}
عروض

"أنشودةُ المقهى الحزين": اختصارُ السَّرد وبهجةُ المكان

عماد الدين موسى

24 يونيو 2017

ينحو السردُ، في غالب الأحيان، نحو التكثيف مستخدماً اللغة بكامل أناقتها ورونقها التفسيريّ والدلاليّ، لكن نادرةٌ هي الروايات التي تثبُ فوق الزمن دون أدنى إحساسٍ لدى القارئ بأنّ ثمّة شيئاً ما ناقصاً في الحكاية، اللغةُ الذكيَّة إذ تكونُ السبيلَ لتخطّي كلّ ما يمكن اعتباره حشواً وشيئاً لا يمتلك أيّة فائدة.

ولعلّ من المفارقة أن تقرأ بالعربيّة روايةً مُترجمة عن لغةٍ مختلفة بـ 97 صفحةٍ فقط، وأن تكوّن تلك الصفحات عالماً روائيَّاً كاملاً بأرقامٍ بسيطة ومكتوب بحرفيَّة عاليَّة ودقّةٍ في التصوير بلغت أوجها التعبيريّ.

هكذا تبدو رواية "أنشودة المقهى الحزين"، الصادرة عن دار مسكلياني (ترجمة: علي المجنوني)، للأميركيَّة كارسن ماكالرِز؛ الترجمة العربيَّة التي أتت بلغةٍ سلسة تكشف عن مدى تعمّق المترجم في عوالم الرواية والعمل على فهم مجرياتها.

الشخصيَّات الروائيَّة إذ تكون واثقةً من ذواتها، وماضيةً في الحياة البسيطة لأناسٍ بسطاء يتلقّفون ما يحصل مع الحدث الأساسي داخل البلدةِ الصغيرة بكلّ اندماج وطبيعيَّة، الآنسة إيميليا، الغامضة الواضحة في آنٍ معاً، التاجرة وبائعة الكحول ومخترعة الأشغال والحكايات لتكون ربّة عملٍ مميَّزة، سيّدةُ الحكاية القصيرة التي تمتدّ لزمنٍ طويل ولكن بعدد صفحاتٍ قليل، السرد الموجَز الذي يمكّن القارئ من تخيُّل المكان ولن يساوره أيّ شكٍ في أنّ البلدة متخيَّلة أو أن الأحداث مختلقة، كل شيء يرتدي لبوس الحقيقة والواقعيَّة.

تبدو السيدة إيميليا إيفانز– بطلةُ السرد في الرواية-، شخصيَّة موجودة في الحياة، بمعنى أنّ ما نقرأه من سرد ليس مجرّدَ سرد وكفى، إنّما السَّرد الذي يملك جسماً قوامه الحقيقة العيانيَّة الملموسة، بلدة صغيرة، مقهى يتكوّن بشكلِ مزحةٍ ومن ثمّ يغدو المقهى مكاناً وملاذاً آمناً لأهل البلدة، يغدو المقهى مسرحاً للحزن والبهجة والأحداث وللثمالة وللاستطباب وإعداد الأدوية الناجعة لكلّ الآلام حتى الحزن (كما تفعل السيدة إيميليا) ومن ثمّ ليخبو بريق ذلك المكان ويغدو ذاكرة، الأسماء الموجودة ضمن الرواية للشخصيَّات تمنح بعداً واقعيَّاً للحكاية، وكأنّ الراوية تسرد حكايةً ما بأسلوبٍ لطيف لأحفادها الذين هم نحنُ في ليلةِ شتويَّةٍ باردة. والبداية تكون بمفتتح السرد وتكوين صورة البلدة الكئيبة: "البلدةُ في حدّ ذاتها كئيبة، إذ ليس فيها كثيرٌ ممّا يُرى سوى مصنعِ القطن، والمنازل ثنائيَّة الغرف التي يقطن فيها العمّال، وبضعُ أشجارِ درّاق، وكنيسة بنافذتين مبرقشتين، وشارع رئيس بائس لا يتعدّى طوله مئة ياردة". بهذا الاختصار اللغوي في السّرد، يتكشّفُ المكانُ بسهولةٍ للقارئ وكأنّ هذا الوصف يفتح المجال للكآبةِ التي سوف تكون عليها الحكايةُ المُقبلة والمسطَّرة داخل الصفحات.

 

اللغة الروائيّة الموجزة

نادرة هي الروايات التي تجعلك مبتسماً طوال فترة القراءة، و"أنشودة المقهى الحزين" إحداها- دون شك-، مشاهدُ مكثّفة وانتقالٌ زمنيّ سريع مع مشاهد تعطي القرّاء أهميَّة أن نبتسم للصفحات وللكلمات لبراعة الحدث وطرافته.

السيدة إيميليا رايةُ الحكاية ودلالة الصمت والعذاب، الناسج (ميرلي راين) الذي ربما سنصادفه في حياتنا عشرات المرّات، قوّالُ القريةِ أو البلدة الصغيرة الذي تباغته الحمّى فينسجُ ما يحلو له من أفكار تنتقلُ بشكلٍ عفويّ إلى أهالي البلدة كانتشار النّار في الهشيم، ثمّة ما هو متطابقٌ مع الواقع أكثر من المتخيَّل.

توصيف الحكايةِ كلها، في بداية الرواية، في بضعة أسطر ومن ثمّ المضيّ في سرد التفاصيل بلغةِ التكثيف والاختصار، سرٌّ لغويّ أبقى عليه المترجم صافياً وعذباً: "الأكثرُ مسؤوليةً عن نجاح المكان وبهجته كان أحدب يدعى ابن الخالة لايمن، نصيبٌ من قصّة هذا المقهى كان لشخصٍ آخر هو طليق الآنسة إيميليا، شخصٌ فظيع عاد إلى البلدة بعد فترةٍ طويلةٍ قضاها في السجن، وجلب معه الدمار ثمّ مضى في طريقه من جديد، أُغلق المقهى منذ ذلك الحين، غير أنّ أهل البلدة ما انفكّوا يتذكرونه"، اللغة هنا تجعل الحكاية غير منتهية من خلال إيراد فكرة أنّ أهل البلدة ما زالوا يتذكّرون الحكاية والشخصيَّات، ثمّة امتدادٌ زمنيّ لا منتهٍ تضفيه اللغةُ المحكَمة والمُتقَنة.

تبدأ الرواية بوافدٍ أحدب دائم البكاء ليقول إنّه على صلة قرابة مع السيدة إيميليا غريبة الأطوار، الأحدب الذي عشق فيما بعد غريم إيميليا المتوّحش عقب خروجه من عقوبة السجن خارج البلدة.

المشهدُ مرويَّاً بتقنية التصوير تجعل من القارئ يُدهش لحظة حصول شيءٍ ما مفاجئ، مشاهدُ كثيرة اختزلتها الكاتبة ومن ثم الترجمةُ الدقيقة وتحويل الحدث إلى كادرٍ تصويريّ كامل، المفردات الصغيرة والأثاث، كلّ شيء في مكانه، لكأنّ أي تغيير مهما كان ضئيلاً على مستوى الحجم والتعبير سوف يغيّر من لذّة القراءة وشغف المتابعة والتخيُّل وفرادة الحكاية.

حياةٌ ما في مكانٍ ريفيّ بعيد، أحداث تحصل عقِب ثلاثة أيّام من قدوم الأحدب الذي يتحوّل لقبه إلى "ابن الخالة لايمن"، الأخير الذي يغيّر كل عادات السيدة إيميليا الفظَّة والمتوّحدة تقريباً، الأحدب الذي راهن أبناء البلدة أنّه لن يبقى وقتاً طويلاً لمزاح إيميليا النزق لكنّ الرهانَ فشل بادئ الأمر (هذا ما توّهمه القرّاء وأهالي البلدة) لتتأكّد النظرة تلك في نهاية الرواية عندما غادر الأحدب مع طليق إيميليا إلى مكانٍ بعيد وتنتهي الشخصيَّة بطريقةٍ مأساوية: "تركت الآنسة إيميليا شعرها يشعث، وكان يشيب، استطال وجهها وانكمشت العضلات المتينة في جسمها حتّى أمست ناحلة كما تنحل الخادماتُ العجائز حين يُصِبنَ بالجنون، وتلكما العينان الرماديَّتان_ازداد حَوَلهما تدريجيَّاً يوماً إثر يوم، وكأنّ كلّاً منهما كانت تسعى في طلب الأُخرى لتتبادلا نظرة أسىً واعترافٍ مهجور، لم يعد يستسغ الناس الاستماع إليها وازداد لسانُها حدّةً فظيعة"، الحدث الذي جعل من المقهى المؤَسَّس في حركةٍ أشبه بالحلم ولا يشعر بها القارئ آن يتهدَّم، يغدو أنشودةً حزينة يتذكّرها أبناءُ البلدة.

 

حبّ المنبوذين 

حكاية الرواية ليست حكاية حبّ اعتياديَّة، إنّما هو نوعٌ آخر من الحبّ، شخصيَّات ثلاث ضمن الرواية تعتبر منبوذة نُفاجأ أنّها تتحابب بطريقةٍ متوّحشة ومن ثمّ تخونُ بعضها بعضاً على القدر ذاته من المساواة، طليقُ إيميليا الفظّ مارفِن ميسي، والأحدبُ النمّام الخائن، وإيميليا ذاتها التي تلوذ بالصمت وتعتبر الحبّ شيئاً غريباً، حتّى أهل البلدة يخونون إذ ينغمسونَ في حكاياتِ غيرهم كنوعٍ من التدخّل في الشأن والتطفّل -إن جاز التعبير- بدعوى الحبّ!

في هذا المنحى تهب الرواية نظرياتٍ في الحبّ، من الممكن العثور عليها في حياتنا الحقيقيَّة لكن بصعوبة تُسهّلها دقّةُ الملاحظة: "أغرب الناس قد يكون باعثاً على الحبّ محفِّزاً له، قد يكون رجلٌ جَدّاً خِرفاً ومع ذلك لا يحبّ إلا فتاة غريبة رآها في شوارع تشيساو ذات ظهيرة قبل عقدين من الزمن، قد يحبّ الواعظ امرأةً منحطَّة، قد يكون المحبوب خائناً أحمق ميَّالاً إلى أردى الطباع، أجل، وقد يرى المحبُّ هذا الشيء بكل وضوح كما يراه أيّ شخصٍ آخر، غير أنّ ذلك لا يؤثِّر مثقال ذرةٍ على نموّ حبّه"، بالدقَّة هذه تمضي الروائيَّة في سرد ما يجب أن يكونَ عليه الحبّ بعيداً عن الخيال.

 

الذكاء الزمني في الرواية 

"الآن يجب أن يمرّ الوقت"، عبارة توجِزُ الأحداث التي تمرّ خلال سنواتٍ أربع، ذكاءٌ زمنيّ غير معهود داخل الروايات، غوصٌ في تسارع الوقت وإيمانٌ بلا جدوى ذكر تلك الأحداث من الحياة الرتيبة التي تشرحها الروائية، فكلّ شيء سيكون متشابهاً، إذن لمَ الغوصُ في التفاصيل؟ صور متكاملة لأربع سنوات تتكوّن لمجرّد ذكر العبارة السابقة التي تسرُد كلّ شيء دون أي مشقَّة أو تكلّف لغوي زائد، وثمّة أكثر من انتقالٍ زمنيّ سريع بتلك الطريقة. "أنشودة المقهى الحزين" حكايةُ الحبّ بين المنبوذين وسطوة الخيال الأكيدة.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.