}
عروض

بيار بورديو.. "شيء ما" اسمه "الدولة"!

الصحبي العلاني

18 يناير 2017

 

على امتداد ثلاث سنوات متتالية، من 1989 إلى 1992، وفي قاعة المحاضرات بـ"الكوليج دو فرانس"، إحدى أعرق المؤسسات الجامعيّة الباريسيّة، ظلّ عالم الاجتماع الفرنسي، بيار بورديو (1930-2002)، يلقي دروسه وهو يعلم علم اليقين أنّ المكان "ملغوم" بآلات التسجيل التي تُحصي عليه حركاته وسكناته وتقيّد حروفه وكلماته!

وعلى عكس ما يمكن أن نظنّ، فإنّ آلات التسجيل تلك لم توضع للتنصّت عليه ولا للتلصّص على طلبته ومحاوريه، بل إنّها جُهّزت خصّيصا لحفظ العلم من آفة النسيان وصون الذاكرة من خطر التلاشي. وإلى هاتين الغايتين الجليلتين تُضاف غاية أخرى لعلّها أهمّ وأجدى. فقد جرت العادة مع جلّ أساتذة الجامعة الفرنسيّة على أن يستثمروا التسجيلات الصوتية وأن يُخرجوها من حال المشافهة إلى مقام المكتوب، وذلك ما قام به بورديو نفسه عندما نشر بعض أعماله التي هي في الأصل دروس ألقاها ومحاضرات قدّمها ونقاشات خاضها، ولعلّه كان ينوي أن يعيد الكرّة مع دروس سنوات 1989-1992 خاصّة وأنّه تناول فيها على امتداد ثلاث وعشرين حصّة مسألة في غاية الأهميّة والخطورة، وهل ثمّة -حقّاً - "شيء ما" أهمّ وأخطر من ذاك الذي نسمّيه "الدولـة"؟

 

النوايا والمنايا!

بين "الدولـة" موضوعاً لمقرّر دراسيّ قلّب فيه بورديو النظر وأدار القول وخاض السجال، و"الدولـة" مادّة لكتاب يُفترض أن ينشره صاحبه في شكل واضح المعالم صلب البنيان متماسك الأركان، عصفت المنايا بالنوايا. فقد فارق بورديو الحياة في يناير/كانون الثاني 2002 وظلّ درسه عشرين عامًا حبيس التسجيلات والأشرطة الصوتيّة إلى أن قام عدد من طلبته ومساعديه بإعداد محاضرات "المعلّم" ونشرها ضمن كتاب ضخم، تقع نسخته الفرنسية في حوالى سبعمائة صفحة وتحمل عنوان "عن الدولـة - دروس في الكوليج دو فرانس (1989-1992)".

بين نشر النسخة الفرنسيّة في 2012، وصدور ترجمتها العربيّة مؤخّراً (أيلول/سبتمبر 2016)، يمكننا القول إنّ قرّاء لغة الضاد محظوظون تماما. فهم لم ينتظروا إلاّ أربع سنوات فقط للاطّلاع على عمل استثنائي بكلّ المقاييس، والحال أنّ أعمالاً أخرى عديدة قيّمة لا تجد طريقها إلى التعريب إلاّ بعد عقود من الزمن. ويعود الفضل في سرعة إنجاز هذه المهمّة إلى "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" الذي يتّخذ من الدوحة مقرّاً له. فرغم حداثة سنّ هذا المركز الذي تأسّس سنة 2010، فإنّ القائمين عليه تنبّهوا إلى ضرورة تعريب كتاب بورديو من أجل أن يسدّوا ثغرة واضحة في الدراسات الاجتماعيّة العربيّة.

والأهمّ من تفطّنهم إلى أهميّة الكتاب وإلى ضرورة الإسراع بتعريبه أنّهم كانوا واعين تماما بأنّ التعريب ليس غاية في حدّ ذاته. فكم من عمل ظنّ أصحابه أنّهم عرّبوه ولكنّهم في الحقيقة خـرّبـوه! لأنّ ظاهر لسانه العربيّ، أو بالأحرى المعرّب، لا يكاد يبين. وذلك ما كان القائمون على "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" واعين به حين أشاروا بشكل صريح إلى ظاهرة "شيوع الترجمات المشوّهة أو متدنية المستوى" وإلى أنّهم سيسلكون -على عكس السائد- "طريق الترجمة الأمينة الموثوقة المأذونة" من أجل أن يكون عملهم حافزا على إذكاء "روح البحث والاستقصاء والنقد، وتطوير الأدوات والمفاهيم وآليات التراكم المعرفي، والتأثير في الرأي العام".

وفي تقديرنا، فإنّ كتاب بورديو "عن الدولة" يبدو الأقرب إلى تجسيد هذه الأهداف وإلى التعبير عنها وبلوغ مراميها. ففي مادّته الغزيرة ذات الأصل الشفويّ والطابع الأقرب إلى الارتجال والتحرّر من قيود المكتوب وإكراهاته تنفتح أمامنا آفاق أقلّ ما يقال فيها إنّها غير متوقّعة ولا منتظرة، لسبب في منتهى البساطة والغرابة. فبورديو لم يهتمّ بهذا "الشيء" الذي يُسمّى "الدولة" في بدايات مسيرته الأكاديميّة وإنّما اكتشفها (أو بالأحرى "أعاد اكتشافها") في مرحلة متأخّرة بعدما ظلّ يحوم حولها عقودا من الزمن!

 

ما أحلى الرجوع إليها!

منذ أواسط سنوات الستين من القرن المنقضي (1964)، وإلى حدود أواخر التسعينيّات من نفس القرن (1989)، استطاع بيار بورديو أن يجد لآرائه وأفكاره موطئ قدم راسخا، لا في الأوساط الأكاديميّة والفكريّة الفرنسيّة وحدها، بل أيضا في نظيراتها الأوروبيّة. فقد نشر عددا لا يستهان به من الكتب والمقالات بلور من خلالها أهمّ المقولات التي اشتهر بها، ونعني بذلك -على وجه الخصوص- مقولة "الحقول الاجتماعيّة" ومقولة "العنف الرمزي" ومقولة "التطبّع الاجتماعي". ورغم أهميّة هذه المقولات، ولا سيّما من جهة جمعها بين العمق النظريّ والنجاعة الإجرائيّة، فإنّ "الدولـة" - ظاهرةً ومسألةً - ظلّت غائبة عن مجال اهتمامه المعرفيّ المباشر، فهو "لم يكن يستخدم [لفظة "الدولة"...] إلاّ في أكثر معانيها شيوعا، كما في تعابير من نوع (دولة الرفاه) أو (الدولة الأمة)، من دون القيام بأدنى تحليل نقديّ" (ص.637)؛ أي أنّه كان مطمئنّا لدلالتها الشائعة ولمفهومها المتداول.

ولكنّ دروس 1989-1992 أتاحت له أن "يُعرّي الدولة" وأن يكشف عن أهمّ خاصيّة من خصائصها المميّزة وهي قدرتها على إحكام الطوق حول نفسها وإجادتها التحصّن والتخفّي لتصبح "شيئا ما" غامضا/واضحا في ذات الحين، "شيئا ما" هو خليط من التعالي المفهومي الضارب في التجريد والرمز، من ناحية، والدنوّ أو "التداني" المادي الموغل في العنف وسطوة السلطان، من ناحية أخرى. وفي المسافة الفاصلة بين هذين الحدّيْن المتناقضيْن في السطح، المتكامليْن في العمق، حدّ الرمز في تعاليه وحدّ القسر في ماديّته، يعترف بورديو - منذ مستهلّ الدرس الأوّل - بأنّ "الدولـة موضوع عصيّ على التفكير". ولكنّ استعصاءها ذاك هو ما مثّل بالنسبة إليه الحافز الحقيقي الداعي إلى وضعها موضع السؤال والاختبار من منظور علم الاجتماع، بعدما أُشبعت درسا وتنظيرا في سائر المجالات المعرفيّة الأخرى كالعلوم السياسية والقانون والفلسفة وغيرها.

وإلى صعوبة موضوع الدولة في ذاته، تُضاف صعوبة أخرى ذات طابع منهجيّ. فقد ألحّ بورديو على وجود مزلق خطير يمكن أن يقع فيه الجميع (يستوي في ذلك عامّة الناس وخاصّتهم)، وهو مزلق تبنّي المفاهيم التي تشيعها الدولة عن ذاتها. فليس أخطر على "فكرنا، بل هياكل وبنى وعينا الذي نبني عبره العالم الاجتماعي [من...] أن تكون منتجًا من منتوجات الدولة" (ص.17). فهل يعني هذا أنّ الانعتاق من "الدولة" ومن أسر المفاهيم التي لم تتوقّف عن إنتاجها وإعادة إنتاجها كفيل بأن نهتدي إلى كنهها الخفيّ/الجليّ، أم إنّ "الدولة" ستظلّ تُحكم طوقها على وعينا دون أمل في الخلاص؟

 

مهمّة شبه مستحيلة!

وبمثل تحذيره من خطر الانزلاق في تبنّي المفاهيم التي لم تنفكّ الدولة عن إنتاجها وإعادة إنتاجها في مسعى منها إلى "إقناع" الأفراد بذاتها، يحذّر بورديو أيضا من خطر الوقوع في الخطأ المقابل، خطأ التسليم بوجاهة خطابات اليساريّين بدءًا بكارل ماركس (1818-1883) وصولا إلى لوي ألتوسير (1918-1990) مرورا بأنطونيو غرامشي (1891-1937)؛ فجميع هؤلاء - حتّى وإن كانت خطاباتهم ثوريّة جذّابة - إنّما يؤكّدون بطريقة غير مباشرة وظائف الدولة من حيث يريدون نفيها، "بينما تتوارى، ويجري تغييب، مسألة وجود وفعل وصنيع ذلك الشيء الذي يشار إليه على أنه الدولة" (ص. 22).

وبين الوقوع في مزلق "تأليه الدولة" أو في المزلق المضادّ، مزلق "نزع القداسة" عنها بما يؤول - عكسيّاً - إلى مزيد الاعتراف بهيمنتها بل وإلى تكريس تلك الهيمنة، يتوقّف بورديو عند خطابات علماء الاجتماع قبله، ولا سيّما خطابات إيميل دوركهايم (1858-1917) وماكس فيبير (1864-1920)، فيستنتج أنّها ظلّت قاصرة، هي أيضا، عن إدراك "جوهر" الدولة لأنّها لم تنتبه إلاّ إلى "وظائفها الظاهرة" دون إدراك منها لما "يعتمل ويعمل" وراء تلك الوظائف.

وقد كان بورديو صريحاً في تأكيده دقّة المسار التحليلي النقدي الذي يريد أن يقود طلبته إليه حين صرّح بوضوح: "إنّ إحدى الصعوبات التي أعانيها [...] هي اضطراري إلى القول بلغة قديمة أو بكلام قديم بأنّ شيئا يسير في وجهة تعاكس هذه اللغة القديمة وما ورائيّتها، وحاجتي إلى أن أجرجر اللغة القديمة أو الكلام القديم مؤقّتا لأبدّد حمولته" (ص. 24). ولعلّ هذا الشاهد هو أبلغ تعبير عن الروح التي حرّكت دروس بورديو. فهو يقف من الأطروحات السائدة والسابقة موقف الاحتراز المفهومي والحذر المنهجيّ والمراجعة الاختباريّة، حتّى إنّ الأمر آل به إلى ما يشبه "استراتيجية الأرض المحروقة" فقد قوّض كلّ شيء، تقريبا، ممّا جعل حديثه عن الدولة أقرب إلى المهمّة المستحيلة. والدليل على ذلك أنّ الكتاب كان مليئا بلحظات التردّد، والخلاصات المؤقّتة، والانقطاعات، ومواقف النقض والإبرام، ممّا قد يدفع القارئ المتعجّل إلى أن يشعر بأنّه في متاهة حقيقيّة!

ولكنّ هذه المتاهة -على عكس ما نتصوّر- هي التي أكسبت العمل طابعه الاستثنائي ونكهته المميّزة. فبورديو لم يقدّم محاضراته بطريقة مدرسيّة جافّة جاهزة، ولم يكن هدفه أن يصوغ مفهوم الدولة صياغة نهائيّة جازمة أو أن يبلور حقيقة قطعيّة يمكن لعلماء الاجتماع أن يطمئنوا إليها وأن يسلّموا بها وأن يسارعوا إلى تطبيقها، بل إنّه اختار الطريق الأصعب عندما أخذ طلبته وقادهم عبر المسالك والمفاوز وجاب بهم ثنايا الظواهر والمذاهب، حتى إذا تأكّد أنّه وصل معهم إلى النقطة الحاسمة التي تلتقي عندها كلّ الأفكار قبل أن تتعرّج مجدّدا وتفترق، انسحب مفسحا لهم المجال لكي يقرّروا مصيرهم بأيديهم ويحدّدوا وجهتهم بما يمليه عليهم نضجهم الفكري وحريّتهم المسؤولة.

 

النتيجة والمسار...

وبفضل المنهج التفاعليّ المنفتح الذي اعتمده بورديو أثناء تقديمه لدروسه وإلقائه لمحاضراته ارتسمت وبشكل تدريجيّ ملامح مفهوميّة للدولة من منظور علم الاجتماع. وهي ملامح من أهمّ ما يميّزها أنّها تجمع بين حقيقتين تبدوان -إلى حدّ ما- متعارضتين. ولكنّ تعارضهما ذاك هو المدخل إلى تكاملهما الملتبس:

حقيقة، الدولة تبدو - في الظاهر- مجرّد "شيء ما" مستقل بأجهزته ومؤسّساته، منفصل عن الفاعلين الاجتماعيّين، بل متعالٍ عليهم. فهي تحكم الجميع وتتحكّم فيهم - رغما عنهم - بسلطة "العنف الرمزي المشروع". وهي سلطة تبدو -في تقدير بورديو- أشدّ وطأة ونفوذا ونفاذا من سلطة "العنف الماديّ المشروع" التي سبق لعالم الاجتماع الألماني، ماكس فيبير، أن نظّر لها في سياق تحليله لما سمّاه "مصادرة" الدولة عنف الأفراد واستئثارها به دونهم من أجل تسليطه عليهم باسم الشرعيّة والقانون.

وأمّا الحقيقة الثانية التي تكمّل - في العمق - سابقتها وتدعمها، فملخّصها أنّ الدولة بترسانة مؤسساتها وجحافل قوانينها وضوابط مراسيمها ومراسمها ليست منفصلة عن الفاعلين الاجتماعيّين تمام الانفصال؛ وهي ليست متعالية أو مسقطة عليهم، بل إنّهم هم أنفسهم الذين صاغوها وأعطوها أشكالها ومضامينها في سياق تفاعل الحقول الاجتماعيّة وتنازعها على بسط مجال السلطان، أو بالأحرى في سياق "تواطئها" على بسط ذلك المجال. وبهذا المعنى، فإنّ الدولة لا تحكم ولا تتحكّم "من تلقاء ذاتها" (على افتراض أنّها -حقّا - "ذات" منفصلة تمام الانفصال عن المجتمع) بل هي تحكم وتتحكّم بـمـحـض إرادة الفاعلين الاجتماعيّين أنفسهم؛ أو على أقلّ تقدير، في حدود إرادتهم تلك.

بمنتهى الحذر، وبعيدا عن أيّ ادّعاء معرفيّ قد يوقع صاحبه في الوثوقيّة وفي استباق النتائج التي تزعم أنّها قاطعة حاسمة ولكنّها في الحقيقة فارغة جامدة، أفسح بيار بورديو لنفسه مجال الحديث عن الدولة، وتحرّر من سلطة المكتوب وانخرط مع طلبته في استكشاف "مسألة الدولة" (أو بالأحرى "معضلة الدولة")، فقرأ تاريخ هذا "الشيء ما" قراءة نشوئيّة تكوينيّة - لا من زاوية المقولات النظريّة المجرّدة أو الصياغات القانونيّة التي غالبا ما تبقى "مجرّد حبر على ورق" بل في سياق تتبّع مظاهر تفاعل الحقول الاجتماعيّة. وإذا كان ثمّة درس علينا أن نستخلصه من دروسه الثلاثة والعشرين فهو بالتأكيد درس المنهج. فما يمكن أن يفيد طلبتنا العرب اليوم، ومستقبلا، ليس "مضمون النتائج" ولا "حصيلة الأبحاث"، بل "مـسـار الـحـدس" بها و"اقتناصها" في خضمّ الرأي السائد والموقف المستتب/المستبد. وهذا بالضبط ما يتنزّل ضمن أهداف القائمين على "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، وهم الذين يرومون "خدمة النهوض الفكريّ والتعليم الجامعيّ الأكاديميّ، والثقافة العربيّة بصورة عامّة".

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.