}
عروض

صدى الاستشراق في الداخل والخارج: أعمال أسعد دوراكوفيتش نموذجاً

صدر مؤخرا في سراييفو (دار نشر توغرا 2017) كتاب ضخم بعنوان "كتابات نقدية عن أعمال أسعد دوراكوفيتش"، يشمل كل ما كُتب في البوسنة وخارجها عن الأعمال المتعددة للمستشرق البوسني المعروف أسعد دوراكوفيتش، وهو ما يندرج في مقاربة الاستقبال reception لأعماله العديدة التي تهم القراء في البوسنة والمعنيين بالاستشراق ومناهجه ونتاجه المعرفي خارج البوسنة. وفي حدود علمي فإن هذا الكتاب غير مسبوق ضمن الاستشراق البلقاني، حيث إن هذا الاستشراق يتناول أحيانا موضوعات خلافية ويثير نقاشات متنوعة، ولذلك فمن المهم التعرّف على صدى هذا النتاج المعرفي سواء ضمن الدائرة الواسعة من القراء أو ضمن الدائرة المتخصصة.

في هذا الكتاب الضخم (750 صفحة من الحجم الكبير)، لدينا أمران مفيدان للقرّاء العرب المعنيين. الأول، هو في التعرّف على النتاج الواسع لأسعد دوراكوفيتش الذي يعتبر الآن أشهر مستشرق خارج البوسنة (عضو مجمع اللغة العربية في القاهرة وعضو مجمع اللغة العربية بدمشق وعضو مجمع اللغة العربية الأردني)، بالإضافة إلى عضويته في أكاديمية العلوم في بلاده. وأما الأمر الثاني، فهو التعرّف على القضايا الخلافية داخل نتاج المستشرقين في يوغسلافيا السابقة أو البوسنة الحالية من خلال المقالات التي تناولت نتاج دوراكوفيتش خلال أربعين سنة تقريبا.

يمثل دوراكوفيتش الجيل المخضرم (ولد عام 1947) الذي شهد صعود وانهيار يوغسلافيا وما صاحب ذلك من حروب وتحولات بين شعوب يوغسلافيا السابقة، وهو ما رواه بالتفصيل في سيرته الذاتية التي صدرت بعنوان "سيرة روحية". فقد ولد في قرية بوسط البوسنة في عائلة متدينة والتحق بالمدرسة الثانوية الإسلامية "الغازي خسرو بك"، حيث تعلم العلوم اللغوية والدينية بالإضافة إلى العلوم الأخرى الموجودة في المنهاج اليوغسلافي. ولكن عند تخرّجه فوجئ بأن قسم الاستشراق في سراييفو لا يقبل طلبة من خريجي مدرسة "الغازي خسرو بك" باعتبارها "مدرسة دينية"، بينما كان قسم الاستشراق في بلغراد العاصمة يقبل هؤلاء. وهكذا رحل دوراكوفيتش إلى عالم غير مسلم يتقبّل المسلمين في الوقت الذي كانت فيه بلغراد تصبح "عاصمة عدم الانحياز" وتنفتح على العالم العربي ليزداد الاهتمام باللغة العربية وترجمة آدابها من المغرب إلى الكويت.

بعد تخرّجه من بلغراد انتقل دوراكوفيتش إلى عالم آخر، كوسوفو ذات الغالبية الألبانية، ليشارك هناك في تأسيس وتطوير أحدث قسم للاستشراق (1973). في سنواته الكوسوفية (1975-1990) انشغل دوراكوفيتش في تدريس الأدب العربي والتعريف به داخل المجال اليوغسلافي، حيث ترجم أولا مختارات من الشعر الكويتي المعاصر (1982)، ومختارات من الشعر السوري المعاصر (1983)، وأول مختارات شعرية لمحمود درويش بعنوان "قصائد مقاومة" (1984)، ومختارات لجبران خليل جبران نُشرت بعنوان "ثمرات النفس الفوّاحة" (1986)، لقيت رواجا في المجال اليوغسلافي وصولا إلى ترجمة رواية "البحث عن وليد مسعود" لجبرا إبراهيم جبرا (1988)، وغير ذلك. وبعد انتقاله إلى البوسنة بدأ مرحلة جديدة نشر فيها أهم دراساته عن الأدب العربي وترجماته المميزة، بدءا من "قصة زهرة" لحنان الشيخ (1998)، و"ألف ليلة وليلة" (1999)، وصولا إلى ذروة عطائه في الترجمة المتمثلة بـ"المعلقات" (2004)، والقرآن الكريم (2004)، وغيرها.

في غضون ذلك كان دوراكوفيتش قد غدا اسما معروفا لدى العرب بعد أن حصل على جائزة الشارقة/ اليونسكو لخدمة الثقافة العربية في 2003. وفي هذا السياق، فقد ساهم صدور ثلاثة كتب من مؤلفاته بالعربية في تعرّف القرّاء العرب عليه بشكل مباشر. ففي 1989 صدرت في دمشق الترجمة العربية لأطروحته للدكتوراه "نظرية الإبداع المهجرية - دراسة في أدب المهجر"، وصدر له في الكويت عام 2010 كتابه "علم الشرق" بترجمة عدنان حسن، بينما صدر في القاهرة عام 2011 كتابه "دراسات في أدب البوسنة والهرسك وفي الأدب العربي" بترجمة جمال الدين سيد محمد. وتجدر الإشارة إلى أن كتابه "علم الشرق" صدر لاحقا (2015)، بالإنكليزية عن دار النشر البريطانية المعروفة "روتلدج" Routledge.

أما في ما يتعلق بالقضايا الخلافية التي تظهر من خلال العروض والسجالات المنشورة في هذا الكتاب الضخم، فيمكن أن نبرز اثنتين منها لما لهما من أهمية بالنسبة للقارئ العربي. الأولى منها تتعلق بمفهوم الاستشراق والعلاقة مع الشرق. فمع موت تيتو في 1980 بدأت تظهر على السطح في يوغسلافيا خلافات وسجالات حول قضايا لم تكن تُثار في السابق، حيث بدأ التمايز في المواقف حولها في الأوساط السياسية ثم في الأوساط العلمية. وفي هذا الإطار بدأ التمايز يتضح بين "مدرسة بلغراد" و"مدرسة سراييفو" في النظرة إلى الشرق والاستشراق والإسلام، وبالتحديد في النظرة إلى المركزية الأوروبية والتعامل مع الآخر. ففي 1984 نشر دوراكوفيتش عرضا لكتاب الباحث فضل الرحمن "روح الإسلام" الذي صدرت ترجمته في يوغسلافيا آنذاك، حيث امتدح جهود المؤلف في تصحيح الأخطاء حول الرسول محمد (ص) التي أرساها الاستشراق الممثل للمركزية الأوروبية. وقد ردّ عليه بمقالة سجالية قوية المستشرق الصربي دراكو تاناسكوفيتش (ممثل جمهورية صربيا الآن في اليونسكو)، متهما دوراكوفيتش بأنه يسعى إلى استبدال "المركزية الأوروبية" بـ"مركزية شرقية" وحتى إلى اتهامه بأن انتقاده للمركزية الأوروبية إنما هو "ماركة مسجلة للأصولية الإسلامية التي ترفض قيام الاستشراق الغربي بسبر غور الوحي الإسلامي".

كانت هذه التهمة (الأصولية الإسلامية) قد استخدمت آنذاك (1982) لأول مرة ضد علي عزت بيغوفيتش لتبرير اعتقاله ومحاكمته، ولذلك فقد كان مؤشرا تصعيديا خطيرا أن يستخدم مستشرق صربي هذه التهمة ضد زميل بوسني كان يمكن أن يفصل من عمله لأجل ذلك.

ومن هنا فقد توسع النقاش حول هذه القضية بمشاركة مستشرقين آخرين (راده بوجوفيتش وحارث سيلاجيتش... إلخ)، لكي تخرج من الإطار الإيديولوجي/ السياسي إلى المستوى النظري/ الاستشراقي البحت. ولكن ما حدث كان له أثره العميق في ما بعد، حيث إن بعض المستشرقين الصرب لعبوا دورا مهمّا في تعبئة الرأي العام الصربي عشية الحرب على البوسنة في 1992 على اعتبار أن الأمر كان يتعلّق بإنقاذ صربيا/ يوغسلافيا من "الأصولية الإسلامية".

وأما القضية الأخرى التي تستحق التوقف عندها في المقالات المنشورة في هذا الكتاب، فهي الموقف من ترجمة القرآن الكريم، وبالتحديد بعد إصدار دوراكوفيتش لترجمته في 2004.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن المسلمين في البلقان خلال الحكم العثماني كانوا يتهيّبون من ترجمة القرآن الكريم على اعتبار أن ذلك لا يجوز، مع أن المذهب الحنفي الذين ينتمي إليه المسلمون في البلقان يعتبر أكثر مرونة في هذا المجال. ولذلك بعد الاحتلال النمساوي للبوسنة في 1878 صدرت أول ترجمة للقرآن الكريم في بلغراد من قبل صربي بوسني في 1895، ثم صدرت بعد اندماج البوسنة في يوغسلافيا ترجمتان للقرآن الكريم من قبل عالمين مسلمين في 1937، بينما صدرت في الذكرى المئوية لنهاية الحكم العثماني للبوسنة (1977)، أول وأفضل ترجمة للقرآن الكريم عن العربية مباشرة أنجزها بسيم كركوت وأصدرها معهد الاستشراق في سراييفو. وقد فتحت هذه الترجمة الباب لمزيد من الترجمات الجديدة، حيث صدرت في 1994 ترجمة مصطفى مليفو، ثم صدرت في 1995 ترجمة المتخصص في الدراسات الإسلامية أنس كاريتش التي استحقت المديح، إلى أن جاءت بعد عشر سنوات ترجمة دوراكوفيتش الجديدة التي كانت السابعة.

ومع أن صاحب الترجمة السادسة، كاريتش، الذي يُعتبر من المتخصّصين المعروفين في الدراسات الإسلامية في البوسنة وأوروبا، قد امتدح ترجمة دوراكوفيتش واعتبرها "الحدث الثقافي لعام 2004"، إلا أن بعض المقالات السجالية لزميله في الكلية ذاتها يوسف راميتش ذهبت في اتجاه آخر. وتجدر الإشارة هنا إلى أن دوراكوفيتش كانت له ملاحظة على الترجمات السابقة في أنها أعطت الأولوية للنص المقدس ولم تهتم كفاية بالترجمة الفنية إلى اللغة المتلقاة (البوسنية)، بينما أراد من ترجمته أن يوازي بين الأمرين وأن يجعل القارئ البوسني يتمتع بقراءة القرآن الكريم في لغته كما يتمتع بذلك القارئ العربي في لغته. ومع أن غالبية العروض التي نشرت حول هذه الترجمة امتدحتها لأجل ذلك، أي في كون القارئ البوسني أصبح يتمتع بقراءة القرآن الكريم بالبوسنية، إلا أن ملاحظات راميتش الشكلية أبرزت الفرق بين مصطلحين جديدين: الترجمة الفنية والترجمة التفسيرية للقرآن الكريم. وبالإضافة إلى ذلك، لا يخلو الأمر من الشخصنة أيضا ومن احتكار المرجعية العلمية. فخريج الأزهر راميتش يعمل في كلية الدراسات الإسلامية في سراييفو التي تتبع للمشيخة الإسلامية (التي تمثل المرجعية الدينية)، بينما يعمل دوراكوفيتش في قسم الدراسات الشرقية بجامعة سراييفو (التي تمثل المرجعية الأكاديمية).

وعلى كل حال بقي أن نشير إلى أن المقالات والسجالات الموجودة في هذا الكتاب نشرت في لغاتها الأصلية، وبالتالي لدينا 41 مقالة بالعربية تمثل حوالي خمس الكتاب وتشكل حصيلة مناسبة للتعرّف على ما ينتجه الاستشراق البوسني وعن استقباله في العالم العربي.

* أكاديمي كوسوفي/ سوري

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.