}
عروض

انفتاح الشعر أو شعرية الانفتاح، لُمَعٌ تساند بعضها

أحمد العمراوي

23 مارس 2017
ما الذي عليه أن ينفتح على الأخر؟ الشعر أم الأنواع الأخرى؟ ما الذي يميز قصيدة حديثة عن أخرى تقليدية من غير شكل الكتابة البصري؟

الكتابة والأجناس. مغامرة جديدة تسعى لربط الجسور بين سؤال الأنواع من خلال الشعر كرافعة أساسية لكتابة اليد والعين والذهن واللسان.

نقرأ في صفحة الإهداء لكتاب الدكتورة حورية الخمليشي "الكتابة والأجناس، شعرية الانفتاح في الشعر العربي الحديث"، الصادر في طبعته الأولى عن دار الأمان بالرباط، ودار التنوير بلبنان، سنة 2014 : "إلى كل من يؤمن بقدرات القصيدة سيدة المحبة والعشق والجمال اللامتناهي في زمن النكران"[1] إهداء وحده يُظهر ما يظهر من دون أن يخفي شيئًا. وعبر 300 صفحة من الحجم المتوسط، سيخوض الكتاب في سؤال الترابط والتناص من خلال نماذج محددة في الزمن والقيمة. وقد نتفاعل مع الدكتورة حورية الخمليشي في إشكاليتها جزئيًا من خلال التساؤلات التالية: الشعر والتشكيل أية رؤية للعالم من خلال الحرف والمتخيل؟ الشعر في الزمن الرقمي. أي التباس هذا الذي سيعصف بالقصيدة محدثا ألمًا مبرحًا بالمتنبي؟  ثم ما مدى انفتاح الأجناس على بعضها في هذا الزمن الرقمي الهائل والمتسارع؟ الترجمة. الإخراج الفني للكتاب. المسرح. الغناء. السينما. أي تعالق وتعاضد وتنافر بينها؟

لنخض معها في افتراضات أملاها علينا موقعنا كشاعر أكثر من كونه ناقدًا بالمعنى الأكاديمي للكلمة. هذه العلاقة الملتبسة هل هي ضرورية الآن بين المتخيل في جانبه المتعلق بالذكاء اللغوي الذي هو مركب الشعراء والأدباء، وبجانبه المرئي التشكيلي المتعلق بالذكاء البصري الذي هو مركب الرسامين والفنانين التشكيليين ومهندسي الفضاء؟ هذا من جهة. ومن جهة أخرى كيف يمكننا تلمس القبض على سرعة النقرات وهي تخطط قصيدتها الرقمية، مفسحة لشعور مختلف عن ذلك الذي استوطن الذاكرة الشعرية زمنًا طويلاً في ما أطلق عليه ديوان العرب؟

تخصص الكاتبة الفصل الثاني من سِفرها الجميل للألوان الشعرية والألوان الفنية عبر 42 صفحة. رحلة في التشكيلي والفني ورقمية القصيدة والمسرح وسينمائية الشعر. ولعل أهم الأسئلة التي تثيرها الكاتبة عن تجربة هي أسئلة النوع المتداخل في بعضه، والذي يصعب الفصل بين أجزائه. من الواسطي إلى كمال بهزاد، إلى الأندلس، وإلى الشعر الحديث في المشرق والمغرب، من خلال نماذج وأمثلة لكل من محمد بنيس وقاسم حداد وأدونيس وغيرهم.

تقف الباحثة عند تجربة محمد بنيس من خلال ديوانه : "في اتجاه صوتك العمودي" في انفتاحها على الخط المغربي شأنها شأن الشعراء أحمد بلبداوي وعبد الله راجع وبنسالم حميش. والانفتاح هنا يأتي من هذا التزاوج بين الكتابة اليدوية الدموية، وبين الخط المغربي الدموي أيضا، وبينهما وبين الصور الشعرية الذهنية، في تواطؤ جميل على المتلقي وذكاءاته المتعددة.

حضور اللون وتشكيل المعنى يعطي للغة بعدها الذاتي من دون المس بعالم الخيال الذي هو الجامع بين التشكيلي البصري، وبين الشعري اللغوي. ستفصل الكلام في هذا الجانب محللة هذه العلاقات بعين الناقد المتفحص الضابط لأدوات اشتغاله.

رحلة أخرى  في الانفتاح تناوشها الكاتبة من خلال أدونيس وقاسم حداد تنقلب فيها الأدوار وتتداخل حد الذوبان، بإصرار يتحول فيه الشاعر رسامًا وتشكيليًا. ويصير الرسام شاعرًا بكولاج هو الانفتاح نفسه. فالشاعر هو رسام بالكلمات قد خاض تحدي اللون والحرف والشكل والكتابة البصرية. فإذا كانت اللوحة كائنا يسمع، فإن قلب اللوحة لا عينها هو ما يثير البصر. والأبعاد المجسدة للعين ستنتقل للذهن لتخلق الدهشة بين الرائي والمرئي، لدرجة يصعب الفصل فيها بين الشعر والشاعر. بين الملقي والمتلقي. وبين الرسم وناظره. ويكون الانفتاح هنا أمرًا ضروريًا. إذ هو ما سيحقق القلق الإيجابي المنتج الذي بدونه سيبقى المتلقي في كسله مقيمًا عاجزًا متفرجًا.

الكتابة كما الرسم هي شطرنج العارفين استعارة من الشيخ الأكبر ابن عربي. كتابة شعرية رقمية لا بالمعنى الإلكتروني ولكن بالمعنى العميق لدواخل الذات والأشياء.

في عالم الرقمية يمكننا أن نتساءل انطلاقًا من الكاتبة : هل نكتب المعنى أم نقول الشعر؟ وبأية حاسة نقوم بذلك أولاً؟ وبأية بداية؟ لعل سؤال ترتيب البدايات هو الأهم بما أن ترتيب الأسئلة أهم من السؤال ذاته على حد تعبير عبد الله العروي. إنها في رأينا هي المؤسس للانفتاح. وهي ما يعطيه دلالته الضرورية. ومن أجل ذلك ستنبش الباحثة في تاريخ العلاقة بين الأنواع عربيًا وعالميًا. ولا شيء يسبق شيئًا. الاسم هو المسمى منذ آدم إلى آتي الأيام. وفي البدء كان الانفتاح والمزج بين الرقم والحرف. والرقمية في نهاية الأمر إذا راعينا الجانب الإبداعي فيها، ليست سوى عودة الفرع إلى أصله، ولكن بلُمع جديدة تراعي التطور والناس والنوع.

الكتاب رحلة تاريخية وتحليلية عميقة لأصل الشعر، أو فلنقل لسؤال الشعري في علاقاته المتعددة بلا حد ولا حصر، في الترجمة. المسرح. في السينما. في الغناء. وفي الأصل كانت الكلمة مغناة تعطي أكلاً يمتد إلى السماء بما أن أصلها طيب.

وبالعودة لعلاقة الشعري بالتشكيلي، اسمحوا لي أن احكي عن تجربة شخصية في هذا المجال، كنت قد خضتها رفقة الفنان التشكيلي الراحل عبد الإله بوعود في عملي الشعري الثالث: الينابيع. وهي حقيبة شعرية تشكيلية تتكون من 11 لوحة قصيدة بشكل متكامل ومتداخل. ينابيع مائية كان هو ديواني الشعري الثاني. أنجز غلافه الفنان بوعود. إلا أنه قبل إتمامه اقترح علي أن نكتب المائية في رسم مائي يمتد لكل الديوان. وبما أن الديوان هو قصيدة واحدة متتابعة تمتد لـ110 صفحات، فسيكون العمل شاقًا بالنسبة لي وله وللناشر. أخذت ما رسمه من لوحات كانت ثلاثاً أو أربعاً. ووجدت نفسي أكتب قصائد جديدة عن الصفاء واللون والماء. قدمتها للفنان الذي أضفى عليها تحسينات. وأضاف أخرى لتصل إلى 11 لوحة و11 قصيدة كان يقدمها لي للمناقشة والتشاور، إلى أن استقرت على ما هي عليه الآن. بوعود اشتغل قبلها على أحد عشر كوكبًا لمحمود درويش، واشتغل على أشعار رامبو. وعلى آخرين إضافة إلى اشتغاله على الملصق وعلى المسرح الذي لم يغب الشعري عنه أبدًا. أليس الانفتاح حاصلاً في المغرب منذ مدة؟

الشاعر يشكّل العالم بالكلمات. والرسام سيحولها إلى خطوط وألوان. وحين يتم التداخل يتم تصريف الطاقة الفائضة عن الذات من أجل التجدد. تجارب مغربية كثيرة خاضها شعراء المغرب في هذا المجال، حين زاوجوا مباشرة بين التشكيل والشعر ولنمثل لشاعرين متميزين: رشيد المومني وعزيز أزغاي. تجارب نسائية أخرى تواطأ فيها الشاعر والرسام من مثل: فاتحة مرشيد ووداد بنموسى. ولا ننسى تجربة الفنان التشكيلي والشاعر المرحوم محمد القاسمي. ونذكر تجربة حسن نجمي وآخرون كثر من دون أن أنسى شاعرًا اهتم بالعلاقة بين الجانبين كتابة وتنظيرًا هو محمد السرغيني. سيخوض الشاعر في عالم الفن التشكيلي بحس مرهف كما هو شأن بوجمعة العوفي. وسيخوض التشكيلي في عالم الشاعر باحترافية العارف كما هو شأن شفيق الزكاري. هي ضرورة الانفتاح والتوجه نحو الرقائم التي يقول عنها أدونيس : "لاحظت أن ثمة تكاملاً بين الرقيمة والقصيدة. وهذا ما شجعني باعتباره نوعًا من التكامل في الإبداع الكتابي والإبداع التشكيلي. واكتشفت بعد أن أمضيت في هذا المجال فترة من الزمن، أن قصيدتي في الأساس قائمة في الأساس على نوع من التشكيل أي يلعب فيها التخطيط والهندسة والعناصر الآتية من خارج الكلام دورًا أساسيًا. وهذا ما زاد من قناعتي أن عملي في الرقائم يكمل قصائدي" [2].

ما مآل قصائدنا إذا لم تبصر وتقرأ بالعين؟ في زمن الصورة وتزاحمها وفي الزمن الرقمي المتسارع، لم يعد بإمكان المكتوب أن يبقى مشدودًا لذاكرته الماضوية. عليه أن ينفتح وينفتح ويغامر أكثر في انفتاحه. إن لم نقل عليه أن يعود لأصله بلُمع ضرورية للذات الكاتبة ولذات المتلقي. ولنتأمل. لنتأمل هذا البيت الهائل لسيد الشعراء أبي الطيب المتنبي الذي ناب به في التعبير عن كل الشعراء ونرجسيتهم المشروعة :

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي          وأسمعت كلماتي من به صمم

كل الحواس ستتجه نحو الشعري والشاعري، بانفتاح لا تفضيل فيه لجنس على آخر. في زمن متسارع ذهنيًا وعمليًا رغم كونه زمن نكران للقصيدة سيدة المحبة على حد قول الكاتبة.

 

[1]  حورية الخمليشي، الكتابة والأجناس، شعرية الانفتاح في الشعر العربي الحديث، دار الأمتن ، دار التنوير، 2014.

[2]  من حوار أجراه نوري الجراح مع أدونيس، نقلا عن حورية الخمليشي، مرجع نفسه، ص 210.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.