}
عروض

"77" لأحمد شافعي: خريطة شعرية لسن الأربعين

أحمد ندا

20 مارس 2017

 

يُحكى عن الشاعر بشار بن برد أنه ظل يسمع شاعرا شابا متحمسا وركيكا لوقت طويل، وهو صامتٌ دون أن تبدو عليه أية أمارات ضجر وهو المعروف بحدة قوله وسلاطة لسانه وقلة صبره. انتهى الشاعر المتحمس وانتظر رأي ابن برد، الذي صمت طويلا، حتى سأله الشاب: ما أحسن الكلام؟ فقال ابن برد: موجز قول دونما إخلال مقصد. فسأله الشاب ثانية: وما العيّ؟ فقال ابن برد: ما سمعته منك قبل قليل. يقول الراوي: فكأنما ألقمه حجرا.

ربما لا تكون هذه الحكاية عن ابن برد، بل عن غيره، لكنها تمركزت في ذاكرتي بصيغتها هذه، وصارت مفتاحا شخصيا لقراءة الكثير من الشعراء، خاصة من يتصدون لقصيدة النثر، ذلك النوع الذي لا يحتمل "العيّ" بتعبير ابن برد، الثرثرة بكلامنا الآن.

تحضرني هذه الحكاية في قراءة المجموعة الشعرية الأخيرة لأحمد شافعي "77" على وجهين: أولهما متخيلا إياه في موقع الشاعر الشاب، وثانيهما في موقع ابن برد اللاذع الحاد.

ربما لو لم تكن مفردة "شعر" على غلاف المجموعة الشعرية لما جال بخاطر رائيه لأول مرة أنه كذلك، نظرًا إلى عنوان المجموعة "77" وحده مذيلا باسم الشاعر، ونوع الكتاب، فلا الرقم يحمل دلالة شعرية ما، ولا هو عدد قصائد الكتاب، ولا يحمل بعدا "فانتازيا" كما في رواية 1984 لجورج أورويل. سوف يجد القارئ نفسه أمام صفحة تعريف الكاتب حتى يفهم أن 77 هو تاريخ مولده، أي أنه قد أتم أربعينه الآن. نحن إذن في واحة خيال الشاعر، وقد سمح لنفسه - أخيراً- أن يتخلى عن صرامته البنائية كما في مجموعته السابقة "وقصائد أخرى" والتي جرى العرف أن تُقرأ "أحمد شافعي وقصائد أخرى"، معتمداً على تقديم قصيدة كتلة بوصفها هي "قصيدة النثر" كما في تقديمه المطول في "وقصائد أخرى". هي "أخرى" في انشغالها ببناء القصيدة فنياً، وعالمها المعتمد على مسيرة سردية تلتقط خيط الشاعرية شديد الرهافة وراءها، قصيدة الكتلة التي يعتبرها راسل أدسون "تسرق من كل الفنون". هي "أخرى" في تواري ذات الشاعر وراء الانشغال بالآخرين.

وعي الذات لنفسها

في "77" نحن في وعي الذات لنفسها، وانشغالها ببنائها الشخصي، ألعابها متخففة من صرامة بناء قصيدة النثر، إلى القصيدة الحرة، متخففة كذلك من الآخرين. الشاعر أمام نفسه وقد بلغ عمر الحكمة، أو النبوة في المخيلة العربية، بيد أنه ضجِرٌ من هذه الفكرة، حيث النبوة مسؤولية حمل الآخرين على كتفيه:

أنت يا نبي آخر الزمان 
أنت يا رسول البرمجة اللغوية
جرِّب هذا التكتيك البسيط:
أن لا تكون نبيا لليلة واحدة
وانظر بنفسك
كيف لم يعد حولك كافرون.

هكذا تبدو المجموعة نزهة في وعي الذات وألعابها، وتأملاتها حول نفسها، وقليل جدا من الآخرين بما لهم في نفسه فحسب. حتى يسيطر ضمير الأنا على معظم قصائد المجموعة الـ109 (حقيقة هم 110 إذا ما حسبنا القصيدة صفر). وكما لم ينشغل الشاعر بعنونة الكتاب بأكثر مما يدل عليه، فلم ينشغل بعنونة القصائد بأكثر من أرقام متتابعة، محطات واحدة وراء الأخرى؛ خريطة شعرية للذات وهي تواجه تأملاتها، أفكارها، ألعابها، فانتازيتها، واحة خيالها، وقد استرخى شاعرها في ظلها بتمهل الأربعين، يعيد مساءلة الحياة على شاكلة قصائد، هي ثمار هذه الواحة.

هذه المساءلة قد تتبدى نرجسية ساخرة:

في طفولتي
كنت أرثي لكلِّ من ليس أحمد شافعي
وليست هذه نرجسية
مهما بدا الأمر غير هذا.

وتتحول مع الزمن والتحول من طفولة اليقين إلى كهولة الشك، من البداية وأحمد شافعي بالنسبة إلى أحمد شافعي صفة وحالا ومضافا:

عندي أحمد شافعي     
كما عند بعضكم سرطان
كما عند بعضكم رب.

قبل أن يدرك أخيرا وقد اعتاد أن ينسلخ من ذاته، في خاتمة المجموعة، حجم "الهول" في انشغاله بذاته صفة وحالا، في غياب الذات عن نفسها:

مسكين يا شافعي

الشخص الوحيد الذي قد ينصت لك

منهمك في كتابة قصيدة.

إخلاص للقصيدة

ولأن اللعب ليس "غرضا شعريا" بقدر ما هو وسيلة لتحقيق أغراضه، فلا تبدو المجموعة مشغولة بموضوع رابط بينها، سوف تظهر غير متجانسة، ناتئة، ذات تحولات حادة، كأنها شاهد على مزاج الشاعر المختلي بنفسه، حيث قصائد لا تزيد عن ست كلمات، وقصائد تطول إلى عدة صفحات.

يخلص شافعي إلى القصيدة لا الشعر في الكتاب، حيث الشعر والشعرية مكون جمالي يمكن إيجاده في غير الشعر. أما القصيدة، كعالم مستقل، فتحتاج إلى الكثير من الوعي والتجربة كي تكون كيانا عاقلا كاملا يستطيع أن يتنفس وحده. لعل هذا أبرز ما في "77"، هي قدرة كل قصيدة أن تكون وحدها، غير أنه بعد أن يعطيها استقلاليتها يجد نفسه وحيدا، "محبطا" ربما:

ها أنت والقصيدة انتهت.
لست محبطًا
لأنه لم يكن طائرا بالأساس،
لست محبطا وحسب،
هناك سعادةٌ أيضا
حين تكتشف كنزًا
كنت تجهل دائما
أنه لديك،
حين تعرف أن عندك طائرًا
هو أرقُّ من يمامة،
وأدقُّ من هدهدة،
هو رِمْشٌ
في غير موضعه
.

حتى بعدما تكتمل قصيدته، فما زال مشغولًا بما أودعها من نفسه، وقد سيطر عليه ضمير المتكلم، يريد أن يفر عبر الكلمات إلى حيلة مراوغة تواجه الذات نفسها دون أن توجعها المواجهة، أن تمل منها، الكلمات ستره وكشفه ههنا:

سنوات
وهو يجلد المعجم
كي يعطيه عشرة مرادفات
لـ أنا،
ويجوِّع كلمة في بئر
إلى أن تعني ما لم تعن من قبل.
سنوات وهو يغتصب أفكاره
فيخرجن في الليل بأذرع دامية
وحلمات مقطوعة.
وكأنه يتمثل مقولة النفّري الشهيرة في مواقفه "كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة"، لكن الشاعر يجنّ، يريد أن يقيّفها، يرتقها، يعذبها، يحملها على أن تعني أكثر، وهي التجربة المحفوفة بمخاطر الخروج من بيته، فكما يقول هايدجر "اللغة بيت الكائن"، لا يتسع البيت للشاعر، يريد أن يهدم واحدا من جدرانه للتوسعة، بلا طموح في أن يخرج منه، راجيا أن يكون الاتساع الجديد مولدا لقصيدة:
رحلة طويلة على الحبل
وها هو في منتصف العمر
وسط أرامل مجهدات
في أذرعهن آثار خدوش قديمة
صامتٌ صمتهن
أرمل مثلهن
يمتنّ للحظ وحده
أن حبلا تحت رجلي البهلوان
لم يصر له مشنقة.
وقد يفتح المعجم
بين الحين والآخر
ليكشط كلمة،
راجيا أن تظهر له من البقايا
قصيدة.

**

في "77" تمثل لحكاية بشار بن برد والشاعر الشاب، وكلاهما أحمد شافعي، الكثير من أحمد شافعي فيها بالأحرى، وقد ترك شابه المتحمس تحت رحمة كهله الحاد يضبط قصائده، حتى لا يظهر من كليهما إلا خيرهما. لم يتركنا الشاعر نشهد ذاك الحوار، لكن بقاياه متمثلة في قصائد اختارت ألا تكون ثرثارة، مع أنها تقول الكثير.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.