}
عروض

"ستيمر بوينت" لأحمد زين.. مدينةٌ بين مرآةٍ ونافذة

طارق إمام

8 نوفمبر 2017
في الحكاية الإطارية، تلد الحكاية الإطار محكياتٍ أصغر، تعمل كمرايا لها، فالحكاية المولَّدة هي "المقولة" أو "الاستخلاص" وقد اكتسى لحماً ودماً فصار خطاباً جمالياً مستقلاً على المستوى الحَدَثي لكنه متحد بالحكاية الإطار في بنيتها العميقة: مُجمل المقولات التي نهضت لتقاربها وتُقلِّبها على وجوهها. عبر هذه البنية ينشئ الروائي اليمني "أحمد زين" مقابلة مرآوية، تشكل بنية روايته "ستيمر بوينت" (دار التنوير)، ليقارب أفق "عدن" في سرديتها التاريخية واحتشادها الأنثروبولوجي على شرف استعادةٍ شعرية. أقول "شعرية" لأن "ستيمر بوينت" تبدأ رهانها من التجول بين زمنين بمنطق التبادل لا التعاقب، إنها رواية ذهاب وعودة يقدمهما الزمن السردي معاً في الحاضر الروائي، وكأن البنية الخطية المضطردة لا تلائم قراءة تتعدى سطح الحكاية الكنائي في التعاقب الكرونولوجي نحو عمقها الاستعاري في رسم مدينة "تتجاور" فيها الأزمنة بأكثر مما تتعاقب ليمحو بعضها الآخر أو ليحل أحدها محل سالفه. إنها بنية فنية تحاول محاكاة بنية "المدينة" نفسها حيث كل الأزمنة قادرة على الحضور في اللحظة ذاتها، وحيث "الحوارية" تتجاوز الشخوص نحو المكوِّنين الزمني والمكاني. نحن إذن، ومن اللحظة الأولى، أمام رواية تُشكِّلها العلاقات المكانية بين زمنين يتبادلان الحلول روائياً، ليكملا صورة "عدن" كمدينة فنية، كبطل حقيقي لهذا النص.


صوتا مدينةٍ تبحث عن فمها

هناك زمن إطاري، تمثله ليلة طويلة كالدهر، عشية تحرر عدن من الاحتلال الإنكليزي (28 نوفمبر/تشرين الثاني 1967)، زمن هو "حاضر" النص الروائي، هو "هنا والآن"، يتخلق عبره زمن سابق، يغطي حقبة الحرب العالمية الأولى ويزحف إلى أن يتاخم الزمن الإطاري. وبخلاف الزمن الأول، الذي تحتله بالكاد ذاتان (عجوز فرنسي وشاب يمني) متوحدتان في قصر يعكس الأبهة الكولونيالية لمدينة العالم، فإن الزمن الآخر (اللاحق دائماً سرديا رغم أنه سابق في التعاقب الخطي الطبيعي للسيرورة) يحتشد بخليط شخوص ليقدم حوارية لا تهدأ بين ذواتٍ معلنة تحت شمس عدن، شمس الفضيحة وهي تعرّي أشباح مدينة تغذي هويتها في كل لحظة عبر البحر الذي يرفض لها الثبات أو الجمود، ذوات لا تكاد تظهر داخل بيوتها، فالمدينة هي بيتها وتيهها معاً. زمنٌ ينهض به السارد عبر الضمير الثالث، لكن مفسحاً لبطله (الشاب اليمني) مونولوغه الداخلي بضمير المخاطب، يقابله زمن يلعب فيه الضمير الثالث دور "المراقب" لينقل العالم في مشهديته بحساسية عين كاميرا وبشمولية عين طائر. يلتقي الزمنان في نقطة، بالضبط مثلما تلتقي سفن العالم في نقطة هي "ستيمر بوينت" التي اختارها زين عنواناً لروايته كلها.

لكن الحكاية المولَّدة في نص "زين" ستظل تتقاطع مع الحكاية الإطارية، محتفظة في الوقت نفسه بالدور الجوهري للمحكية المولدة: قدرتها على تكثيف المقولة أو مجمل المقولات التي ينهض العمل الفني لمقاربتها. الحكاية الإطارية في "ستيمر بوينت" يغذيها مونولوغ داخلي طويل، ينهض بضمير المخاطب حيث السارد يوجه خطابه لنفسه وقد تحوَّل إلى منتج الخطاب ومتلقيه في الوقت ذاته. مسافة في ذات منشطرة إلى أنا وأنت، تقدم بدورها بعداً استعارياً للعلاقة الحاكمة للمحكية: خادم يمني وتاجر فرنسي، عبد وسيد، متحدان في الصيغة التي تجعل من كليهما جلاداً وضحية في اللحظة ذاتها. يواجه السارد نفسه بضمير المخاطب عوضاً عن المخاطَب الرئيسي، المتوحد في خريف النهاية. إنها، أيضاً، الذات "العدنية" وقد انقسمت على نفسها ليصبح الصوت الواحد صوتين: صوت الرافض لسيادة غريبة في وطن/ بيت ينتمي لجغرافيته، وصوت المتصالح مع هذه السيادة على شرف الاندماج في هوية مفتوحة تتجاوز النظرة التقليدية. الدالُّ "تحرُّر" نفسه يرد بمفهوميه: التحرر من المستعمر بطرده، والتحرر عبر المستعمر من تقاليد ثقافة معزولة غارقة في محليتها. والذاتان هما الشاب اليمني، مثلما الصوتان صوته، ومثلما هو، إجمالاً، ليس "أنا" فحسب، بل "أنا وأنت" معاً.

من المحكية/ المونولوغ تنبثق المحكية الديالوغية، والتي تنهض في مركزها على علاقة أخرى تربط "قاسم" بضابط بريطاني في عدن الحرب العالمية الثانية. بينما يقدم "الشاب" نفسه للثري الفرنسي، يقدم قاسم نفساً أخرى، فتاة، (تكاد تكون نفسه) للضابط البريطاني. حكايتان، تنعكس كل منهما على مرآة الآخرى، عبر اشتغالين سرديين. سرديتان متقاطعتان تمنحان هذه الرواية بنيتها المتوترة، عمداً، بين حكايتين، تاريخين، تسير بهما مدينة واحدة، وكأنهما ساقاها.


الأنا كآخر، الآخر كأنا

تنهض "المرآة" كعلامة مهيمنة في السردية الأولى، فيما تبسط "النافذة" هيمنتها على السردية الثانية، المرآة يطل عبرها الكائن على نفسه باعتباره آخر، وبالمقابل، تنفتح النافذة على جميع الآخرين باعتبارهم أنا. "تراه خلال المرآة"، هكذا يبسط السارد عبارةً مفتاحية تقرأ شعرياً شكل العلاقة: فهو يراه في المرآة كأنه هو. لماذا يراه السيد الفرنسي كأنه هو؟ لأن "سمير" يتشكل كوعي من تصالحه مع فكرة المستعمر، ممثلاً شريحة شائكة. "لوهلة خطر له أن المرآة لم تعد مجرد سطح يعكس تعابيرهما، أو يكشف عن محاولة أحدهما سرقة نظرة إلى الآخر.

تحولت شخصاً ثالثاً، قادراً على دفعهما إلى مناطق من الكلام، لم يتخيل هو نفسه أن يخوض فيها يوماً معه. كان هذا الشخص، الذي تقمصته المرآة". ذاتان بينهما مرآة، ولا شيء آخر سوى شبح امرأة "رسولة ستالين" تحل محل "سعاد"، بالضبط كما حل الاستعمار محل ابناء البلد، وكأن تصالح "سمير" مع الاستعمار هو إنكار لهزيمته في الحب مقابل تصالحٍ مع ألفة الاغتراب. في الحمام، حيث لا يراه سواه، يقيم "سمير" علاقته بمرآته أيضاً: "يخطف نظرة إلى وجهه في مرآة الحمام، لدى خروجه. لم يعجبه الوجه الذي رآه، وتفاداه قبل قليل عندما لاح له في مرآة البهو. ماذا يعني له كل ذلك؟ كل شيء فيه يسير إلى التلاشي. هو لا يريد ذلك، لا يرغبه على الإطلاق". كأن سمير هو سجين المرايا المحاصر بوجهه، وجهه الأصلي، كلما اقتنع أنه سكن قناعه للأبد. حتى صورة "السيد"، تظهر دائماً عبر المرآة، كأن الذات هي صورتها وحسب، هي انعكاسها: "يحدق فيه الشاب، لا يرى وجهه إنما عنقه، عريضاً يبدو في المرآة".

بالمقابل، تتأسس صورة الضابط البريطاني في مشهده الافتتاحي خلف نافذة: "هو الذي كان يقترب من الزجاج". ستظل الرواية تتهادى عبر هذا التقاطع، فكل سردية تقطع الأخرى في لحظة قبل أن تعود لاستكمال نفسها: واحدة سائلة دون أرقام "ما يلائم فلسفة النص المونولوغي"، والثانية مرقمة، أو لنقل مجزأة، مشلاة، إلى اثنين وعشرين مقطعاً. إنها أيضاً بنية متوترة، لا سلام فيها، وهي بنيةٌ يدل فيها "الشكل" ليصبح في ذاته أفقاً معبأً بالمعنى، كيف لا وهي رواية السؤال الشائك عن معنى الخيانة والتواطؤ، كما أنها رواية "تفكيك" لما تمثله مفردة "احتلال"، عبر اختبارها، بالأساس، في أكثر من وعي لذوات تنتمي لوطن محتل.

على اختلافهما، يشترك الشخصان (سمير وقاسم) في الخصيصة ذاتها: كونهما غير مرئيين. لا ينظر لهما سادتهما إلا عبر "وسيط"، فهما وظيفة أو دور وليس ذاتاً إنسانية مكتملة.

يمثل قاسم كل قسمات الشخصية التراجيدية بامتياز: إنه يقابل الحب في ذروة ممارسته للقوادة. اختبار مفاجئ لم يكن العدني الذي يحميه الإنكليز وبالمقابل يقدم لهم كل الخدمات الممكنة، لينتظره. أحب قاسم الفتاة نفسها التي قدمها للضابط كعاهرة، وبدأ، بالتوازي، يعاني مرضاً غامضاً، ألم في المعدة كلما تخيل الضابط يهم بفتاته. إنه، مجدداً، الرابط الشعري، اللا سببي، وهو يضع ألم الميتافيزيقي في موضعٍ رمزي من الحسي، كأن قاسم على وشك أن يتقيأ خيانته نفسها.

الرابط الشعري نفسه، هو ما يجمع فتاة قاسم بفتاة الشاب اليمني، هو ما يجعل "المرآة" في النهاية تعكس النافذة، والنافذة ترى نفسها في المرآة، وهو، في الأخير، ما يجعل من "ستيمر بوينت" نصاً يتوسّل بالتسجيل والتوثيق ليصبح في النهاية تخييلاً شعرياً يقارب مدينةً تغرق في بحرها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.