}
قراءات

عن بعض أسئلة النقد الجامعيّ

شكري المبخوت

17 أكتوبر 2017

 

قلّما نميّز، داخل ما يُكتب عن الأدب عموماً والرواية خصوصاً، بين النقد الصحافيّ، وهو جنس قائم بذاته، والنقد الثقافيّ الذي يسعى إلى تعمّق الظواهر الأدبيّة ومساءلتها والنقد الجامعيّ الذي يُصاغ داخل نظريّات ونماذج وأطر أكاديميّة مختصّة بأسلوب مميّز في التناول.

ولكلّ صنف حدودٌ ومشاكلُ خصوصيّة. لكنّ واقعنا الثقافيّ والعلميّ العربيّ كثيراً ما تلتبس فيه ضروب الخطابات النقديّة الثلاثة. ففي بعض المنابر الثقافيّة ترى نصّاً نقديّاً لا يتورّع صاحبه عن حشوه بالمصطلحات الفنّيّة الدقيقة حتّى ينقلب درساً يضيع في أعطافه العمل الإبداعيّ المدروس ووجوه جودته والقضايا الجماليّة التي يطرحها.

بيد أنّ بعض الكتابات الجامعيّة التي ينجزها أكاديميّون لم تقع، على قلّتها، في حبائل التداخل الذي أشرنا إليه بين أصناف متباينة من الخطاب النقديّ. ومنها كتاب محمّد الخبو "مداخل إلى التشكيل الروائيّ: (صدر عن دار محمّد عليّ ودار التنوير ونادي القصيم الأدبيّ، سنة 2017، في 223 صفحة).

خصائص النقد الجامعيّ

ولهذا الكتاب من السمات المميّزة للخطاب النقديّ الجامعيّ ما لا يخفى على الناظر. من ذلك حرص صاحبه في رأس كلّ باب من أبوابه الأربعة على التأسيس النظريّ للمفاهيمِ الأصولِ من قبيل التشكيل والتخييل وتعدّد الأصوات والحواريّة وعلاقة السرد بالرسم وغيرها كثير. وهو تأسيس يستدعي نظريّات مختلفة في مجالات عديدة كاللسانيّات والسرديّات والسيميائيّات مقارنةً بينها وتفحّصاً للتحوّلات في مناويل الإجراء والاستدلال عليها نقداً يبرز حدودها. وقد كان الخبو في كلّ ذلك دقيقاً ثبتاً مبيناً للملتبس موضّحاً للغامض يعود إلى التصوّرات في مظانها ليحلّل شجرة أنسابها الفكريّة والعلميّة.

وممّا يميّز كتاب الخبو من الناحية النظريّة، علاوة على سعة الاطّلاع والتدقيق والتحقيق، تجاوز ما عاناه النقد العربيّ في تعامله مع النظريّات النقديّة الغربيّة ومناهجها، لأمد طويل، من انبهار باكتشاف هذا التصوّر أو ذاك وتصديق لطريف الأفكار والمفاهيم دون تمحيص.  فهذا الكتاب يدلّ دلالة قويّة على مرحلة نضجٍ بلغها بعض النقد الجامعيّ قوامُها التفاعل العلميّ مع هذه النظريّات والمناهج بتقديم الأساسيّ منها على نحو منهجيّ صارم وتنزيله في سياقه الحقيقيّ ببيان المختلف والمؤتلف بينها وتحديد القضايا النظريّة التي ظلّت معلّقة دون إجابات واضحة.

فممّا نجده في الكتاب تحليل لنظريّة باختين في الحواريّة والبوليفونيّة. والبيّن منه أنّ هذه النظريّة لم تعد حلاًّ جذّاباً مقنعاً إجرائيّاً لمسألة الخروج من الشكلانيّة إلى مقاربة تأخذ بعين الاعتبار المقام والتاريخ والإيديولوجية. فبعد أن أبرز الخبو الأساسيّ منها طفق يخصّص تصوّرها العام للخطاب متعدّد الأصوات على الرواية وصيغها في الأداء. وعندها كشف عن مضايق إجرائيّة وأسئلة كثيرة تفتقر إلى إجابات دقيقة. فبيّن ما يكتنف العلاقة في كتابات باختين بين المؤلّف كائناً تاريخيّاً والراوي كائنا متخيّلاً داخل النصّ الروائيّ من غموض. وضرب مثالاً على ذلك قصور هذه النظريّة على الإحاطة بالمقاطع الوصفيّة وكشف حواريّتها على أهمّيّة الوصف في الروايات. فهل الوصف في السرد الروائيّ حيّز للتعدّد الصوتيّ؟ وكيف يكون الاشتغال عليه باعتباره نتاجاً لفعل النظر؟

النظريّة وإضاءة النصّ المفرد

ويجمع كتاب "مداخل إلى التشكيل الروائيّ" بين النقد النظريّ المعمّق والنقد التطبيقيّ المدقّق. وهو وجه من وجوه النضج الذي تحدثنا عنه. فلم نعد نرى معالجة آليّة باسم تطبيق المناهج على نصوص إبداعيّة تردّ الخاصّ فيها ّإلى المشترك النظريّ المعلوم سلفاً في ضرب من الدائريّة. ولم نعد نرى نصوصاً محشوّة بجهاز مصطلحيّ ومفهوميّ لا يخلو من عجمة يتلاشى في تعقّدها وفي خطابها المتعالم المظهر الإبداعيّ من النصوص التي يحلّلها الباحث. فأسلوب المقاربة التي اعتمدها الخبو قام على طرح القضايا النظريّة ومناقشتها وتبيان مواضع الوهن فيها ثم استخراج الأساسيّ الذي ثبتت نجاعته الإجرائيّة ليتّخذه مدخلاً إلى القضيّة التي يعالجها والنصّ الذي يحلّل مكوّناته بحثاً عن خصائصه.

وفي كثير من نتائج التحليل ما يؤكّد أنّ الإجراء لا يتعسّف على النصّ وأنّ النظريّة مخصبة تضيء منه جوانب من المشكلة المطروحة. فقد أعاد الخبو، معتمداً على مداخل نظريّة حول خصائص السرد عامّة، تجنيس نصّين من الأدب التونسيّ هما "جولة بين حانات البحر المتوسّط" للمبدع الفذّ علي الدوعاجي (1909 - 1949) و"من أيّام عمران" لمحمود المسعدي (1911 - 2004) بما يوضّح، بحذق وعلى نحو مقنع، طابع الانسجام فيهما انسجاماً مؤسّساً لوحدتهما وحبكتهما على الرغم ممّا يبدو على السطح من تشتّت وتفكّك.

وقد يسّر له مدخل التشكيل باعتباره "نتاجَ عملٍ تركيبيّ قوامه التنسيق بين الأزمنة والعناصر السرديّة الأخرى" (ص 59) بلوغ هذه النتيجة كما يسّر له الكشف عن خصائص أعمال روائيّة أخرى. وهو ما نلمسه في تحليل كتاب جمال الغيطاني "سفر البنيان" الذي يتعامل فيه السرد مع التاريخ ورواية محمّد برّادة "امرأة النسيان" الذي يتمازج فيه المتخيّل بالمرجعيّ على نحو يُثرى فيه العالم المقدود من مادّة الخيال بكائنات ذات مراجع في الواقع.

ومن أطرف مظاهر التشكيل الروائيّ التي تناولها الخبو ما أسماه "الكتابة الراسمة" التي تلتقي فيها مبادئ الفنّ التشكيليّ بتقنيات الكتابة السرديّة خصوصاً من جهة تحويل السرد، باعتباره اشتغالاً زمانيّاً، إلى سرد مكانيّ. وهو ما يبرز في عمل إدوارد خرّاط "اختراقات الهوى والتهلكة" ورواية التونسيّ محمّد آيت ميهوب "حروف الرمل".

نقد مثير ممتع

إنّ كتاب محمّد الخبو "مداخل إلى التشكيل الروائي"، بما فيه من دقّة في تقديم النظريّات والمفاهيم ومعرفة واسعة معمّقة بهما وروح نقديّة تجلّت في بيان حدود المناويل الإجرائيّة وضعف بعض التصوّرات، ليؤكّد أنّ النقد الجامعيّ الأكاديميّ الحقيقيّ لا يمكنه أن يقنع بالحديث العامّ الشائع أو أن يعامل النصوص على وجه الإجمال بردّها إلى أمثلة مجرّدة تبنيها النظريّات. فهذه النظريّات في النقد الجامعيّ الجادّ الذكيّ تُستقطر ليستخرج منها الباحث الفطن ما به يستنطق النصّ الروائيّ ويكشف قضاياه الفنّيّة. وبالمقابل يستدعي النصّ الروائيّ بأسئلته الجماليّة وخصائص مبناه ومعناه وما يعتمل فيه من مقترحات العودةَ إلى النظريّات ومفاهيمها بالنقد والتشذيب والمساءلة. وهذه سبيل النقد الحقّ: جدل مستمرّ بين النظر والإبداع والمفهوم والقول الفنّيّ. إنّه بعض سرّ الإبداع في الأدب والدرس النقديّ نفسه رغم ما يثيره الحديث عن النقد الجامعيّ لدى عموم المتأدّبين من تذمّر وتأفّف وضجر يكذّبها جميعاً كتاب الخبو هذا.

إنّه كتاب مثير للعقل بأسئلته ومعارف صاحبه ومنهجه، ممتع لقارئه بوضوح عرضه ورقيّ لغة الكتابة فيه والأسئلة العميقة التي يطرحها علينا.

* أكاديميّ وروائيّ من تونس

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.