}

سورياليّة بول ديلفو المغبونة: من فينوس لمحطّات القطارات القديمة

عماد فؤاد 9 يناير 2020
تشكيل سورياليّة بول ديلفو المغبونة: من فينوس لمحطّات القطارات القديمة
المعرض الاستعادي الضخم اكتشف اسم بول ديلفو من جديد
عرفت بلجيكا اثنين من كبار السّورياليين وأكثرهم خصوصية وتميّزاً، كان أحدهما واثقاً من نفسه عنيداً في عمله فحقّق الشّهرة التي أراد، وكان الآخر أكثر ميلاً إلى العزلة، فغاب اسمه خلف ركام من الإهمال النّقدي لتنحسر شهرته إلّا على المتخصّصين. عاش الأول 69 عاماً، لكنّه صنع من اسم رينيه ماغريت (1898 - 1967) بصمة عالمية منذ انطلاقته القويّة مع الحركة السّوريالية في عشرينيّات القرن الماضي. فيما عاش الثّاني 97 عاماً دون أن يجعل من اسم بول ديلفو (1897 - 1994) ندّاً لمواطنه. حفرت لوحات الأوّل طريقها سريعاً إلى العالميّة، فيما بقيت لوحات الثّاني أقلّ شهرة وأدنى حظّاً. واليوم، بعد مرور 25 عاماً على رحيله، تعيد بلجيكا اكتشاف فنانها السّوريالي المغبون بول ديلفو، الذي ما إن اقترب من تجمّعات السّورياليين حتى ابتعد عنها، مُكتفياً بعزلته ولوحاته التي يعاد اكتشافها اليوم من جديد.

بعد نصف قرن من رحيله، تنظّم بلجيكا عبر متحفها الفريد للسّكك الحديدية ببروكسل، معرضاً استعادياً ضخماً لأعمال بول ديلفو تحت عنوان "الرّجل الذي أحبّ القطارات"، ويستمرّ حتى منتصف آذار/مارس المقبل، متضمّناً 50 لوحة تبرز أهمية ديلفو في الحركة السّوريالية العالمية، وهو ما دعا المتحف إلى أن يعرض عدداً من لوحات المعرض في محطّات بروكسل الرئيسية، المدينة التي عرفت بول ديلفو في شبابه وهو يرسم شوارعها ومحطّاتها أثناء دراسته بأكاديمية الفنون الجميلة أوائل عشرينيات القرن الماضي.
يشعر المشاهد منذ اللحظة الأولى بالأجواء السّحرية التي خلقها وجود لوحات ديلفو معروضة وسط عربات المتحف وقطاراته العتيقة، وشكّلت الهندسة المعمارية القويّة للمبنى فضاءً مناسباً لعرض اللوحات، حتى لنشعر ونحن نشاهدها وكأنّنا نقف على الرّصيف ذاته الذي رسمه الفنان. فولع ديلفو الغامض برسم محطّات القطارات بدأ منذ دروسه الأولى بأكاديمية الفنون، ومن الصّعب اليوم استحضار عالم ديلفو السّوريالي دون الرّجوع إلى قطاراته العتيقة وجسوره وعرباته البخارية، ففي هذه اللوحات تحديداً يكشف لنا ديلفو عن خصوصيته الفريدة في الحركة السّوريالية، ألا وهي مزجه الغريب بين واقعيته الشّديدة وخيالاته التي لا تحدّ، دون أن تترك ريشته أيّ تفصيلة أو خطّ أو ضربة لون للمصادفة، كان ديلفو شديد العناية بتوزيع مفردات لوحته بدقّة واضعاً مقاييسها وأبعادها، قبل أن يبدأ تنفيذها بتعمّق مخرج مسرحي، وكان يحتفظ بمجسّمات لطرز القطارات القديمة منذ فترة طفولته، كما حرص على امتلاك عدد كبير من الهياكل العظميّة والجماجم بمرسمه ليعيد تكوينها في عشرات اللوحات التي يدعونا معرضه الاستعادي هذا لاكتشافها مرّة أخرى.

اليوم، بعد مرور 25 عاماً على رحيله، تعيد بلجيكا اكتشاف فنانها السّوريالي المغبون بول ديلفو


















تربية صارمة
ولد بول ديلفو في 23 أيلول/سبتمبر 1897، بداية العصر الصّناعي الجديد، عصر الخيال والاختراع والسّفر بالقطارات البخاريّة التي تتغذّى على الفحم الأسود، وفُتن الصّبي منذ صغره بمحطّات القطارات والتّرام العتيقة، لكن شغفه الكبير بالخيال بدأ منذ اطّلاعه على رحلة جول فيرن (1828 – 1905) إلى مركز الأرض، كانت هذه الرّواية الخياليّة التي قرأها ديلفو في سنوات اكتشافه الأوّل للعالم، برسومها البديعة التي نفّذها إدوارد ريو، هي المحرّك الأول له على الغوص عميقاً في عالم الأساطير، لكن سرعان ما يصطدم الصّبي بأسرته المتزمّتة التي تحضّه على دراسة الهندسة، أو على الأقلّ دراسة القانون ليكون محامياً مثل والده، فشرع ديلفو في التّعليم الكلاسيكي مُرغماً، إلى أن عثر على ضالته في كتب التّاريخ والخرافات. وحين اطّلع على أساطير اليونان القديمة، وخاصّة قصّة أوديسيوس، استذكر ديلفو هواجس طفولته من الهيكل العظمي الذي كان مُنتصباً على الدّوام في غرفة الموسيقى بمدرسته. غذّى هذا الهيكل العظمي خيالات ديلفو على مدى سنواته الأولى، وها نحن نراه متواجداً بقوّة في لوحاته التي رسمها فيما بعد، في اشتباك واضح مع أعمال مواطنه جيمس إنسور (1860 - 1949)، الذي أولع هو الآخر برسم الهياكل العظمية، هذا الاهتمام باستدعاء مخاوف طفولته وخيالاته آنذاك فسّره ديلفو ذات مرّة قائلاً: "تبقى الانطباعات المبكّرة التي اكتشفناها ومررنا بها في طفولتنا، هي الشيء الحقيقي والأكثر تأثيراً في تكوين ما سنصبح عليه لاحقاً".
درس بول ديلفو الفن بالأكاديمية البلجيكية للفنون الجميلة في بروكسل منذ 1920 إلى 1924، كانت عائلته في تلك الفترة تضغط عليه لدراسة الهندسة المعمارية، لكنّه التحق بورشة الرّسم التي كان ينظّمها الفنان البلجيكي كونستانت مونتالد. وهناك تعلّم رسم المناظر الطّبيعية في الغابات المحيطة بضواحي العاصمة. وباستدعاء هذه الفترة من حياته لاحقاً، كان ديلفو يعتبرها المرحلة التي أسّسته كفنان، ورغم تأثّره السّريع بالعديد من الرّسامين البلجيكيّين والأوروبيّين آنذاك، إلا أنّه سرعان ما بدأ يدمج العراة بالمناظر الطّبيعية التي كان يرسمها للغابات، كان ذلك أوائل 1930، الفترة التي أُجبر فيها ديلفو من قبل والدته الصّارمة على قطع علاقته بـ"آن ماري دي مارتيلير"، الفتاة التي أحبّها والتي ظلّ يستدعيها في لوحاته حتى بعد زواجه التّعس بامرأة لم يحبها أبداً.

يشعر المشاهد منذ اللحظة الأولى بالأجواء السّحرية التي خلقها وجود لوحات ديلفو معروضة وسط عربات المتحف وقطاراته العتيقة


















اكتشاف السّوريالية
شاهد ديلفو معرض الحركة السّوريالية عام 1934، واشتعلت حينها شرارة الخيال والأساطير من جديد في روحه، وبدأ ينظر أبعد من الإطار الأكاديمي للفن، وجاءت مقولات أندريه بريتون (1896 - 1966) مؤسّس السّوريالية لتشكّل بوصلة له في ذلك الوقت إلى عالم الأحلام والرّؤى الخياليّة، وبدأ اهتمام ديلفو برغبات ومخاوف طفولته يظهر في عالمه التّشكيلي ويتجسّد على قماش لوحته، فرأينا عارياته يظهرن في الغابات كأنّهن مُنوّمات مغناطيسيّاً أو سائرات أثناء نومهنّ، شاحبات وشمعيّات ولهنّ بَشرة جليديّة، فيما تظهر لنا الهياكل العظميّة في لوحاته واقفة أو منحنية أو مضطجعة، كما لو كانت لا تزال تمارس حياتها التي كانت. هذا التّناقض بين فكرتي الموت والحياة في أعمال ديلفو ترسّخ أكثر فأكثر في لوحاته عن عالم القطارات، فبعدما زار إيطاليا بين عامي 1937 و1939، بدأ يُدخل إلى عالمه المعمار الهندسي الفريد لبنايات فلورنسا وروما، مقترباً في ذلك من أعمال الإيطالي جورجيو دي شيريكو (1888 - 1978)، فنان كبير آخر ترك في نفس ديلفو أثراً لم يمح منذ تعرّفه على أعماله للمرّة الأولى عام 1934، خاصة لوحته الشهيرة "حنين اللانهائي" التي رسمها دي شيريكو عام 1913. وبفضل استخدامه الفريد للضّوء، أوضح ديلفو التّناقض الصّارخ بين عناصر العمارة والجسد البشري في مشهد طبيعي واحد لكنّه غير ممكن: فأحجار المحطّات والبيوت والمعابد غير الحيّة تتجاور وأجساد عارياته اللاتي نراهنّ شاحبات، كما لو كنّ حوريات أو موتى ولسن نساء حقيقيّات.
في أواخر الثّلاثينيات، بدأ ديلفو استخدام تقنيّات الحركة السّوريالية التي أطلقوا عليها "الصّدمة الشّعرية"، هذه التّقنية التي استخدمها السّورياليّون لإنشاء كولاج من قصائد مجمّعة، في محاولة لإعادة صياغتها شِعرياً وتكوينها من جديد. سعى ديلفو لإيجاد معادل بصري لهذه الطّريقة من خلال المزج بين الأشكال والموضوعات والأفكار التي لا علاقة ظاهرية بينها في لوحاته، وهو الأسلوب الذي أثنى عليه أندريه بريتون لاحقاً. وفي عام 1936 وصل عمل ديلفو إلى جمهور أوسع عندما عرض أعماله إلى جوار لوحات مواطنه رينيه ماغريت في بروكسل، وكان ماغريت حينها أكثر قرباً من دائرة بريتون والسّورياليّين في باريس. وقتها أعلن ديلفو أنّه لا يهتمّ بأفكار التّحليل النّفسي التي قادها فرويد عن الأحلام، وسار خلفها السّورياليون الكبار مثل سلفادور دالي (1904 – 1989) ورينيه ماغريت وغيرهما، وصرّح أنّه لم يرسم أحلامه على نهج السّورياليين، بل "حاولت أن أسجّل الواقع كما أراه لأجعل منه نوعاً آخر من الحلم". وعلى الرغم من إبقاء ديلفو علاقاته المهنية والشخصية جيّدة مع العديد من السورياليين، إلا أنه ظلّ مستقلاً ولم يعتبر نفسه سوريالياً إلّا في انطلاقته.

منزله في بروكسل، المكان الذي تحوّل الآن إلى متحف ومؤسّسة فنّية تحمل اسمه


















سخرية ماغريت

ومن جانبه لم يبخل ماغريت بسخريته المعلنة من خلفية ديلفو "البرجوازية"، بل ادّعى أن ديلفو اشتهر فقط بسبب كثرة العاريات في لوحاته، وزاد ماغريت من حدّة انتقاداته لعرايا ديلفو قائلاً إنهنّ "متطابقات، بل وتكاد تكون المرأة نفسها بذات الوضعية في الوقوف". اعتبر ماغريت أن عرايا ديلفو مغريات لكنّهنّ بعيدات وغامضات وبلا روح. ومن جانبه أوضح ديلفو أن مصدر إلهامه في رسم العاريات جاء منذ شاهد نحتاً بالشّمع الأبيض لفينوس النّائمة بأحد المعارض الفنّية في بروكسل أوائل العشرينيّات، وهو التّبرير الذي رآه النّقاد منطقياً بالنّظر إلى أن غالبية عرايا ديلفو يملكن الشّحوب الشّمعي الأقرب إلى فكرة الموت منه إلى الحياة، حتى في لوحات ديلفو عن القطارات ومحطّاته الليليّة، نرى أشخاصاً شاردين على أرصفة شبه مهجورة كأنّهم ينتظرون أناساً لا يصلون أبداً، كان ديلفو قد عزّز أعماله منذ الأربعينيات بفكرة "الصّدمة الشّعرية" عن طريق إدخال رجال يرتدون البزّات الكاملة والقبّعات إلى جوار عارياته، وهو ملمح آخر في الاشتباك بين ديلفو ومواطنه ماغريت، الذي سبقه في توظيف رجال القبّعات في لوحاته، لكن رجال ديلفو لم يختلفوا كثيراً عن عارياته، للدّرجة التي يشعر المشاهد معها بأنّ وجودهم يبدو طارئاً على المشهد، عيونهم غير واضحة ويسيرون منعزلين، ما يمكن اعتباره انعكاساً لحياة الفنّان المضطربة وانعزاله عن الآخرين آنذاك، حينها كان ديلفو يكافح للفكاك من زواج فاشل، وكانت بلجيكا بحلول 1940 قد سقطت بشكل كامل تحت الاحتلال النّازي، وهرباً من مواجهة كلّ هذا الخراب، غرق ديلفو  في عزلته ولوحاته.
ما إن انتهت الحرب حتى بدأت الشّمس تشرق من جديد على حياة ديلفو لتوقظها من سباتها الطّويل، خاصّة بعدما التقى من جديد بحبّه الأول آن ماري دي مارتيلير، التي أجبرته أمّه من قبل على الانفصال عنها والزّواج بغيرها. هنا أظهر ديلفو تمرّده الأكبر على حياته كلّها فطلّق زوجته وتزوّج آن ماري، لتتحوّل لوحاته إلى اتجاه أكثر سحرية في احتفائها بالخيالات والأساطير، فصارت الهياكل العظميّة أكثر حياة من عارياته، وعاد ولعه بعالم التّرام والقطارات القديمة حتى لُقّب بـ"رسام المحطّات". ولم يتوقّف ديلفو عن الرّسم إلا في سنواته الأخيرة، حين كلّ بصره وثقلت الرّيشة بين أصابعه المرتعشة، عندها ترك الرّسم واكتفى بملذّات الحياة البسيطة، وعلى رأسها كأس النّبيذ ظهيرة كّل يوم بحديقة منزله في بروكسل، المكان الذي تحوّل الآن إلى متحف ومؤسّسة فنّية تحمل اسمه.
اليوم، وبعد مرور 25 عاماً على رحيله عن عالمنا ليلة 20 تموز/يوليو 1994، يدعونا هذا المعرض الاستعادي الضخم إلى اكتشاف اسم بول ديلفو من جديد، السّوريالي المغبون الذي لم يتمّ إنصافه كما يستحق.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.