}

مارتن سكورسيزي في "الإيرلندي".. القتل ثم القتل ثم القتل

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 25 يناير 2020
سينما مارتن سكورسيزي في "الإيرلندي".. القتل ثم القتل ثم القتل
ملصق فيلم "الإيرلندي"
يواصل المخرج الأميركي مارتن سكورسيزي في فيلمه الجديد "الإيرلندي" (The Irishman 2019) ما بدأه في أفلام كثيرة له- "عصابات نيويورك" و"المغادرون" وغيرهما: معاينة أقسى لحظات صراع الإنسان مع نفسه ومحيطه وموجبات فرضه إرادته وتحقيقه صبواته.

والقتل بوصفه شرطَ وجود وعنوان رسائل شفوية وأخرى مكتوبة وثالثة متوارية خلف سراديب الظلام، يشكّل، على ما يبدو، مادة بصرية سينمائية درامية مغرية لصاحب المسيرة الإخراجية الممتدة والمفعمة بالإنجازات. ما يجعله يلج فيه دون هوادة في أفلامٍ يصبح مشهد الدم المرشوق في الاتجاهات جميعها، المفجور على الحيطان، المتكوّر حول نفسه فوق أرصفة الشوارع، الملطخ ألوان الملابس، ماركة مسجلة لها، رفيق مشاهدها، مادتها البصرية محتشدة الدلالات غير المترافقة مع أي اعتذار ممكن من الحائز في العام 2006 على أوسكار أفضل مخرج.
بين "المغادرون" أو "الراحلون" الذي نال عليه سكورسيزي الأوسكار عام 2006، وبين "الإيرلندي"، مسافة زمنية طولها 13 عاماً، جرّب خلالها صاحب "سائق التاكسي" (1976) حظه مع أفلام مختلفة عن لونه المفضل الذي يغوص فيه داخل عالم العصابات والمافيات واقتتالها وتصفيتها حساباتها وفق أعراف وقواعد صقلية صارمة. مدة زمنية كافية لأن يستجمع صاحب المسيرة الفذة، مختلف مكامن حدسه المشع في تجليات الفن السابع، فإذا بـ"الإيرلندي" يفرض نفسه بجهود مخرجه وفريق تمثيله الاستثنائي كقيمة محتشدة بالقوة والتركيز والسرد الكلاسيكي المشحون بضرورة التفاصيل وذكاء المفارقات.
ربما ينبغي لمن يرغب الكتابة عن فيلمٍ ما، مشاهدته أكثر من مرة، ولكن ليس في حالة شريطٍ طوله (210) دقيقة أي ثلاث ساعات ونصف الساعة بالتمام والكمال، ما يجعل "الإيرلندي" بطولة روبرت دي نيرو (تاسع فيلم مع سكورسيزي) وآل باتشينو وجو بيشي (بعد طول غياب) من أكثر أفلام هوليوود على امتداد مسيرتها طولاً.

وربما أن السؤال الأول الذي تطرحه مشاهدة الفيلم بإلحاح هو: لماذا يواصل الرِجال قتل بعضهم بعضاً طالما أن النساء كما يتبيّن في كثير من أفلام سكورسيزي يغضبن من هذه المقتلة الكبرى ولا يحبذنها حلاً لمن نختلف معهم أو نخشى تقدمهم علينا أو انتصارهم في حرب الأسواق والأطماع والأحلام وتحقيق الذات؟
بداية، يرصد الفيلم المستند إلى أحداث حقيقية، قصة الأميركي من أصل إيرلندي فرانك شيران (روبرت دي نيرو)، الذي عَمِل في اتحاد العمال الأميركي، إضافة إلى دوره البارز داخل عالم الجريمة المنظمة، بقيادة راسل بافالينو (جو بيشي). ويلقي ضوءاً على لغز اختفاء النقابي العمالي البارز في التاريخ الأميركي جيمي هوفا (آل باتشينو). الفيلم المعتمدة حدوتته على كتاب "سمعتُ أنك تطلي المنازل" للكاتب تشارلز برانت، تتصاعد أحداثه لتقوم علاقة وطيدة بين الإيرلندي فرانك شيران والصقليّ جيمي هوفا (أكثر من مجرد علاقة نقابية وعصاباتية وتحالفات).
مصادفات بعينها وربما لحظة فارقة تحوّل الإيرلندي فرانك من سائق شاحنة (ثلاجة لحوم) إلى قاتل محترف مستفيداً من خدمته العسكرية ومهاراته الفطرية وطموحه الشخصيّ. تحوّل لا يعجب بيغي (أنا بكوين) أكبر بناته الأربع، رفض يكبر معها ويؤسس لقطيعة جذرية بينها وبين والدها. قادها حدسها لتوقع ما يقوم به والدها من أعمال قذرة. باستثناء تحفظ بيغي على والدها ورفضها لطبيعة علاقته مع (زعيم العصابة) راسل بافالينو (جو بيشي)، ما من دور نسائيّ يذكر في الفيلم كما هي عادة الأفلام الراصدة قصص المافيات الصقلية المحافظة، ولا تأثير لهن في مجمل أحداثه. غياب التأثير النسائي عند سكورسيزي لا يقتصر على فيلم "الإيرلندي" بل يظهر واضحاً أيضاً في أفلام أخرى له مثل "عصابات نيويورك" (2002) و"المغادرون" (2006) وحتى "سائق التاكسي" (1976). فاقتصر على (حرد) من كل هذا القتل (المغادرون) أو قرارهن النجاة بأنفسهن (عصابات نيويورك) أو خضوعهن لقيم السوق والسقوط في فخ الدعارة (سائق التاكسي) أو إحداثهن قطيعة أخلاقية اجتماعية مع مجتمعات هذه القيم وتلك الطرق بالصراع والتصفية الجسدية المباشرة (الإيرلندي).


تعرية الواقع السياسي المنتج للواقع الاجتماعي الاقتصادي

 يتجلى الفيلم بوصفه رسالة وداع بدأت بدار للعجزة وانتهت هناك حيث تفرّغ فرانك في مقامه الأخير لكتابة مذكراته 

















تعرية الواقع الاجتماعي تتصاحب عند ساركوزي في كثير من أعماله مع تعرية للواقع السياسي المنتج لهذا الواقع الاجتماعي الاقتصادي أو المتفاعل معه أو المستفيد/المتضرر منه. في "الإيرلندي" يتعدى الأمر التعرية إلى كشف حقائق تتعلق بتورط آل كنيدي في دعم المافيات أو التحالف معها مرّة والانقلاب عليها في أخرى. وهو ما يتطرق إليه الفيلم موجّهاً أصابع الاتهام باغتيال الرئيس الأميركي جون فيتزجيرالد "جاك" كينيدي JFK )1917-1963)، إلى تلك العصابات التي تضررت من ملاحقة شقيقه روبرت فرانسيس "بوبي" كينيدي (1925- 1968) لها وتضييقه عليها إبان عمله نائباً عاماً للولايات المتحدة الأميركية في الفترة التي انتخب فيها شقيقه (جاك) رئيساً.
هذا البعد السياسي الواضح للعيان المباشر، وبرأيي ثمة بعد غير ظاهر يدين سكورسيزي من خلاله القوانين الأميركية المتعلقة بحيازة السلاح. ففي شريط "الإيرلندي" وعندما يتناقش راسل مع فرانك حول مهمة قتل جديدة لمتنفذ يندر أن يرصد في مكان ما وحده، يسترسل معه في موضوع نوع السلاح الذي عليه أن يستخدمه لهذه المهمة على وجه التحديد، وترينا الكاميرا خلال هذا النقاش أنواع المسدسات والأسلحة الفردية المتوفرة لدى سائق الشاحنة السابق وهو يفاضل بينها مستبعداً بحسب نصائح سيده منها واحداً تلو الآخر إلى أن يستقرا على مسدسين بحجمين مختلفين هما الأنسب للمهمة الجديدة. كما تظهر هذه الإشارة لانتشار السلاح بشكل خطر على السلم الأهلي عندما يخبرنا فرانك خلال حديثه معنا (مع المشاهدين)- يعتمد الفيلم تقنية الراوي الذي يروي الأحداث ويستعرض سيرته الذاتية- أنهم كانوا يلقون سلاح كل جريمة جديدة في جزء محدد من نهر سكويكيل، ثم يعلق بعد هذه التفصيلة قائلاً: "إن أرسلوا غطاسين إلى هذه البُقعة من النهر فسوف يتمكنون من تسليح بلدٍ صغير" في دلالة واضحة إلى الكم المهول من الأسلحة متنوعة الأنواع والمديات والاستخدامات التي ألقاها قتلة مأجورون أو ينتمون لواحدة من هذه العصابات في هذا النهر، ومرّة ثانية تتحرك الكاميرا بالتوازي مع حديث فرانك فترينا المخزن المرعب لأسلحة غارقة في ماء النهر.


القتل
القتل.. ثم القتل.. ثم القتل.. هذا ما أتقن سكورسيزي في معظم أفلامه، تسليط إضاءته السينمائية المتقنة عليه. وهذا ما يتفاقم في فيلمه الجديد إلى مستويات تصل إلى حدّ التفريط بقيم الصداقة والمحبة والأواصر الإنسانية الدافئة.
قليلة هي قصص الحب في أفلام سكورسيزي المنحدر من عائلة صقلية محافظة. وإن مرّ في فيلم ما على قصة من قصص الحب، فهو مرور مضطربٌ خاضعٌ لمختلف شروط بيئته، مستسلم لمصائر شخصياته ومآلات الزمن وقوة الشد العكسي الناتج عن فداحة الصراع ودمويته بما يصبح الحب معه رفاهاً فائضاً عن الحاجة خصوصاً وأن معظم العائلات التي يركز عليها سكورسيزي في أفلامه هي من النوع الذي يزوّج أولاده وبناته في سن مبكرة.

ثمة قضية شائكة أخرى يطرحها "الإيرلندي"، فبعد سنوات من انقطاع سكورسيزي بسبب الكلف الإنتاجية العالية التي تحتاجها أفلامه، يخضع أخيراً من أجل أن ينجز هذا الفيلم إلى شروط شركة نيتفليكس Netflix التي لا تحبذ عرض منتجها السينمائي من خلال الشاشة الفضية، مفضلة عليها الشاشة المنزلية، ساحتها ومكان مشاهدة زبائنها. خضوعٌ غيّر كثيراً من مبادئ المخرج العنيد. وحسب موقع "وايرد" البريطاني دفعت نيتفليكس مبلغ 159 مليون دولار لإنتاج الفيلم، وهو أعلى رقم تدفعه الشركة المهووسة بنوازع احتكارية لتنتج مادة مرئية مسموعة. مبلغ أتاح من ناحية لسوركيزي استخدام تقنيات حديثة في الإخراج والمونتاج والإضاءة، منها على سبيل المثال تقنية تعديل سن الممثلين رقمياً، لكنه من جهة ثانية جعله يقبل بشروطهم التي منها حرمان ملايين عشاق السينما من حضوره في الصالات، إذ قلصت الشركة مدة عرض الأفلام التي تنتجها من 90 يوماً إلى 21 يوماً فقط، كما حرمت صالات سينمائية أميركية كبرى من عرض الفيلم، وسمحت بعرضه المدة الجديدة التي اعتمدتها (21 يوماً) في عدد من صالات السينما البريطانية.
سكورسيزي الذي لا يخضع عادة، يبرر في تصريح له خضوعه لشروط نيتفليكس بالقول إنه "يرجع للشبكة وحدها الفضل في تنفيذ الفيلم بالطريقة التي احتجناها".
من جهته يعلق موقع "وايرد" على هذا المنطق قائلاً: "كان من الممكن أن يُطرح فيلم "الإيرلندي" في كل سينمات العالم ليشاهده الجميع دون تمييز في حالة موافقة صنّاعه على تخفيض ميزانيته قليلاً، أو تقليل مدته بعض الشيء، ربما وقتها كان بإمكان سكورسيزي التفاوض مع نتفليكس لإطالة مدة عرضه في السينمات، ولكنها بطبيعة الحال لن توافق لأن ذلك يعني خسارة المشتركين في خدماتها".
ثم يخلص الموقع إلى أن تنفيذ الأفلام يتطلب الكثير من التنازلات، وسكورسيزي لم يكن مستعداً لتقديم أيٍّ منها.
بنخبة من (العواجيز) أنجز سكورسيزي شريطه الجديد: روبرت دي نيرو (76 سنة)، آل باتشينو (79)، جو بيشي (76)، هارفي كايتل (80) وهو نفسه 77 سنة، ليتجلى الفيلم بوصفه رسالة وداع بدأت بدار للعجزة وانتهت هناك حيث تفرّغ فرانك في مقامه الأخير لكتابة مذكراته التي هي في نهاية المطاف حدوتة الفيلم وسرديته حول الحياة والموت والأسرة والصداقة والقيم وعشق الثروة والبحث عن الذات وعن المجد الآفل.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.