}
عروض

ميتافيزيق الثّعلب لعباس بيضون، توثيق لفلسفة السّبعين

ليندا نصار

21 فبراير 2017
في ديوانه "ميتافيزيق الثّعلب" الصّادر عن دار السّاقي 2017، يحملنا الشّاعر عبّاس بيضون نحو اللّاحدود، عبر قصائد تعبّر عن تساؤلات وجوديّة لما هو مختصّ بالغيب وبما وراء الوجود. إنّها فلسفة الرّجل السّبعينيّ، وتأمّلات الشّاعر الّذي يغلّف كلماته بالرموز، ويستثير فضوليّة البحث تاركًا أمر استنباطها بين السطور، من دون حسم نهائيّ في المعنى.

 
لا تخفى تقنيّات عبّاس الشّعريّة في هذه القصائد الّتي تعبّر عن قدسيّة الشّعر، وعلاقته بالإنسان والكون. أوليس الشّعر تشكيلًا فنّيًّا لما قبضت عليه عينا الشّاعر ونحتته ليخرج إلى القارئ، وربط هذا التشكيل بالمعرفة؟ يكتب عباس بيضون غير مفصح عن الحقائق والمعاني الوجوديّة التي تصطدم بمشكلات تتّصل بالحياة، وبما يصيب هذا العالم من سوء، مع الأخذ بعين الاعتبار العلاقة بين الذات والآخر.


يعبّر الشّاعر عن علاقته بالحياة ونظرته إلى الموت؛ فيبدو التّوتّر الدّاخليّ الّذي تولّده التّساؤلات حول الوجود، وكأنه دفق لا ينتهي. كما أنّه لا يكتفي بالعالم المحسوس، بل ينأى بنا ويأخذنا إلى العالم الماورائيّ، ويتّخذ دور شخص غريب عن موطنه، يحمل سقفًا معه أينما حلّ، وما هذا السقف غير القصيدة، البيت الذي يقيم فيه العالم. كلّ شيء يبدو غريبًا يخفي حقيقته إلا الشّعر الذي يحرّرنا من المعتاد، ويرتقي بنا نحو عالم آخر مختلف. هذا ما تسعى مخيّلة الشّاعر للقبض عليه بوساطة الصّور التي تستطيع وحدها توثيق معاني الكون على طريقتها.


يجعلنا هذا الغيب الذي هيمن على معظم صفحات الديوان نشعر وكأن الشاعر يطرح السؤال: ماذا بعد السّبعين؟ أترى عبّاس يدوّن يوميّات فاتته في غفلة من الزّمان على شكل مذكّرات يوثّق عبرها مراحل من حياته؟ 

 

الظّواهر الميتافيزيقيّة

يربط بيضون الشّعر بالقلب وبالصبغة الميتافيزيقية للعالم. وتكاد لا تخلو قصائد الديوان من الصور، وما تقوم عليها من علاقات جديدة بين مفردات الكون، والتي تعبّر عن القلق الميتافزيقيّ تجاه العالم: (الغيلان مرّت أيضًا من هناك/ واختفت في كرّاسات منضّدة/ ذلك سيزيد في الأزرار/ ويجعل لغة السّماء أشدّ إبهامًا). ها هنا يتضادّ الأرضيّ (الغيلان) مع السمائيّ (الفكر- الروح- المثل). ويقام هذا القلق الميتافزيقي في الديوان على وجهين من ثلاثة أبعاد: الوجه الأول (الإنسان والحياة والموت: الجسد)، والوجه الثاني (الإنسان والشّعر والغيب: الروحيّ). وما يربط بين عناصر الوجهين هو السؤال المرتبط بالمعرفة، معرفة ما وراء الظاهر، أليست وظيفة الشّعر إظهار المستترـ والكشف عنه انطلاقًا من منظور الشّاعر، وتحويله إلى كلام يفوق العاديّ حتى يستطيع تجاوز الواقع؟ تكاد عناصر الوجهين تتساوى في الديوان (الإنسان=الإنسان/الحياة=الشّعر/الموت=الغيب). لن يكون الشعر في هذا الديوان سوى الحياة التي تتحدّى الموت، محاولة فهم ما خلفه، لكنّها في تحدّيها تشعر بقلق تجاوزها له.


يعبّر هذا الشاعر الميتافيزيقي - على طريقته الخاصّة - عن الظّواهر الرّوحيّة والنّفسيّة انطلاقًا من خاصيّة الاستغراب تجاه ما يحيط به من أشياء، لكنّه ينظر إلى ما تلتقطه الصورة الشعريّة من العالم انطلاقًا من الذات المتألّمة الحزينة، أي من خلال حالة شعوريّة غير فرحة، فيغلب معجم الحزن والتّشاؤم على القصائد؛ الشيء الذي يذكّرنا بفلسفة شوبنهاور التّشاؤميّة، بل نراه يتّخذ موقفًا موقّتًا من الكون والإنسان ولا يطلق أحكامًا نهائيّة.


يبدو البحث عن المعاني المخفيّة في معظم صفحات الدّيوان؛ فالشّاعر يفكّك الحروف الأصليّة ليكشف عن الرّموز الكامنة في الكون، ويرى فيها نوعًا من السّحر، وكأنّه يعيد عمليّة الكتابة إلى السّحرة والمنجّمين؛ ثمّة عرّافة مخفيّة في الأمر وحدها ستفكّ غموض اللّغة، إنّها الحلقة المفقودة الّتي يبحث عنها كلّ شاعر ليكمل قصيدته وسط احتمالات تأويليّة كثيرة للكون.

بالعودة إلى القصيدة الأولى من الدّيوان وهي بعنوان "المكتبة"، يبدأها الشّاعر على شكل حزّورة، لكنّه يمنح القارئ مفاتيح توضيحيّة للولوج إلى المعنى، ثمّ يعود بنا إلى الكتب الدينيّة المبنيّة على الوحي. وكأنّه يذكّرنا بالوحي الّذي كانت تبثّه ربّة الشّعر في الشّعراء، وشيصبان الشّعر عند العرب القدامى. حتّى أنّك تكاد تظنّ نفسك في غابة من الرّموز كلّها توقّعات تدعونا للبحث معه، ومشاركته هذه العمليّة لتقصّي الحقائق.

وتتقاطع القصيدة الأولى من الدّيوان مع القصيدة الأخيرة منه والّتي هي بعنوان "خبر سيّئ". وكأنّ الأخيرة تعتبر استجابة للأولى وسط معجم مليء بالأسرار، ويقول الشاعر في هذا الإطار:

- المكتبة: كتب لم تفتح منذ سنين/ في الحقيقة لم يقرأها أحد/ حتّى الّذين نسخوها خافوا من أن يفعلوا/ قالوا إنّهم ينقلون أسرارًا لا تجوز معرفتها/ ولا طاقة على فهمها/ الّذين كتبوها خافوا منها/ ورموها على قارعة الطّريق/ توجّسوا من أن تخنقهم في نومهم، ثمّ ينتقل ليقول في القصيدة نفسها: لكنّ أحدًا لا يعلم كم تحاول الكتب فتح نفسها................يحدث أن نستيقظ /فنجد المجلّدات مقطوعة إلى نصفين/ أو نجدها كومًا من نشارة خشبيّة/ سحبوا خيطانها وفرموها/ بدون حنكة/ لن يبقى فيها أسرار أكثر من ورقة خريف/ لن يسقط مخطّط للعالم/ إنّها تفور بنمال ترسم دوائر كاملة حولها/ لقد فتحت نفسها.

- خبر سيّئ: موسيقى تحزّ قلبي/... لحن يلعب نفسه على أسنان منشار/ أو على أطراف مسامير/ صمت يجهش فجأة/ أو يتكسّر/ وتتألّف من شظاياه/ جملة طويلة/... هناك غابة من رمز/ تتكلّم في نومي/ لغة غير مستعملة/ بدون حاجة إلى قواميس/.... في جوفي كتاب/ يقرأ نفسه/ ويصل أنينه إلى روحي /كتاب يكتب نفسه/ وأسمع صريره/ في قلبي/ في قلبي أيضًا/ قدم ضاغطة/ قد لا تكون سوى خبر سيّئ/ لم يصل بعد.


تبدأ القصيدة الأولى بكلمة "كتب" بينما تبدأ القصيدة الأخيرة بكلمة موسيقى، وكأنّ هناك تعارضاً بين الكلمات المركّبة وما لا يقال إلا بوساطة الصوت الناجم عن النقر (البيانو) أو النفخ (الناي) أو الاحتكاك (الوتر). هل الكتب (الكلمات) ترتبط بالأرض- المادة (الخشب) والموسيقى بالروح؟ يأخذنا عباس في القصيدة نفسها إلى رحلة؛ فالكتب الّتي لم تفتح ستتحلّى بالجرأة وتفتح نفسها بنفسها، إنّها مليئة بالأسرار الّتي لا يكتشفها الإنسان إلّا إذا عاد إلى أعماقه، من دون الحاجة إلى قواميس؛ ففي القصيدة الأخيرة يبدو الكتاب في جوف الشّاعر، والحقيقة في قلب الإنسان ... وحدها أعماقنا هي من تدرك أسرار الكون.


تكمن جماليّة القصيدة عند عباس في هدم اللّغة ورمي القشور وتدعيمها بالعمق، وخير دليل على ذلك قصيدة "عينا الكاتب" الّتي توجّه سهمًا ينطلق من عيني الكاتب، سقوطًا نحو الورقة المتّصلة بالمتلّقيّ. وكأنّ الشّاعر يوثّق لحظة الكتابة ليكشف لنا عن لعبة المترادفات حتى تصلنا القصيدة بهيّة بحلّتها النّهائيّة وجماليّتها العالية. فيقول الشّاعر في قصيدة "عينا الكاتب": أقرأ في كتاب/ ... أريد أن أصل إلى الأعماق/ ولا أعرف إن كان المعنى حجرًا/ إن كان حقًّا سقط من عين الكاتب/....
أنتظر فقط أن يراني الكاتب/ أن أقابل عينيه اللّتين تمطران أشواكًا/ هناك سأجد قشورًا كثيرة سقطت منهما.

تتخفّى وراء القصيدة لعبة مترادفات الخوف من الموت؛ ويظهر هذا البعد في قصيدته "ماذا قال الثّلج"؛ حيث يتبدّى الخوف من الموت واضحًا. وفي مكان آخر يكتب متحدّثًا مع أمّه:
ستكون لي شيخوختك/ وسأقضيها مرعوبًا مثلك/ أتوقّع كل لحظة طائرًا مخيفًا/ على شبّاكي. ليس هذا الطائر سوى كناية عن الموت الذي يحل محلّ الضوء (الحياة) الذي يتسلّل من النافذة؛ فسؤال الموت هو ما يشكّل البعد الميتافزيقي الأهمّ الذي يمنح الديوان المعنى الأساسي. وفي قصيدته "إلى أمّي"، يعيش عباس هذا السؤال الذي رآه في وجه أمّه (الشيخوخة = الموت)، وفي مضيّ أشخاص ماتوا من أقربائه، حتى أنّ فكرة ما وراء الموت تسلّطت عليه؛ وجعلته  يرى استحالة اكتمال هذا الوجود من دون الموت، وكأنّ الشّاعر يتعلّم الوجود من خلال رؤية الموت من حوله. أيفكّر عبّاس في الموت ويكتب عنه ليتغلّب عليه؟ أو أنّه أصبح جزءًا من وجوده اليوميّ؟ إنّه ميتافيزيق ما وراء الطّبيعة، وهو الخيط الذي يشبك كلّ القصائد؛ إذ لا نكاد نجد قصيدة من دون غلبة معاني الموت عليها.

فلسفة السّبعين والشّعور بالأسف لانهيار الأحلام

تبدو لنا من خلال القصائد خبرة السّبعين المليئة بالحكمة، وعلى الرّغم من ذلك يعود الشّاعر طفلًا يحاكي أمّه، ويشعر بالحنين إلى زمانه. والأدلّة كثيرة على ذلك، ومنها ما ورد في قصيدته "عينا الكاتب": خبرة السّبعين من الشّعر/ "ملوك بيزنطيّة": شاعرًا بالأسف لشيخوختي/ ... حين يتراءى لنا/ أن نطرح شيخوختنا على سرير جديد. الفلسفة نفسها تتكرّر في قصيدة "من ثقب إلى ثقب": أيّتها السّبعون. 


ثمّة علاقة وطيدة بين الموروثات والأديان وصولًا إلى الشّعر الحديث. هنا نتذكّر التّطيّر عند العرب؛ فطائر عبّاس ينذره بالسّوء، ونربط ذلك بعنوان القصيدة الأخيرة من الدّيوان "خبر سيّئ"، والّتي ينهيها شاعرنا بعبارة "خبر سيئ لم يصل بعد". وكأنّه يعيش حالة ترقّب موت مؤجّل... وكيف لا ينتظر الإنسان هذا الموت وسط صور الدّمار والخراب الّتي تشكّل النّفق المظلم في البلاد العربيّة؟


تتشابه أحلام عباس بيضون بأحلام "بيرس"، فالمشترك في ما بينها هو ذلك الانهيار، فلا أحلام خالدة والمجد للأشياء العابرة.


يبقى من الحقّ أن نقول، إنّ هذا الدّيوان الّذي عبّر فيه الشّاعر عن فراغ الحياة لا يملأه إلّا الشّعر. وهو يعبّر عن أزمة إنسانيّة لا يرى لها مخرجًا، وكأنّه يعيش في نفق مظلم، ويعبّر عن هذه الحالة المأساويّة.

في النّهاية نصل إلى استنتاج ونقول مع بورخس:"ليس الشّعر والميتافيزيقا شيئين بل شيء واحد". فبعد أن عشنا مع الشّاعر سحر الكتابة، وشوق تفكيك الرّموز واكتشاف الغموض، تجدنا نتذوّق الشّعر الحقيقيّ ونشاركه، ليس قصائده فحسب، بل مذكّراته وعمره الماضي عبورًا نحو السّبعين.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.