}
قراءات

"حملات كسروان" لجمال باروت: تفكيك مراجع البنية الطائفية المستعادة

حسام أبو حامد

7 أكتوبر 2017

لا تهتم الإيستوريوغرافيا بدراسة الوقائع التاريخية، بل بالخطابات بشأن هذه الوقائع. وفي العقود الأخيرة توسع مفهومها ليشمل البعد الإبيستيمولوجي المرتبط أساسا بممارسات المؤرخين، إضافة إلى الاهتمام بخطابهم، فتعمل الإيستوريوغرافيا على تحديد المؤرخين في أزمنتهم، وفي الأماكن التي تشكلهم، وحيث يعيشون، أي في قلب ممارسة مهنتهم. لقد بات "تاريخ التأريخ"، كما يعنون وجيه كوثراني أحد كتبه، من بعض أهم مجالات الإيستوريوغرافيا من اتجاهات ومدارس ومناهج كتابة التاريخ.

في كتابه "حملات كسروان في التاريخ السياسي لفتاوى ابن تيمية"* يطرح محمد جمال باروت المسألة الإيستوريوغرافية المتعلقة بطريقة "تدوين" التاريخ اللبناني، والتاريخ اللبناني للمسألة الكسروانية في تاريخ لبنان، بوصفها حجر زاوية في بناء التاريخ اللبناني الطائفي المعاصر والحديث، ومن ثم تصور الدولة اللبنانية كما تثبتها تواريخ الطوائف المختلفة، التي  دار الصراع بينها حول الاستملاك الطائفي لكسروان، بما يخدم مشروع الدولة اللبنانية على أساس طائفي.

إشكالية مركزية

يتناول باروت إشكالية في مستويين، الأول: تحليل تأثيرات الرؤية التاريخية السردية المتمركزة طائفيا، ودراستها على طريقة تخطيب حملات كسروان، أو بنائها، في الكتابات التاريخية اللبنانية المعاصرة، كما أنتجها اللبنانيون في تواريخ مارونية وشيعية ودرزية وسنية، كل حسب العقدة الأساس عنده. والثاني: دراسة ما كتبته الإيستوريوغرافيون اللبنانيون أنفسهم عن تلك التواريخ الطائفية لكسروان، وهو نوع من خطاب على خطاب، يجعل الإيستوريوغرافيا اللبنانية الحديثة، التي درست خطاب المؤرخين اللبنانيين، موضوعا للبحث، على نحو يقترب فيه مما يمكن تسميته "ميتا إيستوريوغرافيا" في إطار مفهوم "الميتا خطاب".

المصادر المارونية

يلاحظ باروت على المصادر اللبنانية المارونية، بشأن تاريخ كسروان، انقطاعها شبه التام عن المدونات التاريخية الكلاسيكية، وشبه الكلاسيكية، التي أُنتجت بين أواخر القرن الثالث عشر، والقرن الرابع عشر، وهي المدونات التي تتراكم فيها المعلومات الأساسية عن تاريخ الحملات المملوكية على كسروان ومجرياتها، كما تجاهلت تلك المصادر المارونية المدونات شبه التاريخية التي تعد مصدرا مساعدا مهما في فهم حوادث التاريخ، وفهم حملة كسروان الثالثة تحديدا. وقد تراوحت المدونات التاريخية الكلاسيكية الإسلامية في رؤيتها للكسروانيين بين من يعدهم نصيرية، ومن يراهم دروزا، لكنها لم تشر إلى وجود مسيحي في كسروان زمن الحملات. 

ضد المارونية: يقظة الذوات الطائفية اللبنانية

من منظور إيستوريوغرافي، وميتا اريوستوغرافي، يتناول باروت رسالة ابن تيمية إلى السلطان المملوكي الناصر بن قلاوون، بعد قليل من نهاية الحملة الثالثة 1305م، التي تعرّف إليها المؤرخون اللبنانيون تحت شروط اندلاع الحرب الأهلية الطائفية اللبنانية، واندلاع الذوات الطائفية الشيعية الدرزية والسنية في الصراع مع الرواية المارونية لتاريخ كسروان في حقل الكتابة التاريخية، بوصفه حقلا للصراع السياسي الذي تستثيره الهيمنة المارونية على الدولة اللبنانية، وأجهزتها، في شكل صراع على هوية لبنان المعاصر.

أنهض ذلك دراسات تاريخية جديدة متركزة شيعيا ودرزيا وسنيا،  ففي مقالته "الموارنة وعلاقتهم بالمسلمين في تاريخ لبنان الإسلامي" في مجلة الفكر الإسلامي عام 1978 (تصدر عن دار الفتوى ببيروت)، ينشر عبد السلام تدمري نص رسالة ابن تيمية كاملا، ليعاود نشرها العام 1981 ضمن كتابه "تاريخ طرابلس السني الحضاري عبر العصور".

 في تاريخ 1978 يرتدي تدمري، حسب وصف باروت، لباس الميدان أكثر من كونه واضع عدسة المؤرخ، فيكتب نوعا من "مانيفست" لـ"لبنان الذي يريده المسلمون" خارج سيطرة الموارنة. وتتمثل نقطة الضعف البنيوية من زاوية النقد الإيستوريوغرافي السردي المعرفي هنا لتاريخ تدمري في التجميع السطحي الانتقائي، والانتحائي، وفق "القصد" أو الميل" القائم في ذات المؤرخ بتأثير عوامل الاستقطاب الطائفي، أو إعادة إنتاجها تخييليا في مدونة تاريخية وكأنه ميل طبيعي، ويبرز لديه الموقف المملوكي بوصفه الموقف السني ضد تحالف الموارنة مع الدروز والروافض، لتنقاد كتابة التاريخ الكسرواني زمن الحملات في ضوء ديناميات التمثيل تلك، بما تنطوي عليه من تخيل، مغطاة، أو مقمشة بمعلومات تاريخية مستندة، لتحقيق وظيفة "الإيعاز" أو "الإقناع" السردية المعاصرة، إلى مراجع تاريخية من دون مساءلة نقدية لمعلوماتها، او فحص داخلي وخارجي لها.

ورغم أن تدمري بدا، في كتابه تاريخ طرابلس 1981، أكثر هدوءا، من ناحية الغلواء الطائفية البلاغية، ومحاولة الكتابة بلغة المؤرخ المنطقية نسبيا، من ناحية المواصفات الشكلية، تبقى الرؤية السردية التاريخية المتركزة طائفيا، عموما، تتحكم بالكتابة التاريخية اللبنانية عن كسروان، وتبقى عيوب تاريخه لكسروان المذهبية عام 1978 حاضرة في تاريخ 1981.

أثارت الشحنة "الطائفية السنية الثقيلة" في تاريخ تدمري 1978 المرجعية الشيعية المؤسسية في لبنان، في مرحلة يقظة "الذات الشيعية" ونشوء "حركة المحرومين"، وأثارت احتجاج الإمام موسى الصدر على دائرة الفتوى التي كانت تصدر عنها المجلة الناشرة للمقالة، ورسالة ابن تيمية في نهايتها.

يرد محمد مكي على تاريخ التدمري مدعيا أن نشر المجلة في حد ذاته للمقالة وملحقها المتمثل بما سماه مكي "فتوى ابن تيمية" جزء مما دأبت عليه المجلة، من وقت لآخر، ضد المسلمين الشيعة، دون رقيب وحسيب (نشر مكي رده على تدمري أيضا في نفس المجلة بناء على تمن للشيخ محمد مهدي شمس الدين)، وأن نشرها في هذا الوقت بالذات بمثابة "الفخ الطائفي" الذي يعمل "العدو اليهودي" عليه لـ "إثارة الفتنة الطائفية".

يتحدث مكي بوصفه شيعيا، عن أرض الجنوب "الشيعية"، لتكون الإيستوريوغرافيا خاصته، النسبية والمحددة، ليست مقصودة بذاتها، بل ناتجة من موقف سجالي طائفي في سبيل الدفاع عن الهوية. وإن كان مكي يلتقط عيوب تدمري الإيستوريوغرافية، إلا أنه، بدوره، يلجأ إلى تحوير الوقائع التاريخية، والتلاعب بها، ليدافع عن مواقف الطائفة الشيعية في الماضي، ويرى أن الصراع الحقيقي هو بين الكسروانيين "الشيعة"، والتنوخيين "الدروز"، الذين حاولوا استخدام تحالفهم مع المماليك ليضموا كسروان إلى إقطاعاتهم.

بدوره، ينشر سامي مكارم أطروحته عن معتقد التوحيد (الدرزية) 1979، وانعكس اهتمامه الدرزي التنوخي في كتابه "لبنان في عهد الأمراء التنوخيين"، حيث يهمش الوجود الماروني القديم المُدَّعى في كسروان، ويرى أن الأغلبية التنوخية الجماعاتية المذهبية كانت "درزية"، على العكس مما يقوله مكي، الذي لا يشك في شيعيّتها، فكان التحول في الكتابة التاريخية نتاج التحول السياسي، ونقضا للتاريخ الماروني الكسرواني الذي أراد أن يكون تاريخا درزيا مارونيا يبنى عليه "لبنان الكبير".

"الذات النصيرية" تستيقظ متأخرة

بالنسبة للطائفة النصيرية، انتفت بداية الحاجة إلى تاريخ جماعاتي لبناني خاص، لكنها شهدت مع الوجود العسكري السوري في لبنان (1976-2005) يقظة ذات علوية على غرار الذوات الشيعية والدرزية والسنية. وتمكنت الطائفة العلوية الطرابلسية من الحصول على الاعتراف بها كطائفة في إطار نظام الطوائف اللبناني، وتمثيلها في البرلمان في انتخابات 1992. وكان الاعتراف بالطائفة العلوية في المنظومة اللبنانية المعاصرة آخر المداخلات في مأسسة الطوائف، التي صاغها وكرسها – خلافا لما هو شائع- الحكم الوطني اللبناني لما بعد الانتداب الفرنسي، لا الفرنسيون.

بدأ المؤرخون العلويون السوريون بالاهتمام بالتاريخ النصيري في كسروان، لا من زاوية موقع هذا التاريخ البشري للعلويين في الجبل، بل من زاوية الرد على فتوى ابن تيمية بخصوص النصيرية، التي نشرتها التيارات المتطرفة من "جماعة الإخوان المسلمين" خلال المواجهة اليائسة مع السلطة (1976-1982)، وعكس ذلك برأي باروت، نوعا من التفكير في المصير التاريخي للطائفة في حالة الملمات، ولم يكونوا جميعهم موالين للنظام بل بعضهم معارض يقيم في المنفى.

لبنانيا، حاول كل من أحمد علي حسن وحامد حسن، الرد على تاريخ تدمري المذكور، بمحاولة إثبات وجود العلويين في لبنان بشتى المناطق عدا بيروت، وأن النصيرية سكّان أصليون وليسوا طارئين على طرابلس وكسروانها، وإلى أقدمية النصيرية على الدروز في الضنّية.

انفرد إميل آل معروف عن سائر المحاولات التاريخية وشبه التاريخية "العلوية" بانطلاقه من بؤرة نظر سردية متركزة "نصيريا" على موقع النصيرية في الجغرافيا الجماعاتية المذهبية الكسروانية في زمن الحملات، في سياق تاريخه للعلويين، الذي كتبه في سجن أميون في لبنان العام 2012. تاريخ آل معروف، برأي باروت، يعج بالمغالطات، والنقائض الخطيرة، من منظور إيستوريوغرافي محدد للنقد الداخلي للمعلومات التاريخية، شأن التواريخ اللبنانية الحديثة الممثلة لطوائفها، ومع ذلك يعد أول محاولة شاملة لكتابة تاريخ العلويين، بعد تاريخ غالب الطويل، ويتسم بقيمة علمية نسبية إضافية، هي استناده إلى المخطوطات الداخلية النصيرية غير المعروفة إلا على نحو محدود جدا، ونَشرِه بعضها، واجتهاده في وضع تاريخها الزمني عبر مقارنة بينها وبين التاريخ العام.

كسروان بين الطائفة والتاريخ

يذهب باروت إلى أن تأكيد المؤرخين اللبنانين المعاصرين على ربط الحملات المملوكية بـ"فتوى" ابن تيمية من أبرز "العيوب" الإيستوريوغرافية الظاهرة ظهورا ناتئا في إنتاجهم. بينما تقتضي المنهجية العلمية، عند باروت، بحث حملات كسروان في ضوء مقاربة التاريخ الاجتماعي السياسي، ولا سيما عبر استخدام أدوات – مفاهيم المتغيرات (المستقلة والوسيطة والتابعة) التي تتميز بقدرتها التفسيرية والتحليلية في تفكيك تلك التواريخ الطائفية المتخيلة، وإعادة إنسان كسروان من كائن مذهبي ديني طائفي، إلى كائن تاريخي.

يتبين لباروت أن لا شيء في تاريخ تلامذة ابن تيمية، ولا في التاريخ العام، يشير إلى أن ابن تيمية أصدر هذه "الفتوى" بناء على طلب المماليك، لتبرير الحملة على كسروان أو شرعنتها في حال كان هناك "فتوى" بمعنى الفتوى. إذ مع طرد المماليك للصليبيين من سواحل بلاد الشام، ظهرت "قضية كسروان" في السياسة المملوكية بوصفها قضية استراتيجية سياسية مركزية، وحتمية، لضرورات الأمن المملوكي، وبرزت السيطرة المباشرة عليها كمتغير مستقل يحكم سائر المتغيرات التابعة، لكن المؤرخين اللبنانيين ركّزوا على دور المتغير التابع المذهبي الأيديولوجي في تفسير امتناع الكسروانيين عن الخضوع للمماليك، ورغم أن المتغير التابع (الأيديولوجي المذهبي) قد تشكل من نتائج الحملة لا من دوافعها، افترضت الإيستوريوغرافيا اللبنانية المعاصرة، ضمنا، أن هذه الحملات لم تكن تتم دون فتوى تشرعنها، وحوّلت افتراضاتها الضمنية التخييلية الزائفة هذه إلى حقائق تاريخية.

يبرز باروت السياق التاريخي المحدد لتحولات ابن تيمية الثالث (ابن تيمية في مرحلة ما بعد الحملة الثالثة على كسروان)، الذي شارك مع تلاميذه بنفسه في حملة كسروان الثالثة التي أفضت إلى خراب كسروان وتهجير من بقي منها، واجدا أن الفتاوى التي أُنتجت في هذه المرحلة ،بما فيها منهاج السنة (رداً على منهاج الكرامة للحلي)، كانت من آثار اشتغال المتغير المستقل المتجدد أو الجديد، بعد أن كان الارتباط السببي في مرحلة ابن تيمية الثاني (ابن تيمية في مرحلة صد التتار عن الشام) حتى الحملة الكسروانية الثالثة ضعيفا، ويتمثل في آثار الحملة على ابن تيمية نفسه وانتاجه وجهات نظره وفتاواه، وليس تلبية لحاجات المتغير المستقل واستدعائه الوظيفي لهذه الآثار.

لقد دشن الصراع المملوكي الإيلخاني التتري، الذي أضفى عليه لاحقا كل من ابن تيمية والفقيه الشيعي الحلي شكل الصراع المذهبي الأيديولوجي، عصر التعصب الهوياتي الطائفي في القرن الرابع عشر، كقرن مفصلي في تغيرات البنية الدينية المذهبية والجماعاتية البشرية لبلاد الشام، وسيتحول كل من ابن تيمية والحلي، بعد موتهما الفيزيائي، إلى غريمين مستمرين، وشديدي النزاع، طوال القرون اللاحقة، وهذا ما يمكن تفسيره بتحولات العلاقة بين المتغيرات المستقلة والتابعة، واكتساب المتغير التابع المذهبي الأيديولوجي خصائص متغير مستقل في العمل والتأثير، وإعادة الإنتاج الاجتماعية.

يذهب باروت إلى أن قسما كبيرا من مراجع إظهار الصراع السياسي في شكل صراع طائفي سني- شيعي اليوم، يضرب بجذوره في الصراع المملوكي الإيلخاني التتري الذي "تنمذج في صراع ابن تيمية مع الحلي، ولا تزال صراعات المصالح والسيطرة تعيد إنتاجه في كابوس طويل لم يستفق الوعي الإسلامي منه حتى الساعة".

الكتاب (في طبعته الأولى، بيروت: نيسان/ إبريل 2017) من إصدارات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ويندرج في سياق المشروعات البحثية التي يعمل عليها المركز لتفكيك مراجع البنية الطائفية المستعادة في المشرق العربي، على هيئة صراع مذهبي طائفي هوياتي، يعاد فيه إنتاج طوائف متخيلة حديثة بواسطة الطائفية وتسيسها المعاصر. الكتاب إثراء معرفي ومنهجي في حقل الإيستوريوغرافيا العربية في التاريخين الخاص والعام.

 

 

 *"حملات كسروان في التاريخ السياسي لفتاوى ابن تيمية"، جمال باروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2017

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.