}

آنا كارينا.. ماذا يفعل الجمال بنفسه؟

أريج جمال 5 يناير 2020
سينما آنا كارينا.. ماذا يفعل الجمال بنفسه؟
آنّا كارينا.. نجمة كبيرة حققت مكانتها ببطء
قبل أيام ودّعت آنّا كارينا عالمنا، لكن سيرتها الذاتية على موقع قاعدة الأفلام العالمية Imdb ما زالت موصوفة بالفعل المضارع كأنها ما زالت على قيد الحياة، وفقاً للموقع "تعيش آنا حالياً مع زوجها الأخير دنيس بيري". رحلت آنا كارينا في لحظة تشتعل فيها مناطق مختلفة من العالم بالتظاهرات والاحتجاجات. تعم الإضرابات فرنسا، تزدحم الشوارع التي كانت تتجول بينها "آنا" في أفلامها، تزدحم وتتعطل مواصلاتها، ويشعر المارّة، أولئك الذين كانوا يبتسمون أحياناً لآنا أو يقفون لتأمل جمالها الخاص، بالغضب وبالقلق من المستقبل.

يبدو أن اللحظة الحالية غير مناسبة للالتفات لموت آنّا كارينا، النجمة الكبيرة التي حققت مكانتها ببطء، واستسلمت لموجات الحياة الصاعدة أحياناً، الهابطة في الكثير من الأحيان، دون عنف.



البدايات
في الدنمارك ولدت آن كارين يوم 22 أيلول/سبتمبر من العام 1940، لأم تعمل كمصممة أزياء لممثلي المسرح، وأب سرعان ما هجر الأسرة الصغيرة بعد ميلاد الطفلة. لم تستطع الأم أن تقدم لابنتها ما تحتاجه من الحنان والرعاية، مبكراً أخبرتها أنها إذا كانت تريد أن تعيش مثل الناس فعليها أن تعمل وتتكفل بنفقاتها. تنقلت آن بين عدة وظائف منها بائعة في محل، كان عمرها أربعة عشر عاماً عندما مثلت أول أفلامها في الدنمارك. بعمر السابعة عشرة بدأت آن تحس أن الحياة بهذا الشكل لا يمكن أن تستمر، فغادرت إلى باريس على أمل أن تحصل على وظيفة بدخل أفضل.
هناك أصبحت "موديل" لمجلات الموضة، تعرض الأزياء ويلتقط المُصورون لها الصور. وبينما كانت ذات يوم تنتظر في جريدة Elle التقت مصممة الأزياء الشهيرة كوكو شانيل، سألتها كوكو: "ما اسمك؟" دون أن تعرف مَن هي هذه المرأة أجابت آن باسمها، هكذا ردت كوكو: "بل آنّا كارينا، هذا أسهل هنا في باريس".
بعد ذلك التقت المخرج الفرنسي الشهير جان لوك جودار، الذي كان يُحضر لفيلمه الأول "حتى آخر نفس" Au bout de souffle، وعرض عليها أن تمثل في الفيلم، لكنهما لم يصلا إلى اتفاق لأن الفيلم تضمن مشهداً تظهر فيه عارية. قال لها جودار: إذا لم يكن بإمكانكِ القيام بهذا المشهد فغادري. وهذا ما فعلته بالضبط. بعدها سيطلب منها جودار أن تشارك في فيلمه الثاني "الجندي الصغير" Le petit soldat الذي عُرض في العام 1960. تسأله آنا مجدداً، إذا كان عليها أن تتعرى في أي مشهد، ويطمئنها جودار بأن الفيلم سياسي. تتصل آنا بوالدتها في الدنمارك طالبة منها أن تحضر إلى باريس، كي توقع عقد الفيلم، لأنها كانت قاصراً (17 عاماَ) وغير مسموح لها أن توقع على العقود.
يحكي الفيلم قصة عميل سري لا وقت لديه لرؤية النساء لكنه حين يلتقي فيرونيكا، وتلعبها آنا كارينا، ينجذب إلى جمالها على الفور. في الواقع يحدث شيء من هذا، فبعد وقت قليل من فيلم "الجندي" يعرض جودار على آنا الزواج. يبدو أنه قد انجذب إلى سحر آنا كارينا، كما انجذب بطله لسحر فيرونيكا، وبدأ يتخيلها كنجمة لأفلامه. جسد آنا كارينا، ملامحها الجميلة التي لا يفارقها الحزن، لطفها وخفتها، لكنتها الفرنسية التي لها وقع غريب لأنها ليست لغتها الأم، استغل جودار كل هذه التفاصيل لصناعة لغته الجمالية الخاصة في الأفلام، فآنذاك كان هو أيضاً يبدأ مشواره السينمائي الذي يبدو كمحاولة تمرد على السينما الأميركية من جهة، ومحاولة للعثور على صوته الخاص من جهة ثانية.

 كارينا في فيلم "الراهبة"


















أفلام الموجة الجديدة
في العام 1961، يعرض جودار فيلمه الثاني مع آنا كارينا وهو "المرأة هي المرأة" Une femme est une femme. وتحصل آنا على جائزة أفضل ممثلة من مهرجان برلين. يكتب أعضاء اللجنة حيثيات منح الجائزة لآنا أنها "اكتشاف لشخصية واعدة تمتلك فتنة نادراً ما توجد عند ممثلة صاعدة". في هذا الفيلم تلعب دور "آنجيلا" راقصة فيما يشبه الملهى الليلي، تُغني وترقص وتتوجه إلى الكاميرا بالغواية، على هذه الصورة يُقدمها جودار الذي يريد الحرية كاملة لا أقل، يدخل بطلا هذا الفيلم في صراع خفيف، يبتعد كل منهما عن الآخر، يبحثان عن الحب عند آخرين، لكنهما يعودان في النهاية لاستئناف العلاقة.
لا بد أنه من المخل محاولة رواية قصة هذا الفيلم، أو غيره من أفلام جودار، لأن سرديتها ترتبط أساساً بالكادر وتكوينه، وقبل كل شيء برغبته المستمرة في التجريب. ذلك التجريب يمكن اعتباره أهم ما قدمه جودار كمخرج ضمن مخرجي ما يعرف "بالموجة الجديدة الفرنسية" لعالم صناعة الأفلام، ما كان له تأثير مباشر على صناع سينما أميركيين منهم تارانتينو الذي يقول إنه تعلم من جودار أهمية "كسر القواعد".
في "المرأة هي المرأة" يمكننا أن نلمس تأثير آنا كامرأة أو كأنثى على جودار الرجل المفتون. وبالتبعية على جمهور من الرجال المفتونين بسحرها، كما كتب أعضاء لجنة التحكيم في مهرجان برلين. باختصار ستصبح آنّا أحد أجمل الوجوه المُعبرة عن سينما الموجة الفرنسية الجديدة، أكثرها جاذبية sexy la plus وسيشكلان معاً (كارينا- جودار) ثنائياً في العمل تقريباً طوال سبعة أفلام، وحتى انفصالهما بعد فيلمهما الأخير معاَ "بيرو المجنون"pierrot le feu   1965.
بعد جودار، عملت آنا مع مخرجين كبار آخرين فشاركت في "الراهبة" La religieuse 1966 مع جاك ريفيت، الذي أدت فيه دور امرأة تتعرض للقهر من أسرتها ثم لاحقاً من الكنيسة، وظهر في هذا الفيلم البُعد الدرامي من أدائها أكثر من الإغواء. مُنع الفيلم من العرض العام في فرنسا لحساسية موضوعه، ولم يُعرض إلا مطلع هذا العام في أميركا. كما تعاملت مع المخرج الإيطالي الشهير لوتشينو فيسكونتي في فيلمه " الغريب" L'Etranger عام 1967، المأخوذ عن رواية الكاتب الفرنسي الشهير ألبير كامو. وكانت محبوبة إلى حد أن كُتب لها خصيصاً سيناريو فيلم "آنا" Anna عام 1967 أو المعروف بالإنكليزية Roller Girl، من إخراج بيير كورلنيك، وفيه تُغني وترقص بشكل عصري على طريقة الأفلام الأميركية البسيطة، وحقق هذا الفيلم التلفزيوني نجاحاً أسطورياً في فرنسا، وفي العام 2017 احتُفل بمرور خمسين عاماً على صدوره.

  مع  جودار


















أن تعيش حياتها
في حياتها الشخصية لم تكن آنا كارينا سعيدة بشكل مماثل لسعادتها في الأفلام. ظلت التراجيديا التي عاشتها في طفولتها تؤثر عليها. تقلبت بين عدة أزواج. كانت تظل لفترات طويلة بلا عمل، ما كان يُعيد إليها مخاوفها القديمة من الفقر. في حوارها مع قناة RTS الفرنسية عام 1968 قالت: "سيكون من النفاق أن أقول إني لا أحتاج إلى المال، أنا لم أولد في قصر". كانت تضحك بين كل إجابة وأخرى، بالرغم من الحزن الذي يطغى على ملامحها. اعترفت كذلك أنها ابنة الحظ: "لقد حصلتُ على فرصة كبيرة بمشاركتي في فيلم المرأة هي المرأة، كنت محظوظة جداً في عملي". وتبدو متسامحة مع أنها لم تكن نجمة النجوم في فرنسا فتقول "أتمنى أن أواصل عملي لثلاثين عاماً، هذا أفضل من أعيش كنجمة النجوم لثلاثة أعوام ثم أنتهي".
اعترفت آنّا كذلك أنها لا تستطيع أن تعيش بلا شخص يحدد لها مسارها. وقالت صراحة "أحتاج إلى رجل يوجهني"، ما يفسر إلى حد ما ارتباطها بالمخرجين تحديداً.
في عام 1962 قدمت آنا كارينا مع جودار فيلم "أن تعيش حياتها". بالتدريج تتحول نانا بطلة الفيلم من فتاة جميلة تريد أن تصبح ممثلة إلى عاملة جنس، تبيع جسدها الجميل هذا، ترقص وتغني هذه المرة من أجل أن تجد الزبائن وتموت في النهاية بطلقة رصاص طائشة تثير الذعر عن مصير الجمال في هذا العالم الذي يمتلئ بالأسلحة والدمار والكراهية.


"كليو من 5 إلى 7"
في العام نفسه قدمت المخرجة الفرنسية الشهيرة آنييس فردا (وتنتمي أيضاً إلى الموجة الفرنسية الجديدة) فيلمها "كليو من 5 إلى 7". على العكس من جودار، كانت لآنييس رؤية مختلفة للسينما عن تلك التي كانت لجودار. بدأت آنييس عملها الفني كمصورة فوتوغرافية، كوّنت حساسية خاصة تجاه الأجساد، وكانت تحاول دائماً أن تستشف القصص وراء الصور العادية. في هذا الفيلم، وعلى الرغم من أن آنا كارينا لا تظهر فيه سوى كضيفة شرف، يمكننا أن نقرأ حكاية كارينا بشكل مختلف.

يروي الفيلم قصة كليو، وهي مُغنية ناجحة جداً في باريس، أغانيها خفيفة ولطيفة على كل لسان. الأهم من ذلك أنها جميلة جداً، وربما تكون هذه هي المشكلة. يتتبع الفيلم فصلاً من حياة كليو خلال ساعتين من الساعة الخامسة إلى السابعة، وبرغم هذا التكثيف الزمني، فإن الفيلم يعطينا معظم الحقائق المُهمة عنها. في الواقع تنتظر كليو نتيجة كشف طبي ليثبت أو لينفي إصابتها بمرض السرطان.
طوال الفيلم تتشكك كليو في موهبتها، يقول الآخرون عنها إنها جميلة فقط. هذا ما يجذب الجميع إليها. يدفعها الشك إلى رفض أداء الأغنيات التي يمكننا أن نسميها "الأغنيات الكبيرة"، فهي ليست إيديت بياف التي لا تتمتع بالجمال الشكلي لكن بالتأكيد بالموهبة. في حياتها الشخصية لا تحصل على العطف الذي تتمناه. فالرجال يمنحونها ما تبقى من وقتهم الثمين الذي يقضونه في العمل. برغم اقترابها من الموت لا تنشغل كليو سوى بفكرة واحدة هي كيف تبقى جميلة، إلى حد أنها تصبح سجينة تماماً لهذا السعي. تشكو كليو لخادمتها: "الكل يُدللني، لا أحد يُحبني". إنها على استعداد للذهاب مع جندي بسيط عائد من الحرب، يستطيع أن يقدم لها عطفاً حقيقياً. في مشهد دال من الفيلم تقول كليو لصديقتها: "من الجيد أن السرطان أصابني في معدتي، مكان لن يراه أحد".
تحكي آنييس عن باريس، لكن أيضاً عن النساء عندما يكن نجمات مثيرات وجذابات، ألا يُنظر دائماً لجمال الممثلات قبل أي شيء، ألا تحب الكاميرا أساساً الوجه الجميل؟ لكن ما هي الحياة التي يعيشها ذلك الجمال نفسه؟ أو كيف تعيش على أرض الواقع النجمة الجميلة بعيداً عن الأضواء؟ من المثير للاهتمام أن آنا كارينا قد ماتت في الواقع بعد إصابتها بالسرطان، كما حدث لكليو في الفيلم.

الأعوام الأخيرة
ربما أن آنّا كارينا لم تنشغل بهذه الرؤية العميقة أو النسوية لحياتها التي انشغلت بها آنييس فردا. وقد يكون من الصعب أن نتهم جودار أو غيره من مخرجي الموجة الجديدة بأنهم لم يكونوا نسويين كفاية أو أن نتهمهم على العكس بأنهم كانوا ذكوريين أكثر مما ينبغي. لكننا أيضاً في نهاية عام 2019 وسيادة التظاهرات والاحتجاجات صار من واجبنا أن نراجع كل هذه المفاهيم، وأن ننتقد ما كان ذات يوم جديداً وثورياً في الستينيات والخمسينيات.
حاولت آنا كارينا دائماَ أن تبقى على قيد الحياة الفنية، لأن هذه الحياة كانت أيضاً العمل الوحيد المُتاح لها. كتبت وأخرجت بنفسها فيلم "الحياة معاً" Vivre ensembleعام 1973. كما قدمت أفلاماً في الدنمارك وسافرت إلى أميركا ومثلت في هوليوود فيلم "صُنع في أميركا" عام 1966 Made in USA. كتبت ونشرت الكتب منها رواية "لا أحد يشتري الشمس" 1988 On n'achète pas le soleil. وسجلت الأغنيات كذلك.
في أحد حواراتها الأخيرة عام 2017 مع برنامج  L'invitéبدت آنا كارينا متسامحة تماماً مع ما جنته من مشوارها. كانت تضحك وتُغني من قلبها مع صوتها المُسجل وهي شابة تردد أغنيتها الشهيرة "تحت الشمس بالضبط" Sous le soleil exactement. وصفت علاقتها الإشكالية بجودار صراحة أنها كانت علاقة مُرهِقة. صحيح أن وجهها تقلص أيضاً حين جاءت على سيرة أمها، إلا أنها بدت في النهاية فخورة بهذه الرحلة، بحبها الكبير للفن وللأضواء، غير مكترثة بما سيضنّ به عليها الزمن، آجلاً أم عاجلاً.

#أيقونة الستينيات: آنّا كارينا #




الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.