}
عروض

تخييل التاريخي في رواية "رسائل زمن العاصفة"

محمد العناز

18 مارس 2017
تقيم الرواية في المسافة الملتبسة بين ما هو تخييلي ومرجعي؛ ذلك أن التخييلي يعمل على تحويل المادة السردية بوساطة الأدوات الفنية بما فيها الحكاية. أما المرجعي فيحضر بوصفه خاصية نصية تكشف تعدد العناصر والعلامات التي يخضع بناؤها للمقومات السردية، وتخضع تبعاً لفعل القراءة التي تفرضها سياقاتُها قصد الكشف عن حقيقتها انطلاقاً من تصوير الواقع بناء على ممكن التخييل الذي يتأسس وفق مرجعية يتحكم التخييل في بنائها. وقد أشار أرسطو في "فن الشعر" إلى هذه العلاقة المتداخلة في تنظيره لمفهوم المحاكاة وعلاقته بتصوير الواقع عبر خاصيتين: أولاهما تتصل بمبدأ الغاية من الفنون؛ أي بوصفه وظيفة لها، والثانية، ترتبط بغاية الوصول إلى الكلّي المُكوِّن للموضوع بوصفه شكلاً أو علّة صورية؛ أي الخصائص المُمثِّلة لما يتجاوز المفردات نحو المفهوم. إن مهمة الكاتب وفق هذا المنظور تتمثل في إعادة كتابة التاريخ بوصفه مرجعاً ممرراً عبر المنظور الخاص للذات.

إن الرواية التاريخية نوع ظهر تحديداً مع "والتر سكوت" منطلق القرن التاسع عشر الذي تمكن من الجمع بين شخصيات واقعية وأخرى متخيلة في قالب واقعي يتحرك بناء على أحداث هامة في مسير الدول. وقد انتبه الباحثون مبكراً إلى أن الرواية التاريخية بكونها وإن كانت متوغلة في الماضي إلا أنها على صلة بالحاضر، وبهذا الفهم تعامل معها الأخوان "كونكور"؛ فالتاريخ هو رواية ما كان، والرواية تاريخ ما كان يمكن أن يكون، وإن كان هذا القول له ما يبرره، أما جورج لوكاش فربط هو الآخر بين الرواية التاريخية والحاضر مستفيداً من درس الهيغيلية القائم على المفارقة التاريخية.

والرواية التاريخية هي تفكير إبداعي يستدعي المعطى المعرفي والمعطى الجمالي، ونقصد بالمعرفة الاطلاع على كل ما يمكنه أن يعمق رؤيتنا للموضوع الذي نحن بصدد بنائه، ونقصد بالجمالي كل ما راكمه الجنس الأدبي من أدوات وتقنيات رهينة بتحويل المعرفي إلى الجمالي من دون السقوط في التأريخية الفجة.

على هذا النحو يتعايش كل ما هو تخييلي ومرجعي ضمن بوتقة تنصهر فيها الثنائية من دون القدرة على الفصل بينهما؛ ذلك أن الرواية تقدمهما عبر دمجهما ضمن سيرورة اندماجية تسعى إلى تخليق التاريخ، وإعادة قراءته من جهة، ومن جهة ثانية تسعى إلى فتح عوالمها على آفاق تخييلية لا نهائية. ويمكن التمييز بين مستويين تاريخيين: المستوى الرسمي المتمثل في الاعتماد على الرواية الرسمية المدونة، أو ما يمكن تسميته تاريخ المنتصرين، والمستوى الثاني مرتبط بالذاكرة الشعبية وفهمنا لها، وهو تاريخ المنهزمين؛ ذلك أن الذاكرة الجمعية تحافظ على التاريخ المقصي، غير أنها تقدم قراءاتها نحوه بهدف فهمه، واستخلاص دلالاته الغامضة.

كيف يخيل التاريخ

إن البحث في مفهوم التخييل بعامة يستند إلى تصور ينظر إليه من زاوية المرجعية الأرسطية القائمة على المحاكاة والفعل بوصفهما مرتكزين أساسين في تشكله؛ ذلك أن جيرار جنيت يحدد التخييل (المحدد للمظهر الأدبي للنص) بوصفه مرادفاً للتعبير (المظهر اللفظي للنص) كما يشير إلى ذلك الباحث عبد الرحيم جيران؛ حيث يقسم الأدب تبعا لذلك إلى تخييل وشعر، ويقصي الشعر بموجب هذا التقسيم من مجال التخييل، ومن ثمة يصير هذا الأخير مماثلاً لما هو سردي، أو درامي، وقد تم التركيز في هذا التمييز على التلفظ؛ أي من يتكلم في النص؟

كل حكي متخيل، بخلاف التاريخ، لا بد له من أن يستند إلى صيرورة محددة لما هو حدثي تعمل على ضمان تتاليه في الزمن، وفق منطق متعال يضمن له الانسجام؛ فممكن العلائق ناجم عن هذه الصيرورة، ومن المفترض أن يكون موجوداً قبل المادة السردية بوصفها صوغاً لأحداث محددة، وقبل المادة من حيث هي عالم  مشكل من معطيات معينة (أشياء – شخصيات – صفات... إلخ).

صوغ التاريخ روائياً

تتداخل أنماط معرفية متعددة في بناء الكل السردي لرواية "رسائل زمن العاصفة"، ومن بين هذه الأنماط نجد تقابلا بين التخييل الروائي والتاريخ. كيف يشتغل هذا التقابل على مستوى ما هو معماري؟ أيظل تقابلاً قائماً على التعارض بين الكتابة والتاريخ بما يحيل إليه، وإلى ما هو عام وشخصي، وطبيعة الحدود بينهما؟ أم يتأسس على ما هو ضمني أم انطلاقاً من تداخلهما؟ هل يرتبط الأمر بتخييل تأريخ المكان أم من له الحق في تأريخ جغرافياته؟ وكيف يتداخل هذا التاريخ مع شروط الكتابة الروائية؟

ترصد الرواية التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بما سمي زمن الرصاص؛ ذلك أن تطور الوعي الاجتماعي أدى إلى أداة ضغط اتخذت مما هو اقتصادي أساساً لها؛ حيث شكل غلاء المعيشة أحد الأسباب في قيام انتفاضة 23 مارس/ آذار 1965 في الدار البيضاء، بما يشكل هذه الانتفاضة من تاريخ غير مدون سعت الرواية إلى إعادة اكتشافه عبر التقاطع الحاصل ما بين الزمن، واستعادته، وبما يحيل إليه هذا التاريخ من رمزية تتمثل في ولادة الشخصية الرئيسة. على هذا النحو راهن السرد على دمج الشخصية في سياق أسئلة التحول بوصفه تحولا التصق بإحدى محطات تاريخ المغرب الحديث؛ حيث يتحول المغرب في بعده التاريخي إلى قرية منسية تسمى أزلاف مسقط رأس الشخصية الرئيسة؛ فهي اختزال لصورة المغرب، والتناقضات التي عاشها. فأزلاف هي رمز للقرى المغربية وحواضرها، ذلك أنها تعاني تهميشا نتج منه سخط عارم سرعان ما أفضى إلى انتفاضة شعبية دامية بما يعرف بأحداث البيضاء 1981 التي لا تخلو هي الأخرى من إيديولوجيا.

تقوم الرواية على بناء الرمز الذي يتوزع إلى ظاهر وباطن؛ فالظاهر هو صورة المناضل الذي يدافع عن الطبقة الكادحة، والعيش الكريم، والحرية، والكرامة... أما الباطن فيتمثل في القيام بدور مخزني يتمثل في الوشاية بالمناضلين؛ حيث تتحول إلى أداة للتحريض، وبناء الوعي إلى أداة سلطوية تسعى إلى القصاص من الصوت المختلف، وإخراس الأصوات المنددة بالتحولات، والمطالبة بالعيش الكريم، فالراضي أبكوز المناضل الظاهر والجلاد الخفي سرعان ما يتحول بتحول المغرب إلى أداة لتصفية التاريخ، وإعادة بناء ذاكرة جماعية خالية من الجروح عبر ما يسمى بالإنصاف والمصالحة من دون السعي إلى محاكمة المتورطين في أحداث مغرب الرصاص أواخر التسعينيات.

على هذا النحو تعيد الرواية بناء تاريخ المغرب الحديث وفق تعريته، وكشف ما هو متوار؛ حيث يتحول الجلاد إلى ضحية، وتتحول الضحية إلى جلاد. لتقدم الرواية روايتها المناقضة للتاريخ الرسمي الذي يقوم على مبدأ البطولة. وكما تقدم رؤيتها النقدية إلى الماضي والحاضر فإنها تشيد رؤيتها للمستقبل بعدِّ المستقبل صمام الأمان للعبور إلى المغرب الذي تحلم به الرواية، ويختزل المستقبل في الطفل عبد الكريم بوصفه النطفة المحرمة الذي هو نتاج ليلة عابرة بين الشخصية الرئيسة وغادة الغرناط في شاطئ الريفيين. ورمزية الاسم والمكان تحيلان كذلك إلى الأمير عبد الكريم الخطابي، وكأن الخطاب المضمر يربط التغيير بالحلم؛ وهنا يتجلى ما ينبغي أن يكون الذي جعل منه أرسطو هدفاً للتخييل، كما لا يبقى تخييل التاريخ عند حدود المادة كما هي تامة في الواقع، بل يتجاوزها إلى إدماج الرؤية الحالمة في داخله.  

إن التاريخ الذي أعادت كتابته الرواية نهض على استثمار العين بوصفها أداة تخييلية لمواكبة التحولات بصفتها دالة على الواقع من جهة، ولترجمة العجائبي بعدّه دالا على التخييل من جهة ثانية. فلا شك أن كلا من الكتابة والتاريخ في رواية "رسائل زمن العاصفة" يتداخلان بفعل توسطهما من قبل العجائبي؛ ذلك أن التاريخي يسعى إلى محاولة تفسير ما هو جزئي للوصول إلى ما هو كلي، بينما تتغيا الرواية تأويل هذا الكلي بهدف القبض على الخاص المنفلت فيه، والعجائبي بوصفه تردداً "يحسه كائن لا يعرف غير القوانين الطبيعية، فيما يواجه حدثاً فوق طبيعي حسب الظاهر"، والشخصية العجائبية تحيا "حياة تملؤها المخاطر، وهو معرض للتلاشي في كل لحظة، يظهر أنه بالأحرى في الحد بين نوعين، هما العجيب والغريب، أكثر مما هو جنس مستقل بذاته. ويبدو أن واحدة من أعظم حقب الأدب فوق الطبيعي، هي حقبة الرواية السوداء، تحمل إثبات ذلك".

إن الشخصية الرئيسة في الرواية مجهولة الهوية بوصفه حاملاً يحمل في بنيته امتداده الإسنادي التعييني مفهوم البداية بوصفها تكوُّناً. ومن ثمة يمكن أن نتساءل عما إذا كانت الشخصية الرئيسة مجهولة الهوية موازية للحامل العجائبي أم يكون موضوعُه تعقُّب التاريخي؟

تعمل العين التخييلية على تمثيل هذا التوسط انطلاقاً من المسافة التي تفصل بين ما هو تخييلي وتاريخي لكن بتوسط العين العجائبية لهما؛ فالعين التخييلية تتقرى التفاصيل، وتُنسِّب الواقع، وتتخذ من عناصر المادة الدقيقة الدالة على المحدود منطلقا لها للكشف عما خلفها من لا محدود احتمالي (علل نفسية- اجتماعية – سياسية)، بينما العين التاريخية عقلية تبحث في الفراغات قصد ترميمها بغاية تكوين كلٍّ مفسِّرٍ، فهي تنطلق من المحدود المجزأ للقبض عليه وقد صار كلا.

تعمل العين التخييلية في "رسائل زمن العاصفة"- في علاقتها بالعين التاريخية- على تفكيك هذه الأخيرة انطلاقا من توسط العين العجائبية التي تجعل تمثيل المكان على أنه الزمن نفسه في الذاكرة. وحين تتوسط العين العجائبية التخييلي والتاريخي يُعاد صهر العين التخييلية أيضا في مظهر هذا التوسط. فما يَشْرُطُ بنية "الرسائل" من تحوُّل سرة الشخصية الرئيسة إلى مجرة الجرو بفعل دم الجرو الشهيد: "جزت أمي عنق الجرو وتركت دمه يسيل داخل قصعة من الفخار وسرعان ما ملأت كأسا وسقتني على مهل حتى أفرغته تماماً. كانت تنظر إلي، وقد عاودني الهدوء بعد أزمات الاختناق التي أحدثتها جرعات الشرب المتقاربة. كانت أمي تسابق تخثر الدم، وبدا وجهي أقرب إلى وجه ضفدع عملاق تحول إلى مصاص دماء صغير ومخيف. هكذا كانت أمي تحكي وأنا أتخيلني مصاص دماء على مشارف الغاب. كانت فرحة أمي لا توصف، بكأس الدم. لم تكن تبالي بفمي الملطخ ولا بالقطرات التي تساقطت على ذقني وعنقي الصغيرين. هكذا حكت لي أمي، وكنت أصغي إليها وأنا أتساءل كيف لي أن أرد جميل هذا الجرو الشهيد" (ص44)؛ إذ يصاغ هذا العجائبي بممكنات تأويلية تتفوق على ما هو طبيعي. فالتوسط العجائبي للكتابة والتاريخ ينشأ من هذه الخاصية للعجائبي التي تتمثل في نقل المرويات في بعدها المرئي الخاضع هو الآخر إلى السماع، وإعادة تأويله.    

وبالتالي يسمح لنا هذا التوسط العجائبي بفهم البعد التعالقي وتقابل كل من التخييل والتاريخ في صوغ  هذا التوسيط؛ إذ ينبني التاريخي انطلاقاً من ممكنات التخييل، ولا نهائية قواعد الجنس الروائي القائمة على التفرد داخل عالم التجريب. لكن هذا التقابل بين الكتابة الروائية والتاريخ يصاغ انطلاقا من توسط العجائبي الذي يحدث نوعاً من التعالق بينهما. فالجرو الشهيد يترجم فهما للعالم. ومماثلُه في الرواية يترجم الخوف من المصير. ومماثله التاريخي ماثلٌ في مصير أمة على الرغم من أن هذه المماثلة تتأسس هنا بموجب توسط العجائبي. فالجرو الشهيد تجسيم لما هو سماوي علوي (المفارق) في علاقته بما يجري فوق الأرض (الإنسان)؛ حيث يكتسي صفة المجسَّم الأرضي (الجرو) الذي يتضمن في بنيته بقايا العجائبي الذي يصور الآلهة على أنها ذات ملامح أرضية. فما يبرر الانتقال من التخييل الروائي المحض نحو الحدث التاريخي ماثل في توسط العجبائبي لفعل الكتابة ومادتها.    

ناقد أدبي مغربي

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.