}
عروض

ميراتوتسي: قرية في قلب العالم

لن ينسى عشرات آلاف السوريين، الذين تعذبوا خلال 2015-2016 بطريق الهجرة من تركيا إلى وسط أوروبا (ألمانيا والنمسا إلخ)، عبر اليونان ومكدونيا وصربيا، أول قرية كانت تصادفهم في صربيا على يسار الخط الحديدي أو الطريق الدولي. فهناك وجدوا من يفتح لهم البيوت والجامع ويقدمون لهم الوجبات على مدار النهار والليل "حتى لم تبق دجاجة في القرية" كما صرّح أحد كبار السن فيها. هناك اكتشف السوريون اللغز، إذ إن قدوم السوريين أثار مشاعر التاريخ المشترك بين سكان القرية وبلاد الشام واليمن إلخ. فهذه القرية واحدة من عشرات القرى الألبانية التي دخلت ضمن صربيا في 1912 بعد حوالى 500 سنة من الحكم العثماني، وبقيت ضمن صربيا في العهد اليوغسلافي حتى بعد تحول كوسوفو ذات الغالبية الألبانية إلى وحدة فدرالية مؤسّسة للاتحاد اليوغسلافي.

كنتُ أعرف هذه القرية بحكم معرفتي ببعض الزملاء من تلك المنطقة، ومنهم مؤلف الكتاب، ولكن لم أكن أعرف أن القرية لها مثل هذا "التاريخ المجيد" حتى أن يتفرغ خريج جامعة السوربون د. خالد حليمي، لكتابة مثل هذا الكتاب (دار رصافة، بريشتينا 2016)عن تاريخ القرية الذي خلط فيه ما بين العلوم المختلفة (التاريخ واللغة والأدب والاثنوغرافيا) مع ذكرياته باعتباره من الجيل المخضرم الذي شهد تحولات كبيرة منذ منتصف الحرب العالمية الثانية.

ما يثير في هذا "التاريخ المجيد" للقرية والذكريات اسم القرية أولاً. فللقرية اسمان: الأول "ميراتوتسي" Miratoci عند الألبان والثاني ميراتوفاتس Miratovac عند الصرب. وهنا يوضّح المؤلف في الفصل الأول، أن الاسم يتحدر من الآلهة "ميرات" Mirat التي كان يؤمن بها الإليريون (أسلاف الألبان)، ولذلك اتخذ الاسم مسارين مختلفين بعد أن ضمّت صربيا هذه المنطقة إليها في القرن الثاني عشر، ثم جاءت الدولة العثمانية في القرن الخامس عشر لتحكمها حتى 1912. وقبل الفتح الصربي كانت القرية وما حولها جزءاً من مقاطعة "داردانيا" الإليرية تحت الحكم الروماني/ البيزنطي الذي شمل بلاد الشام. ومع هذا التواصل لا يعد من المستغرب أن تكشف الأبحاث الأثرية، أن عاصمة هذه المقاطعة سكوبي (سكوبيه الحالية عاصمة جمهورية مكدونيا) كانت مركز عبارة الآلهة عشتار التي عرفت هنا باسم "الآلهة السورية" Dea Syria.

ولكي يثبت المؤلف "التاريخ المجيد" للقرية قام بتحليل أسماء المواقع وأعادها إلى أصولها الإليرية والبيزنطية (اليونانية) والفلاشية (التي ترومنت وأصبحت اللغة المستخدمة الآن في رومانيا) والسلافية والعثمانية، مما يوحي بتلاقح الدول والحضارات فيها. وفي هذا السياق يوضح المؤلف أن الفلاش، الذين هم من أقدم الشعوب في البلقان، قد ذابوا بين شعوب المنطقة (الألبان والصرب واليونان)، ولكن بقي في أسماء الأمكنة وأسماء الأشخاص ما يشير إلى تواجدهم في القرية/ المنطقة.

ونظراً لأن الدولة العثمانية حكمت المنطقة حوالى 500 سنة، فقد ربطت بين سكان القرية/ المنطقة علاقات جديدة مع بقية شعوب الدولة ومنهم العرب بسبب الحج والتجارة والدراسة والخدمة العسكرية إلخ. وهنا يبدو الفصل المثير في هذا الكتاب حين يكشف المؤلف عن العدد الكبير من سكان القرية الذين كانوا في الحج أو في الخدمة العسكرية في البلاد العربية، وخاصة اليمن وبلاد الشام.

فمع إلغاء الجيش الانكشاري والتحول التدريجي إلى جيش نظامي يقوم على الخدمة الإلزامية (على المسلمين أولاً ثم على المسيحيين شكلاً بعد 1856) أصبحت اليمن مشهورة في القرية بسبب ذهاب الشباب للقتال هناك خلال الخدمة الإلزامية التي كانت تمتد بين 5-7 سنوات. وقد أصبح اليمن مشهوراً حتى في التراث الشعبي الألباني بسبب أغاني الأمهات الحزينات اللواتي كن يندبن حظهن بسبب ذهاب أبنائهن إلى ذلك البلد البعيد، حيث يُعتبر مَن يرجع أنه ولد من جديد. وهكذا نجد المؤلف يذكر بالاسم أكثر من عشرين من سكان القرية ممن قاتلوا بحكم الأوامر ضد الإمامة الزيدية المتمردة على الحكم العثماني.

أما في ما يتعلق ببلاد الشام، وخاصة خلال الحرب العالمية الأولى 1914-1918، التي تداخلت معها عملية الإنزال البريطاني في شط العرب والتقدم لاحتلال البصرة ومحاولة إسطنبول السيطرة على قناة السويس في 1915، ثم الثورة العربية في 1916، نجد أن المؤلف يذكر من سكان القرية من قاتل ضد الجيش البريطاني في شط العرب وأُسر، ومن وُجد في حلب وقاتل ضد قوات الثورة العربية/ البريطانية في سبتمبر/أيلول 1918. ومن هؤلاء كان جدّ المؤلف كامبر شعبان جاغادوري. فقد أُرسل جدّه أولاً ضمن القوات البريطانية لمجابهة الإنزال البريطاني في شط العرب وأسرته القوات البريطانية في البصرة ثم أطلقت سراحه في 1915. وبعد التحاقه بالجيش العثماني أرسل إلى حلب في 1916 وبقي هناك إلى أن انسحب مع القوات العثمانية في سبتمبر/أيلول 1918.

وفي الفصل اللاحق ينتقل بنا المؤلف إلى طفولته، التي ترافقت مع تأسيس يوغسلافيا الفدرالية في 1945 وتطور العلاقات بين الزعيمين تيتو وجمال عبد الناصر وصولاً إلى تأسيس حركة عدم الانحياز التي أصبحت فيها القرية في قلب "العالم الثالث". في هذا السياق يصف المؤلف العدوان الثلاثي على مصر في 1956 وما أثاره من اهتمام كبير لدى سكان القرية لمعرفة "مصير ناصر". فقد كان هؤلاء يقرأون الصحف اليوغسلافية المتعاطفة مع عبد الناصر وكانوا يتجمعون مساء حول الراديو إما في دكان القرية أو لدى حلاق القرية للاطمئنان أكثر على عبد الناصر. ونظراً لأن المؤلف كان يدرس الفرنسية في المدرسة الابتدائية فقد أراد سكان القرية أن يطمئنوا أكثر على انتصار عبد الناصر وأن يسمعوا الأخبار من "راديو فرنسا" فأرسلوا وراءه حتى أمسكوه بعد طول تهرب لأنه لم يكن يفهم الفرنسية جيداً. وفي تلك "الأمسية التاريخية" استقبل الطفل خالد حليمي استقبال الكبار وجلس لأول مرة على مائدة الكبار حول العشاء. وبعد العشاء بحث أحدهم عن "راديو فرنسا" وتركوا المؤلف يستمع قليلاً للأخبار ثم سألوه: كيف تسير الأمور هناك، هل سينتصر عبد الناصر؟ ومع أن المؤلف لم يفهم شيئاً من نشرة الأخبار إلا أنه أجابهم بجرأة: نعم، هكذا يقول المذيع. في تلك اللحظة تنفس كبار القرية الصعداء وقال أحدهم: إذن، الصحافة اليوغسلافية صادقة فيما تنشره عن انتصار عبد الناصر!

كتاب خالد حليمي فيه متعة القراءة حينما يكتب الأكاديمي عن قريته أو مسقط رأسه كنوع من الوفاء لها، ويعيد اكتشاف تاريخها منذ أقدم العصور حتى الآن، بعد تقاعده ويكشفها للعالم من جديد باعتبارها أكثر بكثير من قرية على الحدود بين صربيا ومكدونيا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.