}
عروض

"ما ودّعك صاحبك": الجميع خاسرون في الحرب

عماد الدين موسى

22 أبريل 2017
في عملها الروائي الثالث "ما ودّعك صاحبك"، الصادر لدى دار النهضة العربية/ بيروت، تكتفي الكاتبة اللبنانية لينة كريديَّة بالكتابة اليوميَّة التي تنطلق نحو تكوين الفِكَر الثابتة فيما بعد.

إذْ ثمّة ترتيب هرمي للأداء السردي يجعل من هذه "اليوميّات" وثيقة تصيغ الحدود والمنظومات الفكرية، وكرؤية جريئة نسويَّة تضع كريدية اللبنة الأساسيَّة للمضي نحو استخدام الفكرة الرئيسيّة التي يمكن إدراجها في أدب الرحلات أو رواية السفر، الأخيرة التي تعطي البعد الأكبر والدلالة الأوسع على أن الرواية من الممكن لها أن تتحوّل إلى بحثٍ في الذات والابتعاد عن الرؤى المجتمعية العامّة خارج وداخل إطار المكان الواحد (التي غالباً ما تكون محوراً أساسيّاً لأغلب الروايات).

بعباراتٍ مفتاحيَّة توردها الروائيَّة في بداية كل فصل، معتمدةً على ما ورد في أناجيل بوذا ولوقا وبطرس والقرآن الكريم وصولاً إلى "مصحف رش" و"كتاب الجلوة" المقدّسين لدى الأيزيديين و"البهاغافاد" و"الريجفدا" لدى الهندوس ومزامير داود بالإضافة إلى نصوص لشعراء عرب وكُرد، بمثابة مفتتحٍ لكلّ ولوجٍ إلى فصولٍ تتوالى داخل الرواية دون أن يكون الشرط في إيراد تلك المقتطفات أن تكون ذات صلةٍ بالسَّرد.

كوابيس الحرب الأهليّة

بطل الرواية، أوس سراج كريديه، الذي درس في لندن ومن ثم عاد إلى بيروت ليصطدم بالحرب والانقسامات الطائفيَّة، والذي لا يريد امتهان الرتابة اليوميَّة المُضجرة، لكنه يصطدم بها في بيروت فيمتهن تجارة السجّاد مع والده (التجارة الأهليَّة والعائليَّة السائدة) على الرغم من الانفتاح الذي عايشه في سنوات دراسته بلندن، ولكن تصطدم تلك التجارة بالكساد ليضطر للسفر إلى السعوديَّة ليصطدم بدوره بالمجتمع المنغلق الذي على الرغم من أنّه يتوفّر لديه كل وسائل الراحة وعلامات الرخاء في العمران، لكن يبقى مجتمعاً منغلقاً على ذاته مع وجود علامات الرتابة اليوميَّة ذاتها التي تتواجد في كلّ الأمكنة دونما استثناء، وكأنّ الرتابة موضوعٌ قائم بحدّ ذاته وطريقة يمكن الاتّكاء عليها خلال السرد، تطلّ بيروت برأسها دائماً بين ثنايا النصّ لترسم الأجواء، بيروت المكان الرتيب الذي يعيش أجواء الحرب الأهليَّة وانقسامات مجتمعها: "أنا رجلٌ حديديّ آكل النفط وأنقع جسدي بالزيت كي لا يصدأ، لا تُصدر مفاصلي أصوات احتكاك، وجهي قناع. حين اقتلعته شاهدت عشرات العجلات المسنَّنة التي تدور لتحصيل الدولارات! أنتفض ثمّ أعود إلى يومياتي الرتيبة".


يعود أوس مجدداً إلى بيروت ليصطدم برؤى الحرب الأهلية والكوابيس المتحرّكة التي تأخذ هيئاتٍ مختلفة تدور في ذهن البطل.

كثيراً ما تكون الروايات حاملةً إرث بطلٍ واحد، لكن قليلة هي الروايات التي تسردُ بهذه العبثية حياة البطل الوحيد، الذي يدور في أفلاكَ كثيرة، ذكريات، هواجس، كوابيس، كل تلك العناصر السابقة تحوم حول ذهن البطل، لا بل تنخر كالدود، هجرة في كلّ الأمكنة وبين كل الأمكنة ريثما يتمّ العثور على مكانِ يُؤوي الكمّ الهائل من الذكرى المخزّنة في الدماغ كصورٍ سينمائيَّة متتابعة دونما انقطاعْ، وما يلفت النظر أكثر في "ما ودّعكَ صاحبكَ" هو الكثافة الشديدة للعناصر الروائيَّة، تلك التي غالباً ما تكون غير واضحة في الرواية، ضبابيَّة غير محدّدة، وكأنّ الحال هذه رغبة في أخذ القارئ إلى عوالم تكاد تكون رتيبة ولكن يصل القارئ في المحصّلة إلى نتيجة مفادها أنّ الرتابة تلك ليست سوى ذرّاً للرماد في الأعين بهدف الوصول إلى التخيّل الراقي للفكرة المراد إيصالها عبر الكلمات.


شخوصٌ كثر داخل الرواية تتحرّك، وكأنّ الرواية تنقلب إلى مسرحٍ لأحداث يوميَّة شخصيَّة تارّة وتارةً أخرى تبدو عامّة وتنطبق في كل زمان، هذا البعد عن تحديد المكان والزمان، الأخير الذي يبدو واضحاً، يولّد لدى القارئ غوصاً في تفاصيل (الحدّوتة) الروائيَّة، حكاية بسيطة يوميَّة تفضي إلى سرد طويل معتمد على التداعي الحرّ كعلاجٍ للرؤى الغائمة حول العالم في نظر الروائيّة.

فبطل الرواية "أوس" وعائلة حبيبته "دانية" الأخيرة المتخوّفة جداً من المستقبل وغاضبة بشكل أشدّ من الماضي تحاول جاهدةً أن تكوّن لنفسها عطفاً أبويَّاً حُرِمَت منه في ما مضى، حكاياتٌ لنسوةٍ ثلاث داخل عائلة "دانية" تعطي البعد الأوسع للحكاية، إذْ تسرُد الخوف من الزواج، والخوف من الماضي: "أنا طائر أسود، ربمّا نسر أو غراب، من يستطيع أن ينتبه للدم على ذلك الريش الداهم السواد؟، يستحيل رؤية الدم الأحمر على الريش الدّاكن، وتلك الرجل المبتورة لن يلاحظها أحد."، كما في هذا المقطع، المُلاحَظ في أغلب النصوص الروائيَّة العربيَّة في العصر الراهن توفّر كميّات هائلة من مفردات تشي بالسواد بشكلٍ صادم، كما وتحيلُ أغلب النصوص إلى الذاكرةِ الدمويَّة للعالم خلال سنواتِ الحروب التي لمّا تَزل قائمة حتّى يومنا هذا.

الكُرد في الرواية

دون حوارات، تغوص كريديّة من خلال شخصيتها إلى عوالم مختلفة عن السائد، حيثُ تختار عالم الكُرد، شعباً وثقافةً، لتبحث في عوالم هذا الشعب، من خلال رحلةٍ تعريفيَّة عن الكُرد والأيزيديين وعن كتبهم المقدّسة وشعرهم ولغتهم وأناسهم المنقسمين بين شعوب أربعة، ثمّة دفاع عن النظرة الدونيَّة للكرد لدى بعضهم، تحاول الروائيَّة من خلال رحلتها أن تتبيّن أنّ الثقافة موجودة طالما أنّ اللغة متوفّرة وهذا ما سيقوله "عصام" الكردي، الذي يسهب في الحديث عن الشعر الكرديّ من خلال إتيان أمثلةٍ شعريَّة وأسماء دوّنت لقبها بالكردي في وقتٍ كانت تُمنَع فيه اللغة الكرديَّة، وبدون شعورٍ بالسأم –على الرغم من انعدام وجود قصصٍ محوريَّة- تمضي القراءةُ سلسةٍ عبر انتقالاتها من مكانٍ إلى آخر، القيظ في بلاد الخليج العربي والبرد في أربيل الكردستانيَّة وليس انتهاءً بعالم أندونيسيا، الرحلةُ الأخيرة للبطل. لعلّ هنا السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان والذي من الممكن طرحه، هل يمكن للرواية العربيَّة أن تتخلّى عن الغوص في السياسة وتصرّفات الساسة وقادة العالم؟ مطلقاً لا، هذا ما تقوله الرواية وإنْ بطريقةٍ سريَّة يستكشفها القارئُ تأويلاً للكلمات والجمل وعبر شخوصها المختلفين عن بعضهم بعضاً بنيةً وتفكيراً ووعياً، يقول عصام: "الكورد أبناء الطبيعة ويحترمون المرأة، والأهمّ انتماؤهم لقضيتهم"، هذه الفكرة تقال عبر وسائل الإعلام ملايين المرّات خلال اليوم الواحد، لكن ما يلفت النظر هو استعمال ذات الفكرة داخل نصٍّ روائي وعلى لسانٍ شخصيةٍ كرديَّة، السياسَةُ عالماً ومدخلاً روائيَّاً لمجموعة أفكار يوميّة عالميَّة مطروقة، إعادةُ الصوغ عبر سردٍ حكائي، هذا هو المُلفت في الأمر.


عناصر إضافيّة

تبدو الرواية غارقةً في السرد، فيما الشخصيات على كثرتها تظهر وكأنّها مجرّد أشباح.
عناصرُ أخرى تبدو واضحة داخل الرواية، عالم الطبخ كنموذجٍ تمّ الاشتغالُ عليه في الروايةِ العربيَّة، المطبخُ عالماً أو مفردةً لإعداد كل شيء للبشريَّة، المصطلحُ آخذاً بُعداً آخرَ مختلفٌ عمّا هو مستخدَم يوميَّاً: "في عالم الخضار تبدو الأمور واضحة جلية، من السهل معاينة السمات والصفات ومن السهل أكثر حياكة التُهم، وإصدار الأحكام العرفية! ... لم أعرف تفسيراً لنفوري من الفليفلة، لعلّها الوحيدة بجميع ألوانها -لا سيما الخضراء منها المتفاخرة بحدِّيتها -التي لم تستطع الحصول منّي على أسبابٍ تخفيفية، ولم تُفلح في استعطافي واستمالتي إليها؛ فأنا لم أستشعر منها إلّا الوقاحة وقلة الأدب والأنانية، لا بل النرجسية! فما أن يُسمح لها بدخول أحد الأطباق، حتى تستأثر وحدها من فورها بمذاقه! تارة بالتشويش على شركائها، وأخرى بإخضاع ما حولها لسادية طعمها...! يحزنني مشهد الخضار في الطنجرة، وقد وقعت ضحايا هذه المتسلّطة اللئيمة المستكبرة".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.