}
عروض

"أنا الأزعر" لجاك ديريدا

جمال شحيّد

23 يونيو 2017
في كتاب طريف من نوعه، أصدره جاك ديريدا (1930-2004) عام 2003 بعنوان "الزعران" Voyous، حلّل فيه مقولة "الدولة المارقة". والعبارة بالعربية ملطّفة بينما هي في اللغات الأوروبية أكثر فجاجة Etats voyous، rogue State. وبما أن ديريدا مولع بالتشبيكات والتخليقات اللغوية، فقد استعرض نزول هاتين الكلمتين إلى المعجمين الفرنسي والإنكليزي. ولاحظ أن الكلمة الفرنسية شقّت طريقها ونزلت في القاموس عام 1830، وأن كلمة voyouterie [زعرنة] وردت عام 1884 على لسان الأخوين غونكور، وعام 1865 استعمل غوستاف فلوبير مفردة voyoucratie [أزعقراطية]. والكلمة في الإنكليزية أقدم عهداً إذ وردت في نصوص سبنسر وشكسبير أي في منتصف القرن السادس عشر وكانت تدل على الأوباش والحثالة والسفلة والرعاع والدهماء.

ويبدأ كتاب ديريدا بنص "الذئب والحمل" الذي أورده لافونتين في مجموعة أمثاله، وهو من أشهرها، إذ يستهلّه بـ"حجة الأقوى هي الفضلى، كما سنُثبت ذلك فوراً". وفي الفصل الذي يشكّل عنوان هذا المقال، يقول ديريدا إن الزعران هم ـ على الرغم من شططهم ـ إخوة لنا في الديموقراطية. هم "المنبوذون والضالون وشذاذ الآفاق الذين يتسكعون في الشوارع، لا سيما شوارع الضواحي... ويزرعون الفوضى فيها، ويُشار إليهم بالبنان ويُتّهمون ويُحاكمهم المواطن المُتحضِّر والدولة أو المجتمع المدني الراقي عن طريق شرطته، وأحياناً عن طريق القانون الدولي والشرطة المدجّجين بالسلاح والذين يحافظون على الناموس والأخلاق والسياسة القائمة والتأدب والطرقات وممرات المشاة والطرق السريعة البرية والبحرية والجوية، كما يحافظون على المعلوماتية والبريد الإلكتروني وشبكة الإنترنيت" (ص 96).

ويرى أن "الأزعر" هو الذي يفسد الشارع ويلوّثه وينشر الفوضى في المدن ويتاجر بالمخدرات والممنوعات، كما يقول المجتمع النظيف، لا سيما مدن القرن التاسع عشر وما بعده، أي مدن الثورة الصناعية. الأزعر "عطّال بطّال، يغذّ في الشوارع ويتسكّع... والزعرنة قادرة أيضاً على إفساد الشارع وعلى زرع الفوضى. هي مبدأ فوضى على أنها نظام بديل (هي نوعاً ما أشبه بمجتمع سرّي أو نِحلة دينية على غرار الماسونية). وتشكّل سلطة مضادة ومواطنة مضادة. وهذا ما نسميه بيئة. وهذه البيئة تضمّ في شبكاتها جميع رجالها، والأوباش المتميّزين والأشخاص الذين لهم أخلاق مريبة يسعى المجتمع النظيف إلى محاربتهم واستبعادهم وإطلاق بعض المرادفات عليهم مثل: وغد، نذل، نصّاب، ابن حرام، قواد، حقير، رقيع، وضيع، محتال، سوقي، زقاقي، جانح..." (ص 98).   

ويرى ديريدا أن أصل كلمة voyou شعبي وباريسي أيضاً؛ إذن تنتمي الكلمة إلى المدينة، وبالتالي هي سياسية. وعندما يتكلّم الناس عن "شلة الزعران" هذا يعني أن الشرطة قريبة منها. ويمايز الباريسيون بين دوائر مدينة باريس، فهناك الأحياء البورجوازية، وهناك الأحياء الشعبية التي تعجّ بالزعران هي وامتداداتها في الضواحي. ويرى ديريدا أن الكلمة في اللغة الفرنسية، وربما في معظم اللغات، مرتبطة بالجنس المذكر. ولكن إذا استعملنا كلمة voyoute، فتعني المرأة سيئة السمعة والمسترجلة نوعاً ما وتتوق إلى الانعتاق والتحرّر؛ وظهر هذا النوع من النساء في الشوارع إبان العصر الجميل (1870-1890) Belle époque La أو بعيد الحرب العالمية الأولى مع ازدهار الحركة السوريالية.

"من الناحية السياسية، يحاول ممثلو النظام، وقوى النظام البورجوازي والأخلاقي إلى اعتبار العيارين والمشاغبين والمتمردين، لا بل الثوريين، من الزعران، أأتوا من الأحياء السيئة أو من الضواحي، أأقاموا المتاريس أم لم يقيموها كما في ثورة 1848 وثورة الكومونة 1870 والثورة الطلابية 1968، أمارسوا أعمال التخريب والسطو [والتشبيح] أم لا. وينسرح هذا الرأي على ثورات اليسار واليمين على السواء. الحركات الفاشية والنازية والشعبوية وحركات اليمين المتطرف جمعت زبانيتها في أوساط السكان المصنّفين أوباشاً... يستنكر الغوغائيون هؤلاء الأوباش أحياناً ولكنهم يلجأون إليهم. وتمثل الأزعقراطية نوعاً من السلطة المنافسة، وتحدياً لسلطة الدولة" (ص 101). ويبدأ الشاب بالتصرف كأزعر عندما يستعمل الشتائم المقذعة والكلمات السوقية.

وينتقل ديريدا من ثم إلى ما سُمي بـ"الدولة المارقة" التي تقاطعها وتحاربها الدول التي تدّعي الشرعية وتتشبّث بالحق الدولي ومؤسساته وتدور في فلك الولايات المتحدة ومنظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن وحلف الناتو ومجموعة الثمانية [التي شطبت منها روسيا عام 2014]... وغالباً ما تمّ الربط بين هذه الدول والاستذئاب الذي يُفضي حتماً إلى الخروج عن القانون، كما قال جان جاك روسو الذي أضاف في عقده الاجتماعي: "إذا كان هناك شعب من الآلهة، فإنه يحكم نفسه بطريقة ديموقراطية. إن حكومة على هذه الدرجة من الكمال لا تناسب البشر".

ويرى ديريدا أن عبارة "الدول المارقة" استخدمت في عهد الرئيس بيل كلينتون، وبخاصة في عهد جورج بوش الابن بعد 11 أيلول 2001، لتشمل العراق وكوبا ونيكاراغوا وكوريا الشمالية وليبيا والسودان وإيران... أي الدول التي خرقت – حسب أمريكا – القانون الدولي وتمردت على الهيئات الدولية.

وكداعية سلام يستعرض ديريدا في القسم الثاني من كتاب "الزعران" أبعاد الفكرة القائلة بـ "صون شرف العقل" عند أفلاطون وأرسطو وكانط وهوسيرل. ولكن هل يتمتع العقل الأوروبي بحصانة كافية تبقيه في مكان الصدارة؟ ألا يمر الفكر الغربي في أزمة حادة؟ يقول هوسيرل في كتابه "حول الأزمة" – وهو الذي حلله ديريدا – : "إنني متيقن أن الأزمة الأوروبية تغوص في نوع من العقلانية المغلوطة"، ورأى أن عقلانية عصر التنوير تبقى، على علّاتها، نقطة مضيئة، لأنها شقت الطريق نحو الدولة الحديثة، رغم الأزمات التي شهدتها أوروبا إبان القرنين التاسع عشر والعشرين. والحداثة المعاصرة حسب ديريدا بدأت بمبرهنة غودِل عام 1931 التي فتحت آفاق العلم الحديث الذي تبلور بالثورة السيبرنتية التي نعيش نتائجها حالياً. ورفعُ شأن العقل المصان شرفُه جعلَ هوسيرل يقول: "بما أن الشمس الوحيدة التي تنير جميع الأشياء وتبث الحرارة فيها، كذلك العقل هو الواحد الأحد" (ص 194).

وهذا العقل الواحد الأحد هو الذي قسم العالم إلى قسمين: قسم يرفع لواء الأمن وحق النقض للدول الخمس الدائمة العضوية، وقسم مشاكس ومتمرد يحاول القسم الأول أن يكبح جنوحه، بالسلاح إن لزم الأمر. ولا يخفي ديريدا رأيه في أن القسمين يمارسان الزعرنة. يقول مثلاً: "منذ سنة تقريباً [أي عام 2002]، عندما انفضّت جلسة لمجلس الوزراء الفرنسي، أعلن أن رئيس الدولة ورئيس الوزراء وقتذاك، اتفقا على تطوير السلاح النووي المعدّ – حسب البيان الذي قُرئ على درج الإليزيه – لقتال وإفشال الدول المارقة" (ص 115). ورأى أن كلمة زعرنة تنطبق أيضاً على دول التحالف التي تُطلق عليها تسمية "الديموقراطيات الغربية".

فالدول الشرعية التي تحترم القوانين، والتي تتمتع بأكبر قوة في العالم، جاهزة لتذكير الدول المارقة بالحفاظ على النظام واحترام العقل، حتى إذا احتاج الأمر إلى تدخل عسكري، عقابي أو احترازي" (ص 117).

ويعيدنا ديريدا إلى استهلال نص "الذئب والحمل" للافونتين، الذي يكرّس مبدأ القوة الغاشمة والجبروت المتعالي، ويربطه بمقولة "الديمقراطية العتيدة"، مع نكهة تهكمية من طرف ديريدا. يقول بما معناه: ثمة دول تتهم دولاً أخرى بأنها دول مارقة (rogue States)، فلا بدّ من شحذ السكاكين لتأديبها. ويتوقف ديريدا مطولاً عند عبارة "الديموقراطية العتيدة" التي هي بالأحرى مشروع وعد ورجاء، ومن الصعب أن تشمل الأرض كلها، لأن المجتمعات البشرية ليست مجتمعات ملائكة. وبعد توسل ما كتبه مكيافيلي وهوبس عن العلاقة بين العدالة والقوة، يقول: "بما أن العدالة – القوة لا تستطيعان أن تجعلا العادل قوياً، صار القوي هو ما يُسمّى بالعادل" (ص 134). ويرى أن "أكثر الدول مروقاً هي تلك التي نشرت وفعَّلت مقولة 'الدول المارقة' أي الولايات المتحدة"، وهي "الدول التي تجاهلت وما زالت تخرق القانون الدولي الذي تدّعي أنها تدافع عنه ببطولة، وتتكلّم باسمه، وتذهب إلى الحرب باسمه، تصدّياً لما يُسمى بالدول المارقة، كلما اقتضت مصلحتها ذلك" (ص 138). ويضيف: "أكثر الدول خبثاً وعنفاً وتدميراً هي الولايات المتحدة، وحلفاؤها أحياناً" وكثيراً ما يلتقي في هذا الشأن مع نعوم تشومسكي ووليم بلوم اللذين كتبا كثيراً عن مسمّى "الدول المارقة".

قصارى القول، كما يقول ديريدا، أن "الأزعقراطية" هي مقولة شديدة الانتشار تشمل بعض دول العالم الثالث، وتشمل خصوصاً الدول المُهيمنة على العالم حالياً، والتي تحتل مركز الصدارة في المروق والزعرنة والرقاعة والوضاعة. الحمد لله أن لغتنا العربية الشريفة غنية في هذه المفردات الحياتية!

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.