}
قراءات

"ريح الشركي" التي لم تتوقف عن الهبوب

ساري موسى

2 يناير 2018

عبر أمكنة عديدة، يقود الهرب من الظلم والفرار من الملاحقة الشخصيات إليها، وفي زمن ماض تقاسم فيه القسوة على العباد كلا من الحاكم والطبيعة بمناخها وأمراضها، زمن نجد امتداداته اللاحقة وصولا إلى الحاضر في خاتمة الرواية كما في مقدمتها، من خلال إشارة الكاتب إلى أن الأحداث التاريخية للرواية التي تعود إلى فترة حكم السعديين للمغرب هي أحداث متخيلة، وأن لفظة "المخزن" التي يستخدمها الناس للدلالة إلى السلطة الحاكمة ما تزال معتمدة حتى الآن، يرسم لنا الروائي المغربي محسن الوكيلي في روايته المحكمة ومتسقة الأحداث "ريح الشركي" الصادرة عن دار "الساقي" واقع الناس المأساوي، حيث الموت صار راحة ومخلصا من حياة حتى المطر المنهمر فيها بعد انحباس يتسبب بالضرر ويخلف التدمير والموت الجديد، كما يساهم في كشف موت قديم، إذ تطفو فوق سيوله الجثث المنتفخة التي قضى أصحابها بالطاعون المنتشر أكثر من الطعام حتى صار وجبة يومية للناس.

في الرواية شخصيات كثيرة، من رجال ونساء، شباب وعجائز، فقراء وأغنياء، يجمع بينهم جميعهم تضررهم من ظلم الخليفة، حاكم فاس: جوارٍ، غلمان مخصيّون، رجال من قاع المجتمع وتجار أثرياء قتل الخليفة آباءهم أو سبى أمهاتهم وأخواتهم أو نهب ثرواتهم... كلهم يبتغون الانتقام من مذلّهم ويتوسلون في سبيل ذلك طرقا مختلفة.

أبرز هذه الشخصيات الأخوان بلانكو، أندلسيا الأصل، اللذان يختاران طريقين متناقضين للثورة على الخليفة: أحمد الذي يختار التحدي بعد أن فقد القدرة على تحمل المزيد من الذل، فيتمرد في الشارع ضد المخزن، قبل أن ينضم إلى جماعة من المتمردين الذين اتخذوا من "ربض الطاعون" مخبأ لهم، وهو المكان الذي يُحجَر فيه المصابون بالمرض، كما يُرسل إليه من يراد لهم الموت المُعذَب البطيء بدل الموت السهل السريع بإعدامهم. ومندوسا، الأخ الآخر الذي يختار المكر، فيبيع نفسه مثل آخرين كثيرين مختارا أن يصير غلاما جديدا للحاكم، فيقدم نفسه للإخصاء، لكنه يصل لاحقا إلى منصب قائد الجيش، ويخطط للوصول إلى الحكم عن طريق الانقلاب على السلطان الذي قدم من مراكش إلى فاس لتأديب ابنه الخليفة بعد أن كثرت شكاوى الناس من حكمه الجائر.

هناك أيضا أفراد عائلة المقري: الوالد حسن الذي يمضي إلى مراكش ليشكو للسلطان ابنه الخليفة الذي يهدده بمصادرة أمواله، والابنة زهرة التي رفضت أن تُخطب إلى الخليفة فجرّت على عائلتها غضبه، والابن حامد الذي يهرب بتوصية من أمه إلى جبال الأطلس التي ظلت بمأمن نسبي من الطاعون ومن رجال المخزن.

تتعدد خيوط السرد عبر الفصول المتناوبة متتبعة الشخصيات في دروب ترحالها التي يبلغ أحدها الأندلس المفقودة قبل وقت قريب. تنعقد علاقات مصلحية سريعة، وتنشأ قصص حب وليدة الظروف القاهرة التي يحتاج الإنسان فيها إلى من يستند عليه، وسط الخراب والتّيتّم. حسن المقري يترك عائلته وبلاده بعد خسارته لثروته، ويرافق شهد التي تعرف عليها في فندق بمراكش إلى مسقط رأس عائلة والدتها في قادش. ابنه حامد يجد نفسه منقادا إلى الارتباط بالشابة طامو المحاربة، ابنة شيخ إحدى القبائل في جبال الأطلس، التي تفوقه ورجال فاس شجاعة بأسا. وابنته زهرة تلتقي بأحمد بلانكو في "ربض الطاعون" حيث يتزوجان ويمنحان فرحا مؤقتا طال غيابه لجمع الأشقياء المرضى المنتظرين موتهم.

تسير أحداث الرواية في جزئها الأخير على إيقاع المعركة الموشكة على الاندلاع. تتسارع التحضيرات وتنعقد التحالفات التي لا تدوم، إذ يغدر القوي بالأضعف منه فور انتهاء أدوارهم. جيش السلطان يرابط خارج أسوار فاس، والخليفة الظالم متروك في قصره مع عدد قليل من جنده، وقد صار هذا مخصيا بدوره مثل غلمانه، في نوع من العدالة الحقّة، التي يقتل فيها القاتل في نهاية المطاف بالوسيلة التي قتل بها.  

تعود الشخصيات إلى بلدها فاس، التي تشكل بداية الأحداث ومنتهاها، بعد رحلة تشرد لم تدم أكثر من أيام معدودة، لكنها كانت حاسمة وزاخرة بالأحداث الكبرى، تغير خلالها مصير كل منها كما تغير مصير المدينة في الظاهر دون الجوهر، بعد خلوّها من أهلها ودمار بيوتها وتوزع جثث المتقاتلين في أزقتها وأحيائها.

بعد أن حُسمت المعركة لمصلحة السلطان، يتخلص هذا من حلفائه الذين ساعدوه في القتال ومن أولئك الذين ضمن حيادهم، الواحد تلو الآخر، مؤسسا بذلك لعهد جديد من الظلم بعد أن استبشر به الناس خيرا، لتستمر ريح الشركي الصحراوية، الحارة والمجدبة، في الهبوب على الأرض المدمرة وناسها الأكثر دمارا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.