}
عروض

" الأنثروبولوجيا" ومدارسها الأربع.. شعوب في المختبر الغربي

عمار فارس

19 أكتوبر 2017

قصد المشرفون على سلسلة مُحاضرات ألقيت في هالِه في ألمانيا، بمناسبة انطلاقة معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا الاجتماعيّة في حزيران/ يونيو 2002، "أخذ نظرة حديثة في تاريخ الأنثروبولوجيا"؛ لذا قاموا بدعوة أربعة متخصصين هم فريدرك بارث، أندريه غينغريتش، روبرت باركن، سيدل سيلفرمان، لإلقاء محاضرات حول تقاليد الأنثروبولوجيا في كل من: بريطانيا، ألمانيا، فرنسا، الولايات المتحدة. 

بعيدًا عن القصد المُعلن، ثمة ملاحظات لا بدَّ من الأخذ بها، تتعلق بمنهجيّة اختيار هذه التقاليد (الغربيّة بتحيّز واضح وجليّ)، وبالتالي استبعاد تقاليد أخرى (بقصدٍ أو بدون قصد) من قبل القائمين على اختيار موضوعات المُحاضرات، ونقصد هنا تقاليد ليست أقل أهميّة من التقاليد المُختارة مثل التقاليد في روسيا، وتقاليد أخرى تعتبر حديثة مقارنة بالنماذج المختارة مثل الصين والهند. 

وجرى تجميع هذه المحاضرات في كتاب نشر بواسطة جامعة شيكاغو عام 2005. وقدّم للكتاب من معهد ماكس بلانك، كريس هان. ويحتوي الكتاب على عشرين فصلًا، موزعةً على أربعة أقسام، وتُرجم العمل إلى العربيّة حديثًا (2017) تحت عنوان: "الأنثروبولوجيا: حقل علمي واحد وأربع مدارس"، وأنجز الترجمة أبو بكر أحمد باقادر وإيمان الوكيلي، وراجعه ساري حنفي، وصدر عن سلسلة تُرجمان/ المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات. 

لا يُخفي مقدم العمل (كريس هان) هذا التحيّز في الاختيار، ولا يُقدّم أيضًا مُبرّرًا لهذه الاستبعادات غير مقولة باتت تكرر منذ زمن وتتعلق بحقل الأنثروبولوجيا في أوروبا أنَّه "حقل أقلّ كوزموبوليتانيّة حتى الآن". لن يعود غريبًا النظر لهذه الاستبعادات بعد الانتهاء من قراءة العمل، خاصة حين نلاحظ على طول العمل تكرّر مفردات تتعلق باستبعادات داخل الاختيارات نفسها: "هيمنة أنجلوساكسونيّة" ومقارنات لا تخلو من استبعادات بين جهود أوروبا الغربيّة وأوروبا الوسطى أو الشرقيّة في حقل الأنثروبولوجيا.

نقطة الصفر 

يقدّم فريدرك بارث في الجزء الأوّل من العمل تقاليد الأنثروبولوجيا في بريطانيا، كما يُمكن وفي المجمل القول إنَّه ركّز على مسيرة تطوّر هذا الحقل من جانب المؤسسة الأكاديميّة (جامعتا كمبريدج وأكسفورد) بالإضافة إلى مدرسة لندن للاقتصاد مع هامشٍ صغير لما كان يحدث بعيدًا عن هذه المؤسسة يشمل جماعة الكويكر (Quaker) وتاريخ الجماعات والجمعيات التي أفرزت بحوثًا أو منشورات يُمكن عدّها ضمن هذا الحقل ببداياته؛ ونعني هنا جمعية حماية السكّان الأصليين في جنوب أفريقيا، والناشطين الرافضين لتجارة الرقّ. 

تحمل هذه المشاركة الطابع التأريخيّ أكثر من الطابع التحليليّ (على الأقلّ في الفصول الثلاثة الأولى)؛ إذ تستهدف مسيرة الأنثروبولوجيين والبعثات التي قاموا بها. ولعلّ أبرز ما يُحسب لبارث في مشاركته تحديد نقطة الصفر التي جرت عندها التحوّلات في مسيرة التقليد الأنثروبولوجي البريطانيّ؛ مثلًا: البداية الجادة لضمان نوعية البيانات الأنثروبولوجيّة والتي بدأت مع البعثة التي توجهت إلى مضائق توريس الواقعة بين غينيا الجديدة وأستراليا عام 1889 والتي قام بها ذو الخلفيّة في علم الحيوان ألفريد كورت هادون (1855-1940). 

في تلك الرحلة كتبت تقارير في ستة أجزاء، تغيّر فيها أسلوب البحث العلمي (الانتقال من معلومات الكتب إلى المعلومات من على الأرض) وبرز فيها على الساحة جيل جديد من الأنثروبولوجيين: ريفرز (1864-1922) الذي عمل على تطوير مفاهيمي للتنظيم الاجتماعي، وتشارلز سيليغمان (1873-1940). 

كانت هناك رحلات أخرى: الإسكيمو، السودان، جنوب الهند، غينيا الجديدة مرّة أخرى عام 1901، وأبحاث أخرى كانت تنشر لكن بعيدًا عن الدوائر البحثيّة البريطانية المُنكفئة على نفسها وذات الشعور بالتفوق الفكريّ في أكسفورد وكمبريدج، والتي كانت تنظر لهذه الأبحاث بازدراء، وبغطرسة. وبحسب رأي إدموند ليتش فإنَّ هذه النظرة أعاقت تطوير الأنثروبولوجيا البريطانيّة. 

يمكن اعتبارالفصل الرابع أهمَّ ما في مشاركة بارث؛ حيث يتتبع فيه تاريخ التحوّلات المفاهيميّة في حقل الأنثروبولوجيا البريطانيّة، لكن ومن داخل المؤسسة الأكاديميّة أيضًا، إذ يحددها بزمن اعتلاء رايموند فيرث كرسي الدراسات الأنثروبولوجيّة في مدرسة لندن للاقتصاد (1944) وإدوارد إيفانز بريتشارد كرسي الأنثروبولوجيا في أكسفورد (1946) وماكس غلوكمان رئاسة قسم جديد في مانشستر (1949) وماير فورتس كرسي الأنثروبولوجيا في كمبريدج (1950).

لم يؤثر هذا الجيل (جلّهم من مواليد ما بعد 1900) في شكل الدراسات الأنثروبولوجيّة في بريطانيا من خلال أعمالهم وحسب، إنما امتد التأثير أيضًا بالسيطرة التي كانت لهم على مجلس البحوث الاستعمارية للعلوم الاجتماعية الذي أرسل مجاميع من الطلبة في بعثات ميدانيّة خارج بريطانيا. على المستوى المعرفيّ كان كتاب إيفانز بريتشارد: "النوير: وصف لنماذج من حياة ومن المؤسسات السياسية لشعب نيلي" يُعرّف شكل البحث الأنثروبولوجي في بريطانيا. وكان أكثر كتاب مؤثر في الأنثروبولوجيا وقتها؛ بالنسبة لطلبة أكسفورد في المقام الأوّل وللباحثين في حقل الإثنوغرافيا ثانيًا.

بعد عرضه مجمل إنجازات فترة (1945- 1970) يقدم بارث تقييمه: خطاب أنثروبولوجي قويّ ومُتماسك وإنجازات نظرية مُشتركة، غير أنَّه وفي نفس الوقت أخّر بحوثًا نقديّة وقلّص إمكانيات البحث الفرديّ. وتُختتم مشاركته بعرض الفترة الزمنية (التي كان هو أحد من عاصرها وأنتج بحوثه من خلالها) أي بين 1970-2000، والتي بدأ فيها التحوّل الأساس في المناخ النظري للأنثروبولوجيا البريطانيّة كنتيجة لبحوث إدموند ليتش في بِنى القرابة. تجدر الإشارة هنا إلى أن اسم الفرنسي كلود ليفي شتروس كان حاضرًا كمؤثر في حقل الأنثربولوجيا البريطانيّة في العصر الذهبيّ والعصر الذي قبله على الأقلّ. وشتروس قدّم أطروحته في الدكتوراه في "البنى الأولية للقرابة". وسيخلص الكاتب في نهاية استعراض هذه المرحلة إلى أنَّ تأثيرات شتروس تلخصت في إحلال بنيوية حديثة جديدة بشكل قوي. 

تأثيرات مالينوفسكي

جرى التحوّل "العظيم" في البرادايم النظري في التقليد البريطانيّ عام 1922، بالتحديد بعد نشر كتاب برونسلاف مالينوفسكي: "أرغونوتس غرب المحيط الهادئ"، وكتاب رادكليف براون: "سكّان جزر الأندمان". ليس ذلك وحسب، إنمّا شكل الكتابان - بحسب الكاتب- أفكار طلّاب الجيل التالي من الأنثروبولوجيين ووضعا الفرضيات القادرة على البقاء لقيام الأنثروبولوجيا الاجتماعية البريطانيّة.

قام مالينوفسكي - بما جمعه من جزر تروبرياند- بإعداد سلسلة من البحوث المؤسّسِة وعلى مدار ثلاثة عشر عامًا، غير أنَّه سيُواجه بأنَّ بعض ما أنجزه لم يُعطِ أهميّة مركزيّة. في حين دفع رادكليف براون بتحليلاته إلى مستوى عالٍ من التجريد. وبالمحصّلة استطاع الاثنان من خلال ما نشراه في كتابيهما ومقالات كثيرة لبراون "أن يؤسسا للافتراضات التي قامت عليها بحوث الجيل التالي من الأنثروبولوجيين الاجتماعيين البريطانيين". 

منطقة التوتر بين

فكريّ كانط وهيردِر

إذا كان ظهور الأنثروبولوجيا البريطانية يرتبط مع النزعة الاستعماريّة فإنَّ الأنثروبولوجيا الألمانيّة بدأت من داخل الدراسات (الفيللوجيّة) للغات: العربية والفارسيّة والسنسكريتيّة، وفيما بعد ستضع هذه الدراسات الفيللوجية معايير الأنثروبولوجيّا الدولية.

بهذا الاختصار يُمكن النظر لمشاركة أندريه غينغريتش للتقليد الأنثروبولوجي في ألمانيا أو البُلدان الناطقة بالألمانيّة.

يستعرض هذا القسم كيف تطوّرت مصطلحات الإثنوغرافيا والأثنولوجيا، وأبرز ما يُميز هذا القسم من الكتاب المقدرة على تحليله لتطور الأنثروبولوجيا الألمانيّة داخل ألمانيا (الأوضاع السياسية التي حالت دون قيام مشروع أنثروبولوجي على غرار النموذج الفرنسيّ)، وكيف منحت أعمال يوهان هيردِر الإلهام للنزعة القومية في ألمانيا، من خلال تفسيرات أيديولوجيين وأنثروبولوجيين متأخرين لما كان يُعرف "بشعب الطبيعة" والعرق المُتميّز.   

ثمة بُعدٌ سوسيوثقافيّ في عصر الأنوار التي كانت فرنسا تحتّل فيه المركز الأوّل مقابل تقليد رومانسي حصري تقريبًا لمفهوم الثقافة في البُلدان الناطقة بالألمانيّة. تلك هي المقاربة الأكثر انتشارًا في أوروبا، غير أنَّ أندريه غينغريتش يضع بعض السقطات على هذه المقارنة تتمثل في مجملها في "التحيّز لناحية التفوق الفكري لأوروبا الغربيّة في علاقتها بأوروبا الوسطى والشرقيّة".

نعم، كان هناك عصر أنوار ألماني في القرن الثامن عشر في ألمانيا (وإن كان غير مُكتمل) وكان واحدًا من المُختبرات الفكرية لتشكّل الأنثروبولوجيا الدوليّة ونموها. أما تفاصيل ذلك، فإنَّه يظهر بتفسيرات غينغريتش من خلال إجراء مقاربة بين (أنوار فرنسا) و(أنوار الدول الناطقة بالألمانيّة) يستعرض فيها ما يُسميه منطقة توتر فكري بين إيمانويل كانط ويوهان هيردِر باعتبارها (منطقة التوتر) المختبر الأوّل لتشكّل مرحلة ما قبل الأنثروبولوجيا الحديثة. أبعد من ذلك يرى أنَّ التأمل في تشكّل الأنثروبولوجيا في الحقبة الحديثة سيكون مستحيلًا دون النظر في الفكر الألماني في تلك الفترة باعتباره المصدر الأساس.

وينتقل بعدها إلى إبراز آثار المستكشفين الألمان (الأب يوهان راينهولد فورستر) والابن (غيورغ فورستر) على أنها مساهمة إمبريقيّة متميزة للبلدان الناطقة بالألمانية لمصلحة فن كتابة تقارير الرحلات لأنثروبولوجيا عصر الأنوار. يتحدث هنا غينغريتش عن الكتاب الذي جمع هذه التقارير تحت عنوان "رحلة حول العالم" ولا ينسى هنا أنثروبولوجيين معاصرين أو سابقين على الأب والابن، ولعلّ أبرزهم جيستن ستاغل، بيتر كولب، تادو هنكه، بالإضافة إلى استعراضه للدراسات الفيللوجية للغات غير الأوروبيّة (التي ارتبطت بنزعة لسانية قائمة على نقاء اللغة الألمانية) لكن كان كلّ ذلك قبل ظهور الأنثروبولوجيا المُرتبطة بالطابع الاستعماري.

ينتقل غينغريتش في محاضرته الثانية إلى الفترة بين أربعينيات القرن التاسع عشر إلى نهايات القرن العشرين، في محاولة لشرح دور مؤسسات الدراسات الفولكلوريّة (التي بدأت مع تشكّل ألمانيا الإمبراطوريّة وليس ما وراء البحار إنما في فيينا وبراغ وبودابست) ونظرتي ماركس وأنغلز (سقطات كتاب أنغلز المعنون بأصول الأسرة) في ألمانيا، ومرحلة تأسيس الأنثروبولوجيا الأكاديمية المُرتبطة باسم أدولف باستيان. 

أنثروبولوجيو الرايخ الثالث

انقسمت علاقة العاملين في الحقل الأنثروبولوجي الألماني مع النازيّة إلى ثلاثة أقسام؛ التعاون، الاضطهاد، التنافس، وينسحب الأمر على مختلف الحقول الأكاديمية الأخرى. لكن ليس ذاك ما يُناقشه هذا القسم، إنما الطريقة التي اندمجت بها الأنثروبولوجيا في الرايخ الثالث (منذ ألهمَ هتلر بمفاهيم فقر الإنسانيّة الذهني، والعرِق، والفضاء الحيّ). وفي الجانب الأكاديميّ يروي المحاضر الاندماج الإنسيابيّ لكتلة الأكاديميين الأنثروبولوجيين داخل الرايخ الثالث، وسينهي هذا القسم بعرض العناصر الأساسيّة لتطورات ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى عام 1989.

فرنسا: تقليد مُغاير

يقوم هذا القسم على الدفع بفكرة تقول بمغايرة التقليد الأنثروبولوجي الفرنسيّ عن تقاليد بريطانيا وألمانيا والولايات المتحدّة، بسبب وجود تقسيم للعمل بين من أنتج النظريات والمنهجيات ومن كان يجمع البيانات الإثنوغرافيّة في الميدان. ويضيف المشارك في هذا القسم من العمل روبرت باركن مستدركًا أنَّ ذلك لا يعني أنَّ علماء الأنثروبولوجيا الفرنسيّة لم يُدركوا النظرية أو لم يساهموا فيها. غير أنهم لم يطوروا تراثًا كالتراث البريطانيّ الذي طوّره برونسلاف مالينوفسكي.

كانت الدراسات الميدانيّة تنبني على جهود مارسيل موس ومارسيل غريول، وقدَّم الأول دراسة الشعوب غير الأوروبيّة خاصة دراسته عن طقوس الزواج في المغرب التي أقامها بناء على رحلة 1909. وكان يُدرس النظرية الإثنوغرافيّة في ضوء النظرية الدوركهايميّة (إميل دوركهايم 1858-1917) في حين تأخر العمل الميداني الدقيق (لما بعد الحرب العالمية الثانية). أبرز ما تناوله باركن هنا تحليله لارتباط المدرسة النظرية المهيمنة في فرنسا بدوركهايم والتي ظلت تقترب من علم الاجتماع الأوروبي، في حين ظلَّ مصطلح أنثروبولوجيا ذا سمعة سيئة بسبب استحضاره ذكريات المدرسة البريطانيّة في القرن التاسع عشر (كان هناك شعور بتفوّق الإنكليز على الفرنسيين أو الدوركهايميين).

وكان هواةُ الإثنوغرافيا من إداريين، ضباط جيش، ومبشرين، يقدمون كل ما هو هامشيّ، بالإضافة إلى رحلات شتروس إلى الأمازون، غريول عبر أفريقيا من جيبوتي إلى دكار. ويصفها بأنَّها لم تكن في عشرينات وتسعينيات القرن الماضي بحوثًا ميدانية طويلة المدى. ويعرض المُحاضر هنا أبرز مشكلات هذا الحقل في فرنسا: كمشكلة التصنيف، وهل يُمكن اعتبار دوركهايم عالم اجتماع أم فيلسوفًا؟ ليفي شتروس عالم أنثروبولوجيا أم فيلسوفا؟

يعرض المحاضر تأثيرات دوركهايم على هذا الحقل كأحد من ظلَّ يُسيطر ويُمارس تأثيرات على حقل الأنثروبولوجيا، وجهود أنولد فان غينيب (1873-1957) كأنثروبولوجي أوّل من قدَّم "دليل الإثنوغرافيا الفرنسية المعاصرة" وسيشكل أفضل من نقد دوركهايم (هو الذي قال بجمود وضعف نصوص دوركهايم للطوطمية) وما منحه ذلك رحلاته الميدانيّة. بعدها يستعرض تحولات الأنثروبولوجيا عند موس، هيرتز، القريبين من النهج الدوركهايمي وآخرين بعيدين عن دوركهايم: موريس لينهارت (1878-1954)، لوسيان ليفي برل (1857-1939) وتأثيرات مارسيل موس على شتروس ولوي ديمون.

لا ينسى المُحاضر تتبع مسيرة تدريس الأنثروبولوجيا في فرنسا (الجانب الأكاديميّ) في جامعات: ليل، ليون، إكس إن بروفانس، تولوز، المدرسة العُليا للعلوم الاجتماعيّة (EHESS)، المدرسة العلمية للدراسات العُليا ((EPHE. ثم بعد ذلك يعرض تأثيرات فرويد، لاكان الذي كانت له تأثيرات على الأنثروبولوجيا الفرنسية، وبعدهما جيل ديلوز وغاتاري.  

أميركا: التقليد الأقصر عمرًا

من بين التقاليد الأنثروبولوجيّة الأربعة التي تناولها العمل، سيكون التقليد في الولايات المتحدّة هو الأقصر من حيث المدة الزمنيّة، وبرغم ذلك يعترف سيدل سيلفرمان، ومنذ البداية، أن مهمّته شاقة، مقارنة مع زملائه، بسبب "الحجم الهائل للميدان" (هناك عشرون ألف شخص يُمارسون الأنثروبولوجيا ليُصبحوا أنثروبولوجيين في الولايات المتحدة الأميركيّة).

على الجهتين، الجانب الأكاديميّ وغير الأكاديميّ يستعرض سيلفرمان تطور التقليد الأنثروبولوجي في الولايات المتحدة من نهايات القرن التاسع عشر والذي حمل معه تأسيس الجمعية الأنثروبولوجية في واشنطن، ومجلّة الأنثروبولوجي الأميركي، وجمعية الأنثروبولوجيا الأميركية AAA، ثم تحوّل ما بعد الحرب العالمية الثانية وتحديدًا عام 1946 يوم وصل جوليان ستيوارد إلى جامعة كولومبيا وتأسيس السوسيولوجي تالكوت بارسونز في جامعة هارفرد قسمًا متعدد التخصصات في العلاقات الاجتماعية. في منتصف السبعينيات صار هناك 75 قسمًا يمنح الدكتوراه في الأنثروبولوجيا الأمر الذي عمل على "تشويش احترام النظام إلى حدّ ما بسبب هذا النمو في التصنيف العالمي لسمعة الأقسام".

على الجانب الآخر (غير الأكاديميّ) يتتبع سيلفرمان بدايات الأنثروبولوجيا الأميركيّة منذ رحلة فرانز بواز الأولى عام 1883 إلى جزيرة بافين في منطقة الإسكيمو لإجراء دراسة جغرافية ولينتهي به الأمر إلى عالم في الأعراق البشرية (الذي حمل مبدأ النشوئيّة التطوريّة لحقل الأنثروبولوجيا) بعد ذلك. ثم جهود كروبر (رجل الأنثروبولوجيا الأميركية العجوز بعد رحيل بواز والذي نقل الجانب التاريخي لنموذج بواز) حيث كانت نقاشات الهواة والأدباء والسياسيين منذ أوائل القرن التاسع عشر حول قضايا الأصول المكانية والثقافية للهنود الحمر.

كانت الاختلافات العرقيّة، وسياسات العبودية، والجماعات الجديدة المهاجرة ومكانتها في المجتمع تدفع النقاشات في الولايات المتحدّة لدرجة أنَّ جهود أحد من انخرط في هذه النقاشات لويس هنري مورغان أثارت انتباه ماركس وأنغلز من خلال كتابه: "المجتمع القديم" وهو دراسة نظم القرابة.

لا يغفل أيضًا كيف انخرط بعض علماء الاجتماع وأنثروبولوجيون أميركيون في دعم مؤسسة الجيش في حروب فيتنام ومواجهة التمرد في أميركا اللاتينية. هنا أيضًا ينبّه سيلفرمان إلى أن تحليلات أنثروبولوجيّة انتشرت في ثلاثينيات القرن العشرين تتعلق بدراسة تصرفات مجموعات محددة وكان الهدف منها سياسيّ في المقام الأوَّل وكان أهمّها دراسة بِنديكت عن اليابان: "زهرة الأقحوان والسيف" وكان لليابان نصيب كبير من هذه الدراسات الأنثروبولوجيّة. 

موسوعة

أخيرًا، هذه موسوعة لمن يُريد قراءة تاريخ التقاليد الأنثروبولوجيّة في بريطانيا والدول الناطقة بالألمانية وفرنسا والولايات المتحدة. وإذا ما أخذنا بالتفاوت بين هذه المشاركات أمكننا القول أيضًا إن مشاركة روبرت باركن حول التقاليد الأنثروبولوجيّة الفرنسية ومشاركة أندريه غينغريتش عن التقاليد في الدول الناطقة بالألمانية كانتا أكثر إلمامًا بسبب تتبع تاريخ المفاهيم والأفكار والجذور للدراسات الأنثروبولوجيّة إلى جانب تاريخ هذه التقاليد. 

 

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.