}
عروض

حاتم الصكر: السيرة الذاتية والبوح عن حياة شخصية

سعد القصاب

9 أكتوبر 2017

 

تكاد السيرة الذاتية في الأدب العربي، أو الكتابة عنها، أن تكون طموحا ثقافيا. المدونة السيرية، عربيا، شحيحة في حضورها، مقتصدة في عرضها وسردها وتاريخها، ولطالما، يؤطّرها الحذر والخشية بذريعة محددات ذاتية وموضوعية: غياب ثقافة الاعتراف، هيمنة التقليد الاجتماعي والديني، عدا رقابة السياسي وسلطته الراسخة.

وحتى في حضورها الحذر هذا، سنجدها خالية غالبا، من المدهش وغير المألوف والخاص، جراء امتثالها لقدر من النمطية. ربما لكون القارئ العربي الذي هو بخلاف القارئ الغربي، يعقد الحياة الخاصة للأديب بنتاجه الأدبي بطريقة امتثالية، ما يجعل من الصعوبة بمكان تصور الأديب/ الكاتب، يحيا حياة غير عادية، مشاكسة، مرتبكة، وحافلة بالمفاجآت.

في مقابل هذا المحذور يدوّن الكاتب العربي سيرته، التي ستحتمل، المحذوف من حياته، والمعدل فيها، والمجزوء منها، والمجمّل المبالغ به، وهمهمات تدعي النسيان بذريعة الذاكرة والزمن. كما أنها ستبدأ من تلك التحفظات من الكاتب نفسه في العادة، فهو قارئ ضمني ورقيب على مصداقية سرديته وتوقع ما سيكون عليه رد الفعل إزاء متنها. والمأزق قائم، أيضا، من كون السيرة تكتب بعد بلوغ كاتبها مكانة معينة في الحياة الأدبية أو العامة، فتكون لها في أفق انتظار قارئه صورة نمطية ومتوقعة.

لا تخفي السيرة الذاتية، عربيا، هجانتها، هي ليست جنساً كتابياً شديد النقاء، بل غالبا تتشكل من فصول كتابية أخرى، أو تكون قريبة منها: اليوميات، المذكرات، الرسائل، نصوص السفر والرحلات، أو ثاوية بين طيات الفضاء الروائي.

في كتابه "أقنعة السيرة الذاتية وتجلياتها، البوح والترميز في الكتابة السير- ذاتية" والصادر حديثا عن دار "أزمنة- عمان" يطمح الناقد والباحث حاتم الصكر إلى دراسة هذا النوع الكتابي "على المستوى النظري والتطبيقي معا"، بغية ملامسة بعض مشكلات السيرة الذاتية في الأدب العربي واستكمال جوانب ممكنة في مدونتها، مثل تردد أسلوبيتها بين التاريخي والوصفي والسردي، وانفتاحها على أنواع أخرى من الخطاب، وتقاطعها مع الدافع الأخلاقي، وحتى مصداقيتها كوثيقة ذاتية.

لا يعاين الصكر السيرة الذاتية بكونها "جرد حساب مع الذات رغم قيامها على المطابقة بين النص والذات، بقدر توليد نص يجمع في زمن حاضر ما دار في الماضي أو جرت فيه الأحداث، ولكن من زاوية الشخصية ورؤيتها لماضيها"، هكذا يقول الناقد.

مقاربة لتعيين الأثر

الإبقاء على السيرة الذاتية وتأطيرها ضمن نظرية الأدب، يعني دوام جعلها نوعا أدبيا غير متعين، لا يخلو من الغموض واللبس وعدم الاستقرار. هي مرة قريبة من اليوميات والمذكرات والرسائل والشهادات الذاتية، كممارسة كتابية محايثة لها، ومرة أخرى أثناء تلك الإزاحات التي تتخللها بكونها قصة حياة شخصية، ما يجعلها عرضة لإكراهات يتم التغلب على اشتراطاتها بالتعديل والحذف.

كما أن زمنها ينطوي على بعد ثالث: الماضي المستعاد، الزمن الحاضر في الكتابة، وزمن التأويل أثناء فعل القراءة. فيما تتشكل من أنوات عدة، كل منها ستكشف عن وجودها في تلك المساحة المتاحة، مرة للمؤلف، وأخرى للشخصية، وثالثة للسارد. هؤلاء معا هم من يقوموا بإنجاز مشروع الكتابة السير- ذاتية.

لطالما تحيا السيرة الذاتية تعارضا تاما مع الضمير. حيث يبقى ضمير المتكلم، لا الغائب، الأكثر قربا للإقناع، وحينما تتمثل الذات وجودها عبر السرد بضمير قريب إليها. فكل سيرة تستدعي السؤال عن واقع المطابقة بين المؤلف والسارد والشخصية، كي يمضي الكاتب إلى خلق ماضيه، متجاوزا عقبات، متمثلة في انتقاء الأحداث، العجز عن استعادة الماضي واسترجاع المواقف والتجارب، جراء كثافة الوعي بالزمن الحاضر أثناء فعل الكتابة، وهي محددات تمنع في الغالب من أدرج صورة صادقة وثابتة لحياة الكاتب.

البوح الأسير

تعاني السيرة الذاتية من غياب السيرة النموذجية بغض النظر عن جنس الكاتب- الكاتبة. ذلك ما يثير الاستفسار، خاصة، عن السيرة الذاتية النسوية، حيث للمرأة ذلك الحضور الخاص في هذا الجنس الكتابي بوصفها صوتا خافتا في مجتمع ذكوري صارخ. وبوجود قدر لافت من المحظورات، وأساليب الإكراه المجتمعي، ستعاني هذه السيرة من الشيء الكثير من المحددات، إلا أنها ستعيّنها في ذات الوقت بكونها "فرصة تشكيل خصوصية أسلوبية وموضوعية " في الكتابة.

في فصله المعنون "السيرة الذاتية النسوية" يفترض الناقد الصكر من كون البعد العام للتجربة السيرية النسوية تحيل وجودها من البوح عن الذات إلى الحديث في الموضوع. جراء غياب الحرية الفردية للمرأة، خضوعها للهيمنة المجتمعية التقليدية، من هنا تكون الكتابة السيرية بمثابة وسيلة للدفاع أكثر منها تصريحا عن وجود إنساني ملائم، أو بتعبير الشاعرة نازك الملائكة "دروعا لا سهاما"، متصدية لتلك المحددات وفق الاستجابة إليها وليس تحديا لها "فتصبح أناها (وذاتها ) معبراً إلى (ذات) جماعية، وتغدو سيرتها سيرة جماعية، تشهد على مجمل العلاقات في لحظة تاريخية ما"، خالقة بذلك تعارضا ثقافيا وإبداعيا في النص السيري، الذي سيكون ضحية تشبه شخصيتها، وفاقدة للكثير من الدلالات والبوح والتعريف.

ثمة مشابهات لمثل هذه النوع من السيرة، في موقفها المتشابه من الآخر الرجل، والجماعة المكرسة، وذات الكاتبة المنطوية على جسدها الذي تخشى التصريح برغباته. أن سيرتهن لا تخلو من دلالات جمعية تتشارك خلالها مع جنس النساء الأخريات في جوانب المعاناة، والتعرض للكبح، وعدم البوح كفاية، بأسباب موانع الخجل والانطواء والصمت.

يتعرض الصكر إجرائيا، لعدد من السير الذاتية، لشاعرات وكاتبات عربيات. في سيرة الشاعرة فدوى طوقان، سيختلط السياسي بالشخصي. ومع الشاعرة نازك الملائكة، ستكون سيرتها "لمحات من سيرة حياتي وثقافتي" سيرة عامة، ذات طابع مهني وثقافي. كذلك الأمر مع الروائية غادة السمان الذي وجد الصكر أن "خوف الكاتبة من سيرتها الذاتية، انعكاس لخوفها من البوح الذي تعرف ثمنه وتخشاه". فيما ستكون "مذكرات طبيبة" للكاتبة نوال السعداوي صيغة هروبية أخرى تفترضها الكاتبة وتقودها عبر "رغبة تركيز الذات وإشباع تلك الرغبة عبر تجسيد الأحداث بصياغات سردية تضيع معها شذرات الحياة ومفرداتها التي تستعيض عنها الكاتبة بالأفكار، وتنميط الشخصيات".

عدا قراءاته لمذكرات وشهادات لكاتبات وشاعرات من الجزائر واليمن والعراق، ينتهي الصكر إلى خلاصة، تتجلى من كون السيرة الذاتية النسوية، تنفتح على ندرة المكتوب في هذا الجنس، ولأسباب عدة، ما هو ذاتي، والمانع المجتمعي، والانتباهة القصوى لفروض القمع، والمنع، والفصل الجنسي، كما في التركيز على الذات" الأنا"، تعويضا عن الإقصاء حياتيا. وحيث تتقدم تجربة الكتابة بديلا لافتا عن خوضها وسردها مفردات الحياة، " فبدلا أن تكون الحياة مناسبة لحدث الكتابة، تكون الكتابة مناسبة لسرد الحياة".

الرواية بوصفها سيرة

تشتبك السيرة مع التاريخ كما مع الرواية، فيما تظل الذات حاضرة بضمير المتكلم بكونها كائنا سيريا، توعد بالكشف عن نفسها، لذا تظل الرواية في واقع الممارسة المماثلة باعتبارها أكثر الحقول قربا للسيرة. عبر هذه المقاربة التجنيسية تصبح سيرة الأديب، الروائي، معينا على مستوى الرؤية والتجربة الكتابية. ويمكن الحديث عن مشروع للكثير من الروائيين العرب، لبناء وتشييد "رواية سيرة ذاتية"، تكون خلالها السيرة متخفية وراء اسم الرواية، وجنسها، والتخلص من مبدأ التطابق في كونها نصا سيريا، يكون فيها أسلوب السرد الروائي سبيلا للكشف عن أحداث وحيوات الكاتب.

في العديد من الروايات العربية التي صدرت، يضحي الروائي بسيرته لمصلحة الرواية، حينما يختلط السيري المستعاد مع النص الروائي المتخيل، مشكلا تلك الرواية التي "تنطوي على حياة كاتبها" كما يصفها الناقد جابر عصفور. وهو الأمر الذي يوصلنا إلى نص هجين، يميل الناقد الصكر إلى تسميته "بالسيرة الروائية"، عبر حضور السيرة كمطابقة بين المؤلف والسارد، والضمير المعبر عن الذات، واستذكار أحداث وأزمنة ماضية في حاضر السرد السيري، والتخفف من نشاط الفضاء التخيلي للسرد الروائي. إلا أن ذلك يبقى خطابا واقعا، كما يذكر الصكر" في ربط ما هو أدبي بما هو اجتماعي ربطاً أساسياً يغفل البنيات الفنية، والأعراف الخاصة التي يميل النوع الأدبي إلى تكريسها ودعمها وتأكيدها عبر النصوص".

يفحص الصكر في قراءات إجرائية لعديد الروايات العربية، لروائيين من اليمن، الجزائر، الأردن، العراق، والتي يعدها تجربة "تستثمر ما هو مشترك بين الرواية والسيرة الذاتية على مستويات ضمائر السرد والفضاء السردي الذي لا يختلف في كل من الرواية والسيرة الذاتية وعدم اختلافهما في طرائق التحليل".

تنفتح قراءات الناقد حاتم الصكر، أيضا، على عناوين مختلفة، يتفحص خلالها متن السيرة وبعده التجريبي، عبر موضوعات متباينة الدلالة، مثل :"نماذج من السيرة الثقافية"، "السيرة الذاتية والتجربة الشعرية"، "سيرة الرحلات"، "الرسائل تنويعا على السيرة"، "السيرة والمكان"، "اليوميات".

عربيا، نجد أن كتابة السيرة الذاتية تحظى في العقود الأخيرة بعناية نسبية متزايدة تشجّع عليها أجواء الانفتاح الثقافي، والأفق الذي تدخله المجتمعات العربية في فضاء من الحرية المنتزعة، حتى تتنوع كيفياتها، وتتوسع متمددة لفنون مجاورة.

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.