، سجل فيه أبو طوق تفاصيل خمسين دورية خلف خطوط العدو نفذت خلال الفترة 23/6/1982- 28/10/1983. واحتفظت بها يسار حمودة - زوجة الطاهر- بناء على طلب من الشهيد.

الانشقاق في حركة فتح

ويستعرض الطاهر أيضاً في فصل لاحق – الانشقاق وطرابلس - قراءة جديدة لتاريخ الانشقاق في صفوف (فتح)، وتأثير المعارك التي فرضها "السوري" وقوات المنشقين على نشاط أبو طوق وإخوانه ضد العدو، ومحاولات أبو طوق وكادر كتيبة الجرمق الدائمة إعادة توجيه بوصلتهم نحو الجنوب من جديد، واستغلالهم كل الإمكانات والثغرات المتاحة لنقل الكوادر والعتاد للمناطق الجنوبية لمواصلة المعركة ضد العدو الصهيوني. لكن القرار السوري بإنهاء الوجود المعارض لها في لبنان عسكرياً وقرارها بحسم معركة طرابلس، ومن ثم إطلاقها حرب المخيمات، دفعت أبو طوق لقيادة معركة الدفاع عن شاتيلا إلى أن استشهد، ودفعت معظم إخوانه في الكتيبة، وعلى رأسهم محمد بحيص (أبو حسن قاسم) وباسم التميمي (حمدي) ومعين الطاهر، لمغادرة لبنان باتجاه الأردن مروراً بتونس، وإعادة التموضع في الأردن وتفعيل النشاط العسكري في الأراضي المحتلة، وتأسيس سرايا الجهاد التي قادت سلسلة عمليات عسكرية استثنائية، ختمت باغتيال الموساد الصهيوني لقادة الكتيبة محمد بحيص (أبو حسن قاسم) وباسم التميمي (حمدي) ومروان الكيالي أثناء وجودهم في قبرص في شباط/ فبراير 1988.

رواية الطاهر هذه تؤكد ضرورة اهتمام المؤرخين بإعادة قراءة الرواية التاريخية السائدة حول تجربة المقاومة الفلسطينية للعدوان الصهيوني على لبنان عام 1982 عموماً، وتجربة قوات العاصفة خصوصاً. كما توجب السعي لدراسات تفصيلية لنشاط هذه المقاومة خلال الفترة التالية للاجتياح، من حيث طبيعته وحجمه، وتأثيره في مسار الحوادث التالية كالانسحاب الصهيوني من بعض المناطق اللبنانية، وصولاً لإسقاط اتفاق أيار/ مايو 1983، وتأثيره في مواجهة الانشقاق في صفوف (فتح). وفي رواية الطاهر لنشاط قادة الجرمق الشهداء ودورهم في الأردن ونشاط القطاع (77) في (فتح) بعد الخروج من لبنان، إشارة إلى ضرورة التأريخ لهذه التجربة، وتأثيرها على مسار الثورة الفلسطينية وإعادة التركيز على أولوية فلسطين في ظل الانشقاق وتشتت قوات الثورة الفلسطينية وحرب المخيمات، ودورها في التأسيس لبيئة انتفاضة 1987.


كتيبة الجرمق

لا يقتصر نص الطاهر على هذه الإضافات، فالنص يسجل في فصوله الثلاثة عشر سيرة ذاتية/ جماعية، سيرة معين الطاهر التي تبدأ برفض هزيمة حزيران/ يونيو 1967 بالانضمام لحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، وسيرة تنظيم (فتح) الطلابي، في الأردن ثم لبنان، ونشاط التنظيم العسكري مع تأسيس السرية الطلابية ثم كتيبة الجرمق، والذي شكل جزءًا من تيار استثنائي في الثورة الفلسطينية عموماً. واعتمد الطاهر في ذلك على ذاكرته أولاً، والتي سبق أن حفزت بحوار أجراه معه نافذ أبو حسنة في برنامج كل الحكاية، والذي بث بدءاً من شهر نيسان/ أبريل 2012 على قناة القدس الفضائية، ومن ثم بحوار أجراه معه إلياس خوري وميشال نوفل ونشر عام 2015 عن منشورات ضفاف في كتاب بعنوان "حوار مع معين الطاهر، الكتيبة الطلابية: تأملات في التجربة". وأسند الطاهر ذاكرته برواية بعض الفاعلين الشفوية، ونصوص كـ"حياة غير آمنة" لأحد مقاتلي الكتيبة "جهاد" (الدكتور شفيق الغبرا)، وكتاب "الحرب المضللة - لتشيف زئيف وإيهود يعاري، وفيلم القناة الصهيونية العاشرة –"بوفور، جرح مفتوح"، وبعض المواد الوثائقية كدفتر الشهيد أبو طوق.

يحكي الطاهر في أول فصول نصه قصته مع هزيمة حزيران/ يونيو 1967 وسقوط مدينته نابلس، لتتشتت عائلته من جديد، بعد شتاتها الأول إثر سقوط مدينة يافا مسقط رأس والده في أيار/ مايو 1948. ومن الهزيمة ينتقل الطاهر في – فصل بدايات - لرفضها، بانضمامه لـ(فتح) التي كانت في طور إعادة تنظيم صفوفها في الضفة الغربية استعدادًا لانطلاقتها الثانية. لكن ظروف العائلة ورغبتها في جمع شتاتها تضطرها لمغادرة نابلس باتجاه الأردن لتستقر في إربد – فصل إربد 1968 - وهناك ينشط الطاهر في صفوف التنظيم الطلابي لـ(فتح)، ثم يحمل السلاح نائباً لقائد المليشيا في إربد الشاعر خالد أبو خالد، للدفاع عن الثورة الفلسطينية في معارك أيلول/ سبتمبر 1970.

خسرت الثورة الفلسطينية الأردنية، وخسر الطاهر فرصة دراسة الهندسة في الجامعة الأميركية في القاهرة نتيجة قرار مصري بمنعه من دخول القاهرة وترحيله. فعاد لدمشق فبيروت ليبدأ رحلة التفرغ في صفوف الثورة الفلسطينية، إذ نشط الطاهر في التنظيم الطلابي من جديد لكن في أيار/ مايو 1973 حدث تغيير مركزي في مسيرة الطاهر ورفاقه، الذين بدأوا بالتبلور كتيار استثنائي في فتح – فصل لبنان 1973 -  ففي هذا الشهر شن الجيش اللبناني هجوماً باتجاه الجامعة العربية في بيروت، فتصدى لهم مقاتلون كان على رأسهم محمد بحيص (أبو حسن قاسم)، وفي ختام المعركة أسس التنظيم الطلابي لوجود عسكري دائم في المنطقة استمر حتى 1982. كان هذا الحادث جزءاً من سلسلة حوادث توجت باندلاع الحرب الأهلية في لبنان.

يحكي الطاهر في فصل الحرب الأهلية 1975 عن توسع نشاط التنظيم الطلابي العسكري بفعل المتغيرات التي فرضتها الحرب، والحاجة للدفاع عن المناطق التي يحضر فيها التنظيم. وفقدت السرية الطلابية قائدها الأول الشهيد سعد جرادات كما فقدت عشرات من كوادرها البارزين. خلال هذه الفترة تعلم الطاهر، قائد السرية الثاني، وأفراد السرية الطلابية الحرب بالحرب، لكن الطاهر، وبقرار من الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد)، عين مفوضاً سياسياً للكلية العسكرية لحركة فتح في سورية لفترة محدودة، إذ إن مجريات الحرب في لبنان والخلاف مع القيادة السورية عجّلا في عودة الطاهر لساحة الحرب في لبنان من جديد.

خلال معارك الحرب الأهلية كان للسرية الطلابية دور بارز في صنين والبرجاوي ومناطق أخرى، وكانت "ضمير فتح" بتعبير الشهيد صلاح خلف أبو إياد ، في معارك الدامور. لكن بمجرد إعلان وقف إطلاق النار بين أطراف الحرب الأهلية في تشرين الأول/ أكتوبر 1976 كانت السرية الطلابية أمام تحول جديد، بدأت ملامحه بالتشكل أثناء الحرب الأهلية، إذ أكد "تيار السرية" على ضرورة توجيه البوصلة نحو الجنوب، نحو فلسطين، فكان التحول من صنين إلى الجنوب.

"نادى الجنوب محشرجاً بندائه، فأتت مشاعلنا تخضبها الدما

أقدامنا في الوحل في وجه الظلام تدافع الريح السموم عن الحمى

فحنا الشقيف على بنادقنا، وقال أتقسمون على الصمود وأقسما".

لخصت هذه الأبيات هذا التحول المركزي الجديد في فعل السرية الطلابية. في الفصل – الجنوب 1976 - يحكي الطاهر لحظة تحول السرية الطلابية إلى كتيبة الجرمق، الكتيبة الرابعة في قوات القسطل التابعة لقوات العاصفة. تفرغ للعمل في هذه الكتيبة العشرات من كادر الكتيبة وبدأت نشاطاً استثنائياً شارك فيه المئات من الكوادر الطلابية ذكوراً وإناثاً من مختلف دول العالم. وخاضت الكتيبة معارك كبرى ضد تهديد قوات سعد حداد العسكري، وضد تهديد السلم الداخلي في القرى الجنوبية، وضد الاجتياحات الصهيونية عام 1978 وعام 1982.

دور مجهول لرجال آخرين

سجل الطاهر تفاصيل هذه المعارك في الفصول - بين حربي 1978- 1982، الانتقال إلى النبطية الشقيف، عبور النهر - والتي تبرز تاريخاً مغايراً للرواية التاريخية السائدة عن نشاط (فتح) خصوصاً في الجنوب اللبناني. ويبرز دور مجهول لعدد من الشخصيات في هذه المرحلة كدلال المغربي، علي أبو طوق، خالد بشارة، حسان شرارة، يعقوب سمور. وكان اهتمام الكتاب بإبراز دور هذه الشخصيات وعدد من الشخصيات الأخرى كالشهداء جورج عسل، سعد جرادات، محمد بحيص، باسم التميمي، مروان الكيالي، مروان زلوم، أحد أبرز إضافاته. وهذا يؤكد على ضرورة الاهتمام بدراسة سير عدد من الشخصيات المركزية في تاريخ الثورة الفلسطينية، والتي تشكل تاريخاً مصغراً للثورة الفلسطينية المعاصرة؛ كالشهيد علي أبو طوق صاحب الشخصية الآسرة للصغار، كفدى معين الطاهر، وللكبار، كالشهيد ياسر عرفات. وكالشهيد محمد بحيص (أبو حسن قاسم) وتوأمه الشهيد باسم التميمي (حمدي).

ختاماً، مع ملاحظة الاعتناء بالنص وإخراجه، إلّا أن الكتاب عانى من إشكال أساسي، تمثل في عدم إيراد أسماء كثير من الشخصيات الفاعلة والاكتفاء بألقابها وأسمائها الحركية. وبإلقاء نظرة سريعة على لوحة شهداء السرية الطلابية وكتيبة الجرمق عند ضريح الشهيد علي أبو طوق، يلاحظ اختفاء الأسماء الحقيقية لكثير منهم، وهو ما يؤشر على وجود إهمال عام لسير شهداء الثورة الفلسطينية. وكان يجدر أيضاً تزويد الكتاب بخرائط تقرب للقارئ جغرافيا المعارك التي احتلت حكاياتها معظم فصول الكتاب.


*باحث مهتم بتأريخ المقاومة الفلسطينية المسلحة، جامعة بيرزيت.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.