}
عروض

"كيف تلتئم" لأيمان مرسال: مساءلة الحياة

أحمد ندا

25 فبراير 2017

بحجم الكف، أو مثل كتب الجيب، صدر كتاب إيمان مرسال الجديد "كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها". كتاب من سلسلة "كيف تـ" يقول القائمون عليه إنه مشروع نشر يوظف شعبية كتب الأدلة للتعامل مع بعض احتياجات اليوم سواء كانت مهارات أو أدوات أو أفكار أو إدراكات أو مشاعر. تجمع هذه الكتب ما بين التقني والتأملي، بين التعليمي والفطري، وبين الحقيقي والخيالي. صدر منها سابقاً بالعربية كتاب "كيف تختفي" لهيثم الورداني.

 

الأمومة والعنف:

لا تعطي الكاتبة لقارئها "هدنة" منذ الصفحات الأولى، الفصل الأول "عن الأمومة والعنف" تفتتح الكتابة بأبيات للشاعرة البولندية أنا سوير: «أنتِ لن تهزميني/ لن أكون بيضةً لتشرخيها/ في هرولتكِ نحو العالم/ جسر مشاة تعبرينه/ في الطريق إلى حياتِك/ أنا سأدافع عن نفسي». تبدأ من عباراتها الأولى بأبعد التمثلات عن الصورة المثالية الكليشهية للأم، لا بغرض التقويض بقدر ما هو سعي لتفكيك البداهات، أو بتعبيرها "ما يشغلني هُنا ليس كيف استقرّت ملامح محددة للأمومة داخل المتن العام، ولكن كيف نُنصت إلى ما يخرج عليه ويعارضه. كيف يمكن أن نرى أنّ الأمومة الموسومة بالإيثار والتضحية تنطوي أيضاً على الأنانيّة وعلى شعور عميق بالذنب. كيف يمكن أن نراها في بعض أوجهها صراعَ وجود، توتراً بين ذاتٍ وأُخرى، وخبرة اتصال وانفصال تتم على عدة مراحل مثل الولادة، والفطام، والموت.

مثاليّةُ الأمومة في المتن الثقافي العام تسبب مزيداً من الشعور بالذنب عند هؤلاء الذين يشكّون في كنه هذه المثاليّة داخل خبرتهم الشخصيّة. إنها تُقابل التعبير عن كل خبرة مختلفة بإدانة أخلاقيّة واجتماعيّة، ربما لهذا هناك ندرة في سرد خبرات الأمومة خارج المتن المتفق عليه. ربما لهذا أيضاً احتاجت سوير إلى عقود لتتحرر فيها من قوْل ما هو متوقع منها، وهو ما لم يكن ليحدث في كل الأحوال بدون جهودٍ شتّى وسّعت التساؤلات النسويّة عن كل ما تمّ تعميمه وتنميطه في علاقة المرأة بجسدها وبالعالم".

العنف المعنون به الفصل، هو عنف يأخذ أشكالا عدة – رغم أن مفردة العنف نفسها لا تكاد تتكرر في هذا الفصل - يهيمن "الذنب" كتفسير لطبيعة العلاقة الشائكة بين الأم/ الطفل "إذا كان هناك صراع بين ذات الأم وذات طفلها فلن ينتصر أحدهما، سينتصر الديناصور «طبعاً»؛ إنه «الذنب». يبدو الشعور بالذنب وكأنه الشعور الذي يوحّد الأمهات على اختلافهن".

الذنب إذن هو المحرك النفسي الذي تتكئ عليه مرسال في مدخلها للفهم، بعيدا عن الشعارات الزاهية، الذنب الذي قد يتحول إلى "رعب من الفطام" كما في حال الشاعرة سنية صالح مع ابنتها شام. أو الفزع من "تصادم" هويتين هي هوية الأنثى والكائن الخارج منها، هل يمكن لإحداها أن تلغي الأخرى؟ أو هو العنف النظري في الطرح النسوي بسعيه إلى انتزاع حقوق في المجال العام دونما سعي إلى فهم "الفردية".. مجازات عديدة تنتقل بينها إيمان مرسال لتصل إلى خلاصة "أنا لديّ وعي بتصدّعي الذي أعيش معه من قبل الولادة، أنا هشّة، وإعطاء هذه الدّمية الحياة وانفصالها عني شرخ جديد في وعيي، أنا لم ألد هذه الدّمية للتوّ وحسب، بل عليّ من أجلها أن ألدَ نفسي أيضاً، ولادة شخصيّة، تجذّر شروخ ذاتي السابقة أو تساعدها على الالتئام".

كيف تجد أمك في صورتها؟

تتحرك مرسال في ثاني فصول الكتاب، من التمثل البصري لفكرة الأم أيضاً على مستوى ذاتي لتنطلق بعدها إلى عموميتها، لا لاستعادة ما ذهب، لكن "لأشهد أن ما أراه في الصورة كان حقاً موجوداً" بتعبير رولان بارت كما نقلته مرسال.

يبدأ الفصل بتوثيق ملامح أمها، عبر قصيدة نشرتها في ديوانها الأخير "حتى أتخلى عن فكرة البيوت"، وتعقيب عليها، ومنها إلى صور أمهات أخر، أمهات لهن حضورهن في ذاكرتها البصرية، وأخريات ثبت غيابهن، بقص أي أثرٍ لهن من ألبومات العائلة، لتعود ثانية وتتساءل عن أثر صورة أمها باعتبار الصورة "اعتداء على ما أتذكره وتزييفا له. إنها لا تستحضر أمي، بل تشحذ مقاومتي لتجاوز شبحيتها، لإنقاذ ما تخفيه الصورة" أي أنها على خلاف المقولة البارتية التي صدرت بها الفصل لا تعتبر أن "الموجود" في الصورة يعنيها، بقدر ما يعنيها ما ليس موجودا وحاضرا في ذاكرتها.

هي إذن في المفتتح تقدم لمجاز الأم المخفية في حياتها هي، قبل أن تسرد حول كتاب "الأم المخفية" للإيطالية ليندا فيريني، وهو الكتاب القائم على توثيق صور القرن التاسع عشر، حيث الأم تضع الطفل في حجرها وتغطي نفسها بغطاء ما، وجود الأم ضروري لتسكن حركة الطفل فيمكن التقاط الصورة. تقول مرسال "لقد ساعدني مجاز الأم المخفية أو المختبئة أو المطموسة أو المستبعدة بإرادتها على تفادي الأسئلة العامة رغم أهميتها" فالأم غير المرئية، هي الأم التي توافق التصور النمطي عن الأم بكل استدعاءاته: التضحية والحب غير المشروط والحنان وغيره. فضلاً عن أن صورتها لا يمكن أن تثير أي أسئلة، هي كيان عابر، لا يستوقف أحدا.

فيما هناك نوع آخر وهي الأم الأداة، تلك التي تخرج صورتها عن التمثل النمطي السابق ذكره، هي صورة تحفز متلقيها على التوقف والتفكير في خروجها على السياق، قد تكون "محملة بسرد أكبر منها"، هذا النوع أقل حضوراً في الذاكرة البصرية من الأم المخفية، ما يستدعي بحسب الكاتبة مساحة تأمل إضافي في سرديتها. إن كسر المتوقع حول الأم يمنح فرصة للتفكير، وهو ما جعلها تتوقف كثيرا عند هذا النوع منتقلة بين الأم الفلسطينية التي تحمي أرضها وأطفالها من المعتدي الإسرائيلي مروراً بصور كليمنتينا هاوردن ذات النزعة الإيروتيكية وصورة ديمي مور الحامل عارية ذائعة الصيت، إلى صورة آني ليبوفيتس "مصور ديمي مور" حاملا وعارية في الخمسين من عمرها. كل مرة/ صورة تستدعي سردية خاصة بها، سياقا أكبر اجتماعيا أو سياسيا أو فنيا، كلها محاولات لتصديع الفكرة الراسخة.

اليوميات: أو كيف يتطور المعنى

عشر سنوات بين نص اليوميات الأول والأخير في هذا الفصل، من 2006 وحتى 2016، بين أحداث واقعية وهذيانات أحلام، ومشاعر مختلطة وتفاعل مع اليومي، إيمان مرسال في يومياتها بكليتها لا كأم فقط. كأنها أرادت في هذا الفصل التأكيد على الفكرة التي طرحتها في الفصل الأول "عليّ أن ألدَ نفسي أيضاً، ولادة شخصيّة، تجذّر شروخ ذاتي السابقة أو تساعدها على الالتئام" ما بين مشكلات ابنيها مراد ويوسف، وأخبار آتية من أصدقاء وأقارب وأحداث شاركت فيها أو أتتها أخبارها. يقدم الفصل أماً تتأرجح بين حضورها "المخفي" والآخر "الأداتي".

غير أن اللافت في هذا الفصل تطور المعنى الأمومي الذي بدأ بملاحظة عملية، وانتهى بواحدة من الأحلام العنيفة والمخيفة.. فهل تتخلص الكاتبة من خوفها عبر كتابته، أو أنها تبحث عن ونيس ما في قارئها؟

كيف تمشي في طريق الحداد؟

لا تطرح إيمان مرسال سؤال الكيفية في هذا الفصل بغرض الإجابة عليه، بقدر ما هو رغبة في مشاركة فكرة الموت الحاضرة في معنى الأمومة، مصحوبة بمشاعر مختلطة؛ يقول ريجيس دوبريه أن نقوم بالتمثيل والتشخيص يعني أن نجعل الغائب حاضرا وماثلا أمامنا. الأمر لا يتعلق باستحضار وإنما باستبدال، كما لو أن دور الصورة يكمن في سد نقص ما أو التخفيف من حزن معين.. هذا الفصل يتبدى كمونولوج هادر من حول ثنائية الأمومة/الموت يفصله "حكاية؟" عن "عدودة قبل النوم" والعديد هو الحداء المصري الحزين، بكائيات مغناة، كأن "الحنان" الأمومي الذي تحاول طرحه هو تعبير عن هاجس يحوم حول هذه الثنائية.

في الخاتمة يستوقفنا قليلا أن مرسال لم تكتف بعنوان الكيفية وحده على الغلاف، بل أتبعته بـ"عن الأمومة وأشباحها"، هنا تحدد طبيعة "الالتئام" الذي تقصده تحديداً. تقول معاجم اللغة إن "التأم" تأتي بمعنى اجتمع، أي عودة الشيء إلى منبعه أو أصله، كأن العنوان ههنا مدخل إلى فهم طبيعة الكتابة، هو اجتماع جسد الجنين مع جسد أمه، الاجتماع المجازي، عبر المساءلات التي تطرحها. أخيراً لعل من الطرافة أن حجم الكتاب الصغير يغري "بحمله" في الجيب، كأنه امتداد للمجاز الأمومي.. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.