}

«عصف فكري» لعبدالرحمن قطناني.. غابة صغيرة بزاروب المخيّم

أحمد محسن 30 يناير 2020
تشكيل «عصف فكري» لعبدالرحمن قطناني.. غابة صغيرة بزاروب المخيّم
فضاء المخيم في اشتغالات عبدالرحمن قطناني في معرضه ببيروت
يضع عبدالرحمن قطناني زائره في زاروب ضيّق، لكنه أوسع بكثير مما يبدو عليه. في «عصف فكري» (غاليري صالح بركات في بيروت حتى نهاية كانون الثاني الحالي)، سيلعب الزائر لعبة المرايا. ألواح الزينكو ملونة. ملّونة، ربما لأنها اكتسبت المودة من سكان المخيّم، وربما لأن المساحة في صالة العرض، غير مظللة بالسماء. هذه نظرة أولية، عن قرب، لما تقوله غابة الألوان في «الزاروب». هناك قطعة ناقصة وحيدة في العرض، لاستحالة استعارتها من مكانها: السماء. في المخيّم صارت السماء جزءاً من مكان الإقامة، وصارت الحياة ممكنها تحتها، لأنها في النهاية واحدة. لا يمكن أن تتجزأ. ستجمع المنازل مع الطريق، والذين ولدوا هنا مع الذين غادروا. ستشعر أنك في المكان، وستنظر إلى الأعلى. لن تجد السماء. ستسأل نفسك: هل فُقِدت السماء في المخيّم أيضاً؟
في الأدب عموماً، تقترن السماء بالأمل. لسببٍ لا نعرفه، ليس بالضرورة أن يكون ميتافيزيقياً، الأمل موجود هناك. شيء مثل الوجود عند هايدغر: موجود هناك. لكن الألوان ستسارع إلى صرف النظر عن هذه الأفكار. ستقود إلى «عصف» من نوع آخر. الألوان دلالات، لكنها أيضاً كانت قصصاً أيضاً. ليست القصص متشابهة دائماً في المخيّم، ولطالما كانت هيمنة الرمادي على لوح الزينكو تؤدي وظيفة الشبه دائماً. «عصف فكري»، وهو العمل الذي أمامنا، لا يريدنا أن نقع في هذا الشبه. على مهلكم، يوجد الكثير من القصص. توجد حياة هنا. السماء ستأتي لاحقاً.
من دون تكلف، يمكن القول إن الجانب الذي يمثّل فيه الفنان زواريب المخيّم هو الجانب الأكثر سطوعاً في العرض، رغم أن هذا الجانب يقبع في آخر المعرض. ليس في آخره تماماً، لأن خلفه تُرِكت مساحة فارغة عمداً، قبل أن تظهر موجة من الأسلاك الشائكة، التي تفصل المخيّم عن العالم. هذه الأسلاك، التي تبدو أقل توهجاً، بمثابة إضافة سيميائية رهيبة للمشهد. هذه الأسلاك، التي ترتفع كالموج، وفي كونها متكاتفة مع بعضها البعض، في لحظة عرضها، تصير سياجاً قاسياً، يعذب الابتسامات الساكنين خلف حدودها. الأدوات الحية التي استخدمها قطناني احتاجت وقتاً لتنصهر. لكنها تبدو طازجة، كما لو أن خلف هذه الألواح يوجد مقيمين، أو أن هذه الأبواب لشدة الشبه بينها وبين الحياة، هناك في مخيّم صبرا، تبدو وكأنها اقتلعت من
أمكنتها، ونصبت في ساحة العرض.
العرض حقيقي، والمغالاة الأكاديمية في النقد قد تفقده طعمه. لا أصوات تخرج من النوافذ، أو تدخل من ثقوب مجهولة في الجدران، لكن العمل يمكن أن يكون تنصيبياً بامتياز. ليست هناك جدران، لتكون هناك أصوت، وليست هناك مساحة بين الأزقة المتخيّلة، تسمح بوجود عزف. الأصوات متروكة للأنفاس، للحناجر التي تضيق داخل أجساد أصحابها، وهم يتعرفون إلى تمثيلات الضيق بالزينكو الملوّن ممزوجاً بأدوات الطلاب وعلب الزيت القابل للاشتعال. يمكن أيضاً للعابر أن يكون شاعرياً، فيتخيل قرقعة خلف الأبواب، أو ما يثيره النظر إلى مادة الزينكو من صرير في الرأس، عندما يحتك بها صوت الأمطار التي تهطل خارج المعرض. ولا إفراط في الحدود السينوغرافية، لكن العمل سينوغرافي تماماً. لا يشذ عن بصمة صاحبه التي رسخها لنفسه في أعماله سابقة. هذه المرة أيضاً يلهو بالألواح مثلما يلهو أطفال المخيّم بقطع الليغو بعد الانتهاء من الدوام المدرسي. الألواح هي حارسة المشهد، والألوان المفضّلة هي ألوان صارخة. لا يمكنك أن تخرج من هنا على الحياد، بل يجب أن تأخذ موقفاً.
بورتريهات من معرض عبدالرحمن قطناني في غاليري صالح بركات في بيروت

قبل أن تصل إلى هناك، ستصادف رموزاً أخرى، بأدوات مختلفة، ميل إلى تقريع الحقيقة

بالعبث. على أحد حيطان المعرض، حفر قطناني بورتريهاته، في براميل الزيت. تخرج الوجوه من دوائر، وهي تحترق. سنرى ياسر عرفات في أحد هذه الدوائر من دون ملامح. سنشعر بالوجوه التي في دوائر، تتحدث بلغة بصرية لا نفهمها بسهولة، إلى الجالسين خلف الجدار. بمعنى ما، قبل أن نتوجه إلى تمثيل المخيّم بالزينكو، يريد العمل من الناظرين إليه أن يتوقفوا قليلاً، وينظروا إلى الدوائر. أن يعرفوا أن ثمة مسافة بين السكان، وبين الحديث عن السكان. من الناحية التقنية، استغرق العمل وقتاً بلا شك، واستدعى أيضاً الجهد ليوزع تحفه في أمكنتها. والذي يخشى التيه في الأزقة، يمكنه أن يتنفس قليلاً في الخارج، حيث يزج قطناني بعض أعماله التركيبية، من دون أن دون أن تفارقها روحية اللجوء.
لا يمكن الاستغناء عن الحقيقة بأي عمل فني. وهذه فتنة «عصف فكري». قدرته على اختراع حقيقة «ربيعية» لا نستطيع القول إنها ليست حقيقة، نقلاً عن مكان تعصف فيه مرارة اللجوء وتعب الحنين إلى الأرض. وإن كان الحب هو الاسم الذي نطلقه على رعبنا، يقول رامبو. ولا نعرف إن كان جائزاً لنا أن نستعير صفة الحب، من قصيدة الشاعر الفرنسي، لنطلقها على الزواريب التي شيّدها قطناني لتحاكي المخيّم. يمكن لزائر المعرض أن يقسّم زيارته في المعرض كما يشاء. لكنه بالتأكيد سيتوقف بين ألواح الزينكو الضخمة، وسيبدأ بالاعتراف أن الطابع التحفي للعرض ليس متكلفاً. سيشعر أن الألواح نُصبت بطريقة، تكاد تكون مسرحية، وتجتهد في صمتها، لتصحب الناظر إلى نزهة في ذاكرة المخيّم، وتصيبه الصدمة، تلك الصدمة التي يتحدث عنها دولوز تحديداً، بأثرها الكبير على الرأس، على قشرة الدماغ بأسرها، حيث تولد ميلاً واضحاً لغض النظر عن الأجزاء والتفكير بالكليّات. فالكليات لا يمكن إلا أن تكون متخيّلة.
النزهة في زواريب صبرا، كما يتخيّلها قطناني، ستدفعنا إلى تخيّل المخيّم كما نعرفه، وكما نراه بالألوان التي أمامنا. وألواح الزينكو، ورغم أنها مقتطعة، فإنها تبقى مادة يمكن انتزاعها، وأن تنتقل مع أصحابها حيثما انتقلوا. لكنها على نحو ما، لا تملك روحاً خاصة بها، وليس فيها فرح دائم رغم ألوانها. إنها ألواح مقطوعة من أمكنتها، وهي بذلك تشبه الذين يقيمون تحت سقوفها. إنها فتنة مؤقتة، لا تغني عن السماء، ولا عن العودة إلى الأرض.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.