}
قراءات

"شعراء كوسوفو": عن الحياة في الأنظمة الشيوعية وما بعدها

 

يتميز البلقان بكونه جسرا بين الشرق والغرب على مدى أكثر من ألفي عام، أي منذ أن وحّد بينهما الإسكندر المكدوني في القرن الثالث ق.م وحتى نهاية الحكم العثماني في 1912، ثم جاءت صناعة "الدولة القومية" الحديثة بين الحربين لتفشل وتفتح الطريق أمام الأحزاب الشيوعية لتصل إلى الحكم بدعم من الاتحاد السوفييتي ليصبح البلقان جزءا من الشرق بالمفهوم الحديث – الإيديولوجي، وهو ما انعكس على الأدب بعد أن أصبحت "الواقعية الاشتراكية" هي البوصلة التي يجب أن يستهدي بها الكاتب فيما يكتبه، وبالتالي لم تعد هناك من خصوصية في أدب دول "المعسكر الشرقي" سوى في الأسماء والأماكن الواردة في القصص أو الروايات التي تشير إلى هذه الدولة أو تلك.

ولكن هذه الحالة شهدت انعطافا مهما في 1948 مع تفجر النزاع الإيديولوجي بين موسكو وبلغراد، أو بين الستالينية والتيتوية، الذي تجاوز أوروبا الشرقية ليصل إلى المشرق حيث خرج الشيوعيون في بيروت وغيرها ينددون بـ"التحريفية التيتوية". كان الأمر يتعلق بالتمرد على الإملاء الإيديولوجي للمركز الجديد (موسكو) الذي يعتبر أنه على قيادات كل الأنظمة الشيوعية أن تتبع "النموذج السوفييتي" في السياسة والاقتصاد والثقافة. ومن هنا اعتبرت موسكو وكل الأنظمة والأحزاب التي وقفت معها أن هذا "التمرد" يشكل انحرافا عن "الماركسية اللينينية"، ولذلك أصبحت يوغسلافيا التيتوية تُعتبر "خارج السرب الشيوعي" بعد أن حررت اقتصادها من "النموذج السوفييتي" وتحررت من "الواقعية الاشتراكية" واعتمدت طريقا ثالثا (التسيير الذاتي)، حتى أصبحت يوغسلافيا ملهمة لتجارب جديدة في المشرق من الجزائر إلى العراق مروراً بـ"الجمهورية العربية المتحدة"، وأصبح القراء العرب يطلعون على أدب مختلف عما كانت تنتجه دول "الواقعية الاشتراكية".

إلا أن يوغسلافيا لم تسلم مع وفاة تيتو في 1980 من النزاع الإيديولوجي الداخلي أو الصراع الجديد على السلطة ووراثة الجمهوريات الفدرالية، الذي كان للخارج دور فيه، والذي برز باسم الديموقراطية والقومية وانتهى إلى سلسلة حروب بين الأخوة / الأعداء خلال 1991-1999 أدت إلى انبثاق سبع دول مستقلة (سلوفينيا وكرواتيا والبوسنة والجبل الأسود ومقدونيا وصربيا وكوسوفو).

ولكن تجربة الديموقراطية والقومية لم تحمل ما كان يتأمّله الجمهور لأن الانتقال السريع إلى اقتصاد السوق والخصخصة مع الفساد الجديد أدى إلى انهيار النظام المجتمعي القديم، الذي كان يؤمّن الدعم للتعليم والصحة والثقافة ويقلّل الفروقات بين شرائح المجتمع، وبروز نظام مجتمعي جديد مع أقلية تملك المال والحكم وأكثرية ترضى بالحرية مع الفاقة. ومن هنا نجد المفارقة التي تكمن في الحنين إلى يوغسلافيا التيتوية مع عدم الاستعداد لاستعادتها من جديد على أمل أن يوفر الانضمام إلى الاتحاد الأوربي بديلا أفضل.

انفراط الأدب "اليوغسلافي"

هذه التحولات الكبيرة في السياسة والاقتصاد والثقافة انعكست في العقدين الأخيرين بشكل واضح في الأدب، سواء بتشتت ما كان يسمى "الأدب اليوغسلافي" حيث أصبح أدب كل جمهورية يحمل سماته الخاصة، أو بما يجمع بين هذه الآداب المختلفة: الإحباط الذي وصل ببعض الكتاب إلى القرف والانقطاع عن الكتابة.

من هذا الجيل المخضرم لدينا الكاتب الكوسوفي إبراهيم قدري أو قدريو Ibrahim Kadriu الذي يعتبر من أغزر الكتاب الكوسوفيين إنتاجا وأكثرهم تعبيرا عن هذا الإحباط في ديوانه الأخير "مسرح كوسوفي" (بريشتينا، دار فائق كونيتسا 2017).

ولد إبراهيم في 8/1/1945، أي في السنة التي وصل فيها الحزب الشيوعي اليوغسلافي إلى الحكم بعد أن وعد بالمساواة القومية التي انهارت يوغسلافيا الملكية (1918 -1941) بسبب حرمان بعض الشعوب منها، وأصبحت كوسوفو تحظى بحكم ذاتي مكّن الطفل إبراهيم أن يتعلم في لغته القومية (الألبانية) وصولا إلى الجامعة التي تخرج منها في 1968 ليعمل في الجريدة الكوسوفية الأولى "ريلنديا" محررا بالقسم الثقافي، ثم رئيسا له خلال 1973-1999، ثم رئيسا للقسم الثقافي لجريدة "زيري" بعد خرجت كوسوفو من عباءة يوغسلافيا.

كان إبراهيم يمثل الجيل الثاني من الكتاب الألبان في يوغسلافيا التيتوية الذين أبدعوا في الشعر والقصة والرواية أدبا مختلفا عن أخوانهم في ألبانيا الخوجوية المجاورة، حيث بقيت "الواقعية الاشتراكية" مفروضة بالمسطرة الإيديولوجية التي تحاسب كل خروج عنها بالسنتيمتر. وخلال عمله الطويل رئيسا للقسم الثقافي في أهم جريدتين خلال 1973-2010 تخرج من الصفحات الثقافية التي كان يُعدّها جيل ثالث يتبوأ الآن المشهد الثقافي في العالم الألباني.

بدأ إبراهيم بكتابة الشعر وهو على مقاعد الدراسة ونشر في 1969 أول ديوان شعر له "ليالي جبل كاراداك" ثم أول مجموعة قصصية في 1970 بعنوان "مدينة الورود" ثم أول رواية في 1975 بعنوان "بعد العودة" ليصدر حتى الآن عشرات الكتب من مجموعات شعرية وقصصية وروايات ترجم بعضها إلى عدة لغات أوربية وشرقية (العربية والتركية)، كما صدرت عن أدبه ثلاثة كتب وقُدمت أعماله في مختارات أدبية عديدة. ومع ديوانه الأخير "مسرح كوسوفي" الذي يحمل الرقم 55 من كتبه حصد إبراهيم قدري العديد من الجوائز من أهمها "روائي العام" في ألبانيا عام 2013 والجائزة التقديرية عن مجمل أعماله في كوسوفو في 2013 أيضا.

خلال حياته المديدة وتجربته الإبداعية الطويلة على مدى خمسين سنة تنوّع إنتاجه بين الشعر والقصة والرواية وحسب الأحوال السياسية. فقد استفاد إبراهيم كغيره من الجيل الجديد من التحرر اليوغسلافي من "الواقعية الاشتراكية" ليكتب بحرية أكثر مستفيدا من تجارب كبار الكتاب في يوغسلافيا التيتوية ومن الأدب الأوروبي الذي كان يترجم أحدث الاتجاهات في العالم (الوجودية والواقعية السحرية الخ) في الوقت الذي كانت تعتبر هذه في ألبانيا المجاورة "من الأدب البرجوازي المنحط". ولكن التجربة اليوغسلافية كانت لها مطبّاتها في بعض الفترات، ولذلك كان إبراهيم وغيره يلجأون أحيانا إلى التاريخ لإسقاط الماضي على الحاضر أو إلى الإغراق في الرمز بالشعر.


حراك أدبي جديد

ومع موت تيتو في 1980 وانطلاق الحراك المطالب بالتعددية السياسية والموجة القومية الجديدة في يوغسلافيا المطالبة أولا بالمساواة بين الوحدات الفدرالية ثم باستقلال الجمهوريات كان إبراهيم رئيسا لرابطة الكتاب، التي تحولت إلى منصة معبّرة عن الحراك الجديد في كوسوفو، ليخلفه الكاتب إبراهيم روغوفا الذي أصبح لاحقا أول رئيس لكوسوفو المستقلة.

كان إبراهيم كغيره من الكتاب من أوائل من انسحب من عضوية الحزب الشيوعي لينضم إلى أول حزب ديمقراطي تأسّس في 1989 (الرابطة الديموقراطية) وشارك في انتخابات 1992 التي فاز فيها رئيسا لجمهورية كوسوفو التي أعلنت استقلالها عن يوغسلافيا من طرف واحد. ولكن الأمر احتاج إلى مزيد من السنوات حتى آخر حرب في يوغسلافيا السابقة (1999) التي أدت إلى خروج كوسوفو من العباءة اليوغسلافية.

مع هذا الإسهام في الحراك السياسي والثقافي للوصول إلى الدولة المستقلة، الذي تمثل في إنتاجه الأدبي خلال تلك السنوات، كان التفاؤل كبيرا بالاستقلال والمستقبل. ولكن مثل هذا التفاؤل الكبير سرعان ما تحول إلى إحباط مع الفساد الذي رافق التحول إلى اقتصاد السوق والخصخصة وسيطرة المافيات الجديدة على مفاصل الدولة تحت عباءة الأحزاب الجديدة لخدمة مصالحها الضيقة، مما جعل كوسوفو أول دولة أوروبية من حيث البطالة بين الشباب (حوالي 50%). وقد استغلت بعض الجماعات المتطرفة التي تمول من الخارج هذا الوضع لتنشر الأفكار الداعشية بين صفوف الشباب لتجعل كوسوفو (95% من المسلمين) مصدرا لذهاب الشباب المحبط إلى "جبهة النصرة" في سورية أولا ثم إلى "دولة الخلافة" الداعشية في العراق وسورية لاحقا، وهو ما جعله إبراهيم موضوع روايته قبل الأخيرة "خارج السكة" (بريشتينا 2015).


قدري بين الماضي الشيوعي والحاضر


في هذه القصائد المختارة من الديوان الأخير لإبراهيم قدري يبدو الإحباط واضحا من الماضي الشيوعي والحاضر الديموقراطي، وهو ما يتمثل بشكل خاص في قصيدة "فرار الأحلام" التي يعبّر فيها عن تجربة جيله الذي عانى من الماضي وكافح لأجل البديل الديموقراطي، ولكنه سرعان ما أحبط من هذا البديل. ولكن هذا الإحباط لا يقضي على روح الكاتب المقاومة والتوّاقة إلى الحرية والديمقراطية الحقيقية وليست المشهدية، وهو ما يبدو في قصيدته الأخرى "اليوم ليس كالبارحة". مع القصائد الأخرى تبدو بوضوح الطبقة السياسية الجديدة التي سرقت أحلام جيل إبراهيم قدري باسم الديموقراطية وهي تتقن دورها في التمثيل على المنصة وإيهام الجمهور بفوائد التغيير، كما هي وظيفة الفن في الإيهام بالواقع الذي يشكّله الكاتب، ولذلك يرى إبراهيم قدري أن كوسوفو كلها تتحول إلى مسرح، ومن هنا جاء عنوان ديوانه "مسرح كوسوفي".

قصائد

فرار الأحلام
قضيتَ كل حياتك منحنيا تحت قوة الضغط،
في فرار متواصل جيلا بعد جيل لتحمي ذاتك.

في انتظار فرصة أن تقف وترفع رأسك
كنتَ تتحمل الضرب والسجن المطلّ على المقابر المفتوحة.

كنتَ تتحمل البصقات وسيل الدماء
لكي تحمي شرفك وعتبة دارك.

بقيتَ طيلة حياتك مهملا ومنسيا دونما حياة طبيعية
تتحمل الركلات والتصرفات المسيئة.

تحمل على ظهرك التعب الحي دونما أمل
وتتحمل الإساءات المستمرة دونما كلمة اعتذار.

بقيتَ جلدا على عظم من المعاناة
عاجزا عن السير منتصب القامة وعن الوصول إلى فوق.

بعد ذلك فرّت الأحلام من النوم الطويل
وهي تحيي كل التضحيات في كل الأوقات.

خرجتْ الحرية الجريحة أخيرا من الأساطير
بعد أن فقدنا الأمل من التحرر.

بعد ذلك ظهرتْ القوى التي تقود المسيرة الجديدة
وهي تركب على ظهر الشعب.

باسم الشعب برزت شخصيات وعمارات
وعادت صورة المستقبل لتختلط من جديد.

بقي الجوع متواصلا ولكن الآن لجمع الملايين والمزيد من الملايين
وأصبحتْ كوسوفو تحتفي برجال الأعمال الجدد.

آه، كما فقدنا بسرعة كل معاني المثل العليا!
أصبحنا نعرف الآن لم حمل هؤلاء السلاح لتحرير البلاد.


أبي

كان أبي حرفيا
كان المعماري والنحات في الأسرة الكبيرة
تخرج من أكاديمية الجبال
كان يختار هناك الأخشاب والأحجار المناسبة ليثبت موهبته
لم يخسر الكثير من وقته في المعارض
لم يهتم كثيرا بإعداد كتالوغ لأعماله
ولم يبحث عن الدعم من ممولين.
كان يصنع بإحساسه الشكل الذي يريده من الخشب
حسب الأبعاد الموجودة في رأسه.
كان يجلس الليالي وهو يتطلع إلى النافذة
يفرح لرؤية ضوء الغد الذي يبرز من فوق التلال.

كان أبي فُرات قدري مبدعا
لم يكن بحاجة إلى قلم
كان يكفيه الإزميل والمنشار للأحجار والأخشاب
كان يحلم مثل مايكل أنجلو
كان يقترب بإرادة المبدع من الأحجار والأخشاب
يوقع شجرة البلّوط كما يوقع المصارع الثور على أرض الملعب
ليصنع من الأحجار الأساس الذي يدوم
ويصنع من الأخشاب العوارض للسقوف.

كان أبي أصيلا
كان يؤمن فقط بأفكاره التي يضيف إليها ما يريد
لم يكن أبدا في متحف اللوفر
لم يقم في حياته معرضا لأعماله
ولم يقل مرة رأيه في الأكاديميين،
لم يظهر مرة في صورة على شاكلة الأكاديميين
كان يشذب نفسه كما يشذب الخشب والحجر.

أبي معماري ونحّات
أعماله التي تركها قاومت الزمن
قاومت المطر والبرَد والزلازل والاعتداءات
المواقد التي بناها تكيّفت مع الأساطير
لأن مثل هذا المواقد التي بناها أبي المعمار والنحات
سيخرج منها الدخان على الدوام.

اليوم ليس كالبارحة
لستُ كالبارحة
ولن أكون غدا كما أنا
اليوم أنا تماما مع ذاتي
أشتمُ بحرية أنور خوجا وتيتو
أقول عنهم قتلة ومستبدين..
ومع ذلك أمشي
دونما خوف من طردي من الحزب
لأنني لست كالبارحة
حين كنت لا أعرف أين أنا ولم أنا

اليوم أكتب من ذاتي نشيدا وطنيا
وأمنحه لمن أريد
لا أحد يعترض على ذلك
ولا أحد ينشغل بذلك،
هل تأليف نشيد وطني من حقي أنا

اليوم مختلف تماما عن البارحة
إذا لديك بصقة اقذفها على أي وجه
حطّم زجاج الحكومة
ولا تترك عظام الديموقراطية مرتاحة.
يالله كيف كان البارحة
أما اليوم فغداً ندفنه.

(ترجمة م.الأرناؤوط)

 

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.