}
عروض

لماذا ليست الصحة "حق وكرامة" في بلداننا؟

سوسن جميل حسن

12 نوفمبر 2017
لأنني أتيت من مجال الطب والعناية الصحية، المجال الذي اشتغلت فيه لأكثر من خمسة وعشرين عامًا طبيبة في وزارة الصحة السورية، قبل أن أنتقل إلى الشأن الثقافي وأتفرغ للكتابة، فإن أي كتاب أو بحث يتناول الشأن الصحي والصحة المجتمعية يلفتني ويثير اهتمامي، فلقد كنت أطل على الواقع الصحي المتردي للمجتمع بشكل عام، وعلى الفساد المحكم الذي يتغلغل في كل زوايا الشأن العام، والقطاعات الحكومية ومنها القطاع الصحي، بالرغم مما كان يصرف على البرامج والخدمات الصحية التي تتسرب في أقنية سرية ولا يصل إلى المواطن إلا الجزء اليسير منها، عدا عن الصفقات التي كانت تنجز ملتفة على القانون أو ضاربة عرض الحائط بسلطته باعتباره بعض المتنفذين لا يطاولهم القانون، بل هم فوقه. وليست الحرية التي هبّ الشعب السوري ينادي مطالبًا بها سوى صرخة شعب أنهكته الآلام وانتهاك الكرامات، ومنها كرامته المهدورة عندما تصبح صحته تحت رحمة بازارات السمسرة والاتجار بها. وبالرغم من التحكم بالصحافة والرأي في بلد يحكمه نظام شمولي استبدادي، كانت هناك بعض المحاولات الجريئة لفضح العديد من الانتهاكات العامة في الصحف، دفع أثمانها من تحدثوا عنها، كما أن من ارتكبوها خرجوا غير مدانين وطمست جرائمهم.

الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلّا المرضى. كان هذا القول المأثور من دعائم التربية الوعظية التي رددناها صغارًا مثلما رددها أهالينا ومن بعدنا أولادنا وأحفادنا. ومثلها العديد من الأقوال والأمثال الشعبية التي تدور في فلك الصحة وقيمتها وأهمية الجسد المعافى ليخدم عقلاً معافى "العقل السليم في الجسم السليم". وليست الأمثال الشعبية والأقوال المأثورة، على الرغم من تصنيفها كمنتج ثقافي بشري ومما تحمل من منظومة قيمية وقدرة على توجيه سلوك أو استنباط مواقف أو استنهاض طاقة بشرية ما، ليست وحدها التي اهتمت بالصحة والمرض، بل الأدب أيضًا، فالاهتمام بالمرض والموت ما هو إلّا "صور من الاهتمام بالحياة"، كما يقول توماس مان.

ومن الأمثلة ما قال بشار بن برد:
إنِّي وإن كان جمع المال يعجبني
فليس يعدل عندي صحَّة الجسد
في المال زينٌ وفي الأولاد مكرمةٌ
والسُّقم ينسيك ذكر المال والولد

وليس أكثر من الأدب تناولاً لموضوع المرض، على وجه الخصوص جنس الرواية، إذ إن غالبية الروايات لا تكاد تخلو من بطل مريض أو شخصية مريضة، أو جائحة مرضية، أو فكرة المرض ومصارعة الموت، وليس هذا مستغربًا بما أن الرواية هي بناء واقع متخيل مواز للواقع الواقعي الذي يمور بضجيج المرض والصحة، بل إن الحياة بمجملها تقوم على هذه المزدوجة. تحضرني بعض العناوين، كالطاعون لألبير كامو، أو الزهايمر لغازي القصيبي، أو إيبولا 76 لأمير تاج السر.

والصحة باعتبارها الحالة الصحيحة والطبيعية للحياة، تبرز قيمتها باضطراد مع استفحال المرض وتغوّله، فإنها كانت الشغل الشاغل للبشرية منذ الحقب القديمة، تناوب في حمايتها وطرد شياطين أمراضها أشخاص مختلفون بحسب تطور المجتمع البشري، من الشعوذة والسحر اللذين ما زال لهما دور يأبى أن يغرُب إلى اليوم، حتى عصر الثورة العلمية وما تشهده العلوم من تقدم يكاد يكون مرعبًا في طموحاته الحالية، كما جاء في مقالة الكاتب حبيب سروري في ضفة ثالثة تحت عنوان "مشروع إبادة الموت".

مع تطور البشرية وتعقد حياتها وما تطلبه من تنظيم تلك الحياة وإدارتها نحا مفهوم الصحة إلى أن يصبح مفهومًا عامًا تعتبر الدول مسؤولة عنه، وتبلورت فكرة أن الصحة شأن عام مع انطلاق منظمة الصحة العالمية عام 1946، والتي قامت بوضع مفهوم اجتماعي للصحة ونشره، يقوم على اعتبارها حالة من اكتمال السلامة بدنيًا وعقليًا واجتماعيًا، وليست مجرد "انعدام المرض" مثلما كان شائعًا فيما مضى.

انطلاقًا من هذا المفهوم الذي أقرته المنظمة تم الاعتراف بالصحة كحق من حقوق الإنسان يجب التمتع به دون التمييز على أساس العرق أو الدين أو الجنس أو المعتقد السياسي أو الظرف الاجتماعي أو الاقتصادي.

منذ ذلك التاريخ إلى اليوم تتوالى المؤتمرات وتتشكل المنظمات أو تتوسع تلك القائمة وتعقد الاتفاقيات وتسن القوانين وتتسع دائرة التعليمات الناظمة التي تتعلق بالصحة العامة وصحة الفرد والمجتمع، وتُولى الرعاية الصحية الأولية مزيدًا من الاهتمام، وآخر التوصيات ما جاء في إعلان مؤتمر جاكرتا 1997 الذي أضاف متطلبات "السلم والمسكن والتعليم والأمن الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية والغذاء السليم والمياه النقية للشرب، والدخل وتمكين المرأة والاستخدام الدائم والعادل للموارد والعدالة الاجتماعية، واحترام حقوق الإنسان"، مشيرًا إلى أن الفقر هو أخطر ما يهدد الإنسان. ما أبعدنا عن هذه المعايير، حتى قبل ربيع بلداننا.

وعليه فإن الصحة "حق وكرامة" وهذا هو عنوان الكتاب الذي وضعه مؤخرًا النائب اللبناني السابق، طبيب الأمراض الهضمية في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت "إسماعيل سكرية" بنزاهة الباحث المعتمد على الوثائق التي شكلت سندًا لأبحاثه ومصداقية إضافية إلى مصداقية ضميره المهني الذي يفترض أن يتحلى به كل طبيب، زيادة على حسه الإنساني وشعوره بالمسؤولية الوطنية تجاه أبناء بلده، وتجاه الإنسانية بشكل عام.

الكتاب هو حصيلة جهد ونضال على مدى أكثر من عشرين عامًا، كان يقارع فيها الأنظمة السائدة المتحكمة في مفاصل الحياة، من سياسية واجتماعية وإدارية وقضائية ودينية وطائفية، تقوم على الفساد وتركز دعائمها عليه حتى لو كان الثمن حياة الآمنين، خاصة فقراء الوطن، من موقعه كنائب في البرلمان، وكطبيب في مشافي الجامعة الأميركية.

وزع الدكتور سكرية كتابه المؤلف من 383 صفحة من القطع المتوسط، الصادر عن دار الفارابي 2017 على ثلاثة أبواب، كل باب مكون من عدة فصول يعرض فيها تجربته التي أحياها من جديد تدوينها في هذا الكتاب، فتزداد مع كل صفحة "مشاهد المعذبين والمقهورين والمهدورة كرامتهم عند اعتلال صحتهم..."، ويتابع: "مشاهد وأحداث عايشتها خلال هذه السنوات العشرين والناجمة من انهزام الأخلاق والقيم ومبادئ الإنسانية، أما سلطان المال وفجوره المحتضن والمحصن بنظام سياسي، طائفي ـ مذهبي، حضاري المظهر متخلف المضمون والأداء، شعاره وفلسفته: الفساد ثم الفساد ثم الفساد ثم الفساد". فهل هناك أقسى وأقدر على الجرح في الصميم من واقع كهذا؟ بل من فرط ألمه من هول ما تكشف أمامه من ممارسات وارتكابات ترقى إلى مصاف الجريمة الكبرى فإنه اعتبر المستهدفين بإهدائهم كتابه "ضحايا أو شهداء الإرهاب المافياوي".

في محصلة الكتاب البحثي الميداني يتبين للقارئ أن بازارات الصحة العامة تساوم على حياة الناس وكراماتهم وتسومهم العذاب والألم، ألم الروح وألم الجسد، بسبب منظومة فساد يشارك فيها السياسيون والأحزاب والمواقع الحزبية والنقابات والجامعات والمنابر الثقافية والبرلمان والقضاء والتفتيش المركزي وديوان المحاسبة ومواقع القرار، من رئاسة حكومة إلى رئاسة برلمان إلى وزراء، حتى لم ينجُ النظام السوري وبعض رموزه من التورط في هذا الفساد. لكن، وبموضوعية تامة، لم ينسَ الكاتب الإشارة إلى بعض الالتماعات في مسيرة تلك التجربة النضالية، ولقد أنصف من كانوا إيجابيين واندفعوا إلى مساندة مشروعه، حتى لو اصطدمت غالبية تلك الاندفاعات والمواقف الفردية بجدران منظومة الفساد الأكثر عتوًا. كما يحسب له استهدافه شرائح اجتماعية يعتبر محو أميتها الصحية مطلبًا من جهة، وأخرى يحثها على المبادرة والمساهمة في هذا الميدان.

بعد العرض الموثق لكل زوايا الفساد الصحي والاتجار بالصحة العامة، وقف الكاتب وقفة الناقد ليعري تلك المنظومة ويضع الإصبع على أماكن الخلل، ابتداء من السياسة الصحية والاقتصادات الصحية، والجهات الناظمة لأركان النظام الصحي من المختبر المركزي إلى المكتب الوطني للدواء إلى المستشفيات والمراكز الصحية إلى الجهات القانونية والمحاسبة في مجال الخطأ الطبي الذي لا يقوم له اعتبار في بلداننا انطلاقًا من الاستخفاف بحياة الأفراد وصحتهم، بل انعدام ثقافة المواطنة أو دورها، فالقوانين ومؤسسات الرقابة إلخ..

وقبل أن يختتم الكتاب تحت عنوان رحلة في تاريخ الطب، وبعد أن عرض في الفصل الخامس عشر من الباب الأخير تجربته النيابية انطلاقًا من الدور المسؤول المنوط بالنائب أداؤه بأمانة، والذي يقول فيه: يؤسفني القول: إن مجلس النواب هو في غربة عن قضايا الصحة والسياسة الصحية الدوائية، بل هو جاهل في هذا المجال. يخصص الكاتب فصلاً تحت عنوان "طب النزاعات والحروب" ليطل على السنوات السبع الأخيرة التي تمر بها دول عديدة من منطقتنا العربية بعدما اندلعت الانتفاضات تحت ما سمي بالربيع العربي، والمآلات التي وصلت إليها هذه البلدان، من دون نسيان الحرب اللبنانية التي امتدت على مدى خمسة عشر عامًا، مستغلاً ما توفر لديه ولدى أرشيف المركز الطبي للجامعة الأميركية من قاعدة بيانات يمكن الاعتماد عليها في دراسة خصائص الطب في واقع الحروب والنزاعات، إذ تكرس هذا النوع من الطب كاختصاص بحد ذاته. يشير الكاتب إلى ورقة عمل قدم فيها دراسة عن واقع الطب والتعاطي بالشأن الصحي تحت ظل الحروب الدائرة، كواقع الأدوية المغشوشة في مناطق النزاع مع الإشارة إلى أن لهذه الأدوية سوقًا عالمية نشطة. أما في سورية "الجريحة" كما يصفها الكاتب، فتُضخ عبر الحدود المنفلتة الأدوية المغشوشة بمساعدة من السماسرة السوريين، وأهم هذه الأدوية "الكابتاغون"، حيث يقول الكاتب إن 90% منه كان يصدر إلى سورية خلال السنوات الثلاث الأولى للأزمة، وحاليًا معظمه يصدر إلى المملكة السعودية. أما في العراق فمنذ الاحتلال الأميركي 2003 حتى 2016 سجلت 140 ألف حالة سرطان بسبب اليورانيوم المخصب، ويشكل حجم الأدوية المغشوشة في العراق مليار دولار سنويًا، بتغطية من الفساد السياسي.

أما في مصر، فالسؤال المرعب: هل تستخدم الأدوية المغشوشة في أعمال إرهابية؟ لقد وزعت الجامعة العربية في القاهرة تقريرًا نشرته مجلة روز اليوسف عن قيام شركة علمية باستحضار أكياس مصل إلى إسرائيل حقنتها بفيروس التهاب الكبد الوبائي B وشحنتها إلى مصر وبعض الدول العربية.

هذا ملخص لجهد مبذول على مدى عشرين عامًا لطبيب ينتمي إلى الإنسانية قبل كل شيء، وإلى وطنه ثانيًا، جهد حتى لو لم يحقق الحلم الذي يصبو إليه، لكنه يضع حجر الأساس في لفت الوعي العام قبل كل شيء إلى قضية شخصية بقدر ما هي عامة، وهي حق من الحقوق الإنسانية التي تقرها المواثيق والمنظمات الدولية، وتغيب بشكل كامل عن وعي المواطن العربي مهدور الحقوق والكرامة، صحيح أن الحرية غاية عزيزة وسامية وإنما، كما يقول الكاتب النرويجي غوستاين غاردر، صاحب رواية عالم صوفي، "عندما تكون في السجن تكون لك أمنية واحدة: الحرية وعندما تمرض في السجن لا تفكر بالحرية وانما بالصحة. الصحة إذن تسبق الحرية".

وحتى لا نكون "لا أحد لأي أحد"، على رأي الأم تيريزا الغنية عن التعريف: التي نذرت نفسها للمرضى والمقهورين، فهذا "من أعظم الأمراض"، يجب الاهتمام في التوعية الصحية ومساعدة الناس على أن تعي حقوقها بدلاً من الركون وعدم مطالبة الناس بالحق في حماية صحتهم، وتركهم للقدرية أو الضعف والاستسلام للموروث الثقافي الذي تشجعه الأنظمة الاستبدادية السياسية والدينية والاجتماعية، والتي تعلم الفرد أنّ عليه أن يدعو لنفسه ويطلب من الله أن يعجل بشفائه بدلا من أن يجزع ويمل من لحظة المرض، فالمرض هو ابتلاء الله لعبده. وهذا الإجراء يمكن اعتباره وقائيًا حتى لا يستفحل الفساد أكثر ويأكل حقوق الناس قبل أن يدركوها، فالوقاية خير من العلاج.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.