}
عروض

العلمانية في بريطانيا: فلاسفة ومثقفون أنجزوا بنيتها الأساسيّة

عمر شبانة

11 أكتوبر 2015
بعد مرور قرون عدّة على انطلاق أفكار وبذور العلمانية و"العلمنة"، ثم تحقُّقها شجرةً وارفة الظلال على أرض الواقع، في العالم عموماً، وفي أوروبا خصوصاً، وفي بريطانيا على نحو أشدّ خصوصية، هل نستطيع التحدّث، ولو بوَجَل وخجل، عن وجود و"تحقُّق" أي تجربة علمانية عربية؟ هل عرف الواقع العربيّ الإسلاميّ، في أي بلد من بلدانه، أيَّ شكل أو صورة من صور ومن أشكال العلمنة التي عرفها العالم المسيحيّ من خمسة قرون على الأقل؟

أسوق هذه التساؤلات المقارِنة، بين يدي تناول تجربة "العلمنة" في بريطانيا، كما يعرضها الباحث العراقيّ د. نهار محمد نوري "العلمانية البريطانية: دراسة في نشوء المفهوم وتطوره"، الصادر أخيراً. وأضيف سؤالاً جوهريّاً وجديراً بالدرس والاختبار عن مدى قدرتنا، نحن العرب المسلمين، وفي ظل الانهيارات التي تشهدها بلداننا، ولا أقول، دولُنا- فما زلنا بعيدين عن تحقيق "الدولة" حسب المفهوم الحديث- قدرتنا على إجراء اختبار المراجعة والنقد لميراثنا التاريخي، الفكريّ والديني، على نحو ما قامت به أوروبا المسيحية من مراجعة قادت، بعد قراءات وحروب دامية، إلى ما وصلت إليه من تقدُّم على الصعيد الفكري العقلانيّ، وما قامت على أساسه من البِنى الحديثة للدولة ومؤسساتها؟

مدهش لنا، نحن العرب المسلمين، دائماً، ما يظهر في كتاب نوري هذا من حجم المراجعات و"النقودات" والانتفاضات، العقلانية والتنويرية، التي قام بها مثقفو بريطانيا وعلماؤها لإجراء التغيير الجذري في العلاقة بين الدين ومؤسسات الحُكم، في ذلك البلد الذي حقّق، وعلى مدى قرون، مرتبة "إمبراطورية" لا تغرب عنها الشمس، واستطاعوا من خلالها تحقيق دولتهم العلمانية الديمقراطية، في تشريعاتها وقوانينها، كما انعكست في سلوكيّات الأفراد والجماعات فيها.

مع أنّ فكرة العلمانية موجودة عبر تاريخ الفكر البشريّ، إذ تعود جذور العلمانية إلى الفلسفة اليونانية القديمة لفلاسفة يونانيين أمثال إبيقور، وأنها خرجت بمفهومها الحديث، خلال عصر التنوير الأوروبي، على يد عدد من المفكرين، أمثال توماس جيفرسون وفولتير وسواهما، فقد جاءت الصياغة الأولى من بنات أفكار الإنجليزي جورج جاكوب هوليوك (1817- 1906) مفهوم العلمانية، في عام 1851، ليشرح، من خلاله، رؤيته لفصل النظام الاجتماعي عن الدين، من دون إهمال للمعتقد الديني أو انتقاد له.

ويؤكد هوليوك، بوصفه الـ"لاأدريّ"، أن "العلمانية ليست ضد المسيحية (والدين)، بل هي مستقلة عنها فقط، وأنها لا تحقّق في ادعاءات المسيحية، بل تقدّم ادّعاءات المسيحية، وأن العلمانية لا تنفي وجود نور أو هداية في أي مكان، لكنّها تصر على أنه يوجد نور وهداية في الحقيقة العلمانية..، وأن المعرفة العلمانية هي بكل وضوح ذلك النوع من المعرفة الموجودة في هذه الحياة، والمتّصلة بمسيرة هذه الحياة، والتي تفضي إلى الخير في هذه الحياة، وهي قابلة للفحص من خلال التجربة في هذه الحياة".

جاءت صياغة هوليوك لـ"علمانيته" وشروحاته عليها، بعد تراكم تجارب كثيرة من التفكير والمواجهة والصدامات بين ما يُعتقد أنه "مشاريع للتحديث" من جهة، وبين الكنيسة، وخصوصاً الإنغليكانية، من جهة مقابلة. وهنا تحضر أسماء عشرات من المفكرين والفلاسفة والمشتغلين في حقول الثقافة، المعروفين والمجهولين لدينا، ممن قدّموا بذوراً ومقترحات أساسية في هذا الإطار، لم يكن ممكناً من دونها وصول هوليوك إلى صياغته النهائية والراسخة، حتى اليوم، وجرى تداولها في ثقافات عالمية.

من الجذور التاريخية
هذا هو الاستنتاج الأوليّ الذي نخلص إليه من مقدمة كتاب الدكتور نهار، ومن الفصلين الأول والثاني منه، وحتى من مراجع ومصادر كثيرة أتيحت لنا فرصة الاطلاع عليها، والتي يشتمل الكتاب على كثير منها. إلا أن ما يشغلنا، هنا والآن، هو ما تضمّنته مسيرة البحث عن العلمانية وتحقيقها من تفاصيل، ومن وسائل وأساليب سلمية وعنيفة، للوصول إلى المستوى الذي بلغته. وهو ما نحاول عرضه وتناوله في هذه القراءة، عبر محطّات أساسية.

جاءت التوجهات والنزعات العلمانية في بريطانيا "كحصيلة معرفية متراكمة عبر مراحل زمنية عدة، وكان أبرزها مظاهر نمو التشكيك العقلي عند النخبة الثقافية، بالضدّ من الكيان الدينيّ القائم، وهدفت هذه النخبة تحقيق غايتها الممثلة في تنبيه الأذهان، ومحاولة تغيير المجتمع من مجتمع ديني تقليدي إلى مجتمع علماني مدني..".

فالجذور التاريخية للنزعة العلمانية البريطانية، تبدو في المرتكزات الأولى بين عامَي 1593-1837، وبدءاً من الكتابات النقدية العقلانية للكتاب المقدّس، عبر ما كتبه ريتشارد هوكر عام 1593 عن "الحكومة الإكليركية"، و"مأزق الإيمان الديني في بواكير عصر النقد العقلي (الذي) كان قد وضع على المحكّ على يد جون درايدن، حينما كتب في مؤلَّفه "قصائد دينية" عام 1682: كيف يصل العقل المحدود إلى المطلق؟ ولأجل ماذا يُفهم الرب لأكثر مما هو؟"، ثم الخلاصة اللاهوتية الكبرى للقديس توماس الأكويني واستنتاجاته من الفرضيات الأرسطوطاليسية "في ميتافيزيقيا الشخصية والخلق والعناية الإلهية"، ومعرفة الرب عن طريق العقل المجرد لا الوحي.. ثم أفكار ديكارت وجون لوك، وفرنسيس بيكون وإسحاق نيوتن، ومنهج البحث العلمي بالملاحظة والاستقراء وكشف قوانين الكون الفيزيائية..الخ.

الفلسفة المدرسية والخرافة
في محطة بارزة، وفي خطوة جريئة منه، عمل توماس هوبز في كتابه "الوحش= اللوياثان"، على تحجيم دور المؤسسات الدينية، لمصلحة سلطة الدولة وسيادتها، بالدعوة إلى تفكيك المدارس الدينية وإعطاء بعد علمي رصين للمجتمع، وبهدم الفلسفة المدرسية المسؤولة عن إشاعة الخرافة، ثم بكشف أثر هذه الفلسفة في إضعاف سلطة الدولة. في حين أن جون لوك كان يعدّ التسامح فضيلة مدنية لحماية حقوق الأفراد في المجتمع، وظلّ يؤكد الرؤية العلمانية للحفاظ على حق الفرد وحريته في الاعتقاد والاختلاف، كما رأى ضرورة الفصل والتمييز بين عمل الحكومة المدنية والمؤسسات الدينية.

وفيما "استمر التوجّه العام بالنقد للكتاب المقدس مدة قرن ونيّف"، أشار توماس هوبز في كتابه "الوحش"، إلى أن "موسى لم يكن بمقدوره كتابة الجزء المتعلق بسفر التثنية الذي أقرّ أن مكان قبر موسى ما زال مجهولاً لحد يومنا هذا، مثلما أثار عدداً من الملاحظات المماثلة بشأن تواريخ الأسفار المتباينة في العهد القديم".

وإلى ذلك، أثّرت المكتشفات الجيولوجية والفلسفة المادية في زعزعة الفكر الديني التقليدي، ففي عام 1690، وأمام تأكيدات رئيس الأساقفة، جيمس آشر، أن "خلق الكون حدث تحديداً عام 4004 قبل الميلاد"، يكتب توماس بيرنت "إنه لشيء خطر إقحام أحكام الكتاب المقدّس بنزاعات العالم الطبيعيّ"، بينما جيمس هتن الأسكتلندي يرى أنه "لا أثر للبداية، ولا توقّع للنهاية"، وثمّة أفكار اسبينوزا عن وحدة الوجود الباطنية، وكتابات الراديكالي، توماس بِين، عن "الربّ الخالق، وعن قوانين الطبيعة، وعن فظاعات وخرافات الكتاب المقدس التي قادت البشر إلى الوحشية"، وما قاله كريستوفر وايفل عن تأثير "السيد بين.. إنهاض الطبقات الدنيا.." ص 89، انتشار "الأدب الراديكالي".. مطاردات جمعية "الوحش الأخضر" من ربيع 1795 حتى عام 1797.

الأديان و"حيونة" الإنسان
وبخصوص الاتجاهات والمظاهر العلمانية المتحقّقة منذ مطلع العصر الفكتوري عام 1837 ولغاية تأسيس الجمعية العلمانية الوطنية عام 1866، ونشوء المفهوم والحركة العلمانية ونتائجها، فقد كان للتقليد "الأويني (روبرت أوين 1771 - 1858)، ومقولاته ضد الأديان "وما ارتكبته من أخطاء وأنظمة، جعلت من الإنسان حيواناً معتوهاً أو متعصباً عنيفاً أو منافقاً بائساً"، والإرث الفكري العقلاني من عصر التنوير، وتطوير مخططات حول "تكوين الخلق البشري، والاشتراكية الراديكالية، كل هذه العناصر كان لها أثرها على الدين في المجتمع الفكتوري، إذ "أدى تنامي الطروحات والأفكار الاشتراكية الراديكالية في بريطانيا إلى تعزيز الرؤى العلمانية، وكان أحد أوجه تلك الطروحات يتمثّل في المشاريع التعاونية التي تناولت في بنائها الوظيفي تعزيز روح التعاون، والاعتماد على الاكتفاء الذاتي في تطبيقاتها العملية، وفقاً لمشاريع مستوطنات ومجتمعات وقف وراءها رواد أوائل أسهموا في خلق هذه المشاريع".

وفي هذا السياق، لا ننسى مساهمة واحد من أبرز شعراء ذلك العصر، وهو بيرسي شيلي في ديوانه "الملكة ماب"، الذي كان عبارة عن نقد للأوضاع القائمة آنذاك. وفيه نقد لاذع لمؤسسة الزواج وعلاقتها بالبغاء، من خلال العلاقة بين سوء توزيع الثروة والبغاء، حيث يقول شيلي في الجزء الخامس من "الملكة ماب"‏: التجارة رسمت وسم الأنانية، ميسم قوتها الذي يستعبد الجميع‏/ ذاك المعدن البراق -الذهب - أمام جبروته يسجد العظام الأذلاء، والموسرون الضعفاء، والمتكبرون البؤساء.

وفي حاشية كتبها على قصيدته "الملكة ماب"، يورد "إن شغفنا بالمعادن الثمينة وما يجره ذلك الشغف من انقسام الأمة إلى فقراء وأغنياء، وما ينشأ عن ذلك من ضرر اجتماعي، فالبغاء مثلاً نتيجة نظام الزواج الخاضع لقوانين جائرة قامت لتخدم المجتمع التجاري الذي يربط ما بين الرجل والمرأة كونها سلعة".

أخيراً، ومن بين ما اعتبره العلمانيون البريطانيون إنجازاً لعلمانيّتهم، الاستجابة الإصلاحية الأولى للرؤى العلمانية، من خلال السماح بدخول اليهود البرلمان البريطاني عام 1858، وتقليص ما كان يدعى بالعوائق الدينية: فمسألة التحرير اليهودي، ترتبط بالنظر إلى اليهود من زاويتين، دينية تتمثل في رفضهم اعتبار المسيح هو المخلّص، وقومية تقوم على أساس أن أسلافهم صلبوا المسيح، وأن القومية اليهودية المنفردة ودينهم يمنع المصاهرة مع المسيحيين. من هنا جاء "مرسوم إنصاف الآراء الدينية" 1846 مخصصاً في "مرسوم إنصاف اليهود".

(كاتب وشاعر أردني)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.