}

الرواد الجدُد في معرض "المنحوتة الصغيرة".. إبداع جيل الحرب

أسعد عرابي 18 يناير 2020
تشكيل الرواد الجدُد في معرض "المنحوتة الصغيرة".. إبداع جيل الحرب
لوحات من معرض "المنحوتة الصغيرة"
تتحلّق في كوكبة فناني معرض «المنحوتة الصغيرة» نماذج من أعمال بعض المعلمين المعروفين من النحاتين الأساتذة على الأغلب في كلية الفنون الجميلة في دمشق، والذين يوسمون في النقد الفني بـ«الرواد» إلى جانب رهط كبير بالغ الإثارة والموهبة والاستشراف النخبوي المستقبلي لا تتجاوز تواريخ ميلادهم عام السبعين (قبل أو بعد بسنوات). هؤلاء الفتية الطموحون الذين تشكلوا من تجربة الحرب خاصة في الداخل، كما تشكل البقية من جيلهم النحاتين اليافعين في خارج النزوح والشتات. نتعرف على أسمائهم لأول مرة، رغم بلاغة وتمايز وأصالة تعبيرهم النحتي، هو الذي يتجاوز تيار التعبيرية المحدثة إلى المفاهيمية والميتافيزيقية بتجذرها المحلي، موشومة بمرارة خنساء الحرب وإلكترا الموت، والتشوه الجسدي والروحي. إن شدة الانفصام بين الطرفين واجتياح هؤلاء لأساليب معلميهم جعلهم بمثابة «الرواد الجدد» المتفوقين ببلاغتهم وعمودية تجربتهم الانفجارية المأزومة على فناني جيل ما قبل الحرب، سواء أكانوا في الداخل أم الخارج.
سرب من الفيلة لعلاء إبراهيم  


















تبرز انعطافية هذا المعرض البانورامي من إهالة الرمال حول الوليد الجديد، الذي كانت الأحداث الأليمة تغطي على أنينه النحتي، وتفجره البركاني الصامت، هو الذي يسعى باتجاه تمايزه الأسلوبي وتطويعه لمواد النحت العصيّة. تحضرني في هذه المناسبة طلائع أصيلة وهامات سامقة لهذه الباقة (التي تمسد مصاب «القيامة الشامية»)، تعرف على أبرزهم صفاء الست في معرض «ديناصوري» مأزوم لا يُنسى في قاعات «مؤسسة النمر»، وذلك بمناسبة مرافقتي لمعرضي الاستعادي في بيروت قبل سنتين. وشغلني معرضها أكثر من معرضي، وهو عبارة عن ملصقات معدنية عنيفة تمثل بقايا مجتمع الديناصورات التي قضى عليها اصطدام الاسترويد بالأرض (المكسيك) قبل خمسة وستين مليون عاماً، بقيت أجداثه المنخورة تحت الأرض بعد فناء أجناسه وبقيت منحوتات صفاء الست، وكأننا في مسلخ أبدي نعيش فناءه اليوم وهو يبعث قبور وأقبية مظالم الحرب والتعذيب. أما نظيرتها النحاتة الرهيفة المقيمة في باريس نور عسلية فأعرف دررها عن قرب، أعمال ملغزة شطحية تستعيد الأعضاء المبتورة لرودان لتجعل منها ملحمة تحفظ ما جُمع من أعضاء بشرية ملطخة بدماء طازجة تجتمع في علبة عبثية تمثل تابوتاً حياً للمأساة السورية. تعمل بمجاهدات مشتركة مأزومة تتزامن مع كافكاوية شخوص زميلها الأقرب النحات محمد عمران، الذي ينتمي إلى نفس الوليد الجديد من الرواد اليافعين الجدد.

عمار خزام 










 

الرواد الأوائل

كان لا بد من هذه المراجعة حتى ندرك الأهمية الانعطافية لمعرض دمشق الراهن في غاليريا مصطفى علي وبرحابة فضائها.
سأبدأ من استعراض أعمال الفنانين المعروفين بالجيل الثاني أو الثالث من الرواد القدامى (منذ منتصف القرن العشرين).
لا بد من الابتداء بالنحات المعروف الذي أسّس هذه الغاليريا كجزء من محترفه في بيت دمشقي قديم يقع في حي الأمين وهو مصطفى علي. من المثير للانتباه تأثر منحوتة هذا المعلم المعروضة بالحساسية المعدنية العبثية الشابة «للرواد الجدد»، يكشفه عمله الذي يمثل ملصقات معدنية صاخبة تقترب من دلالة الوحش الأسطوري. لا ينفصل بالطبع الموضوع عن ماضيه السميولوجي، والمتراوح بين الأساطير المحلية بذاكرتها الكنعانية -الآرامية (عشتار) والأساطير اليونانية (مثل سيزيف). لكن المدهش في أدائه اليوم اندياحه في حساسية الرواد الجدد الذين يعرض قسم منهم من خلال منحوتات قزمة لا تتجاوز ارتفاعها الثلاثين سنتمتراً تقريباً. من أبرز الزملاء من جيله فؤاد دحدوح بموهبته الاستثنائية الشمولية بين النحت والتصوير وقدرته المتفوقة على تطويع مادة الاثنين، ويشغل مسؤولية رئاسة قسم النحت في كلية الفنون الجميلة، مما يكشف عمق تأثيره التربوي على طلبة النحت ومختبره الجامعي التجريبي في آن واحد. فقد توصل مؤخراً إلى سطوح من النحت النافر أو الغائر (الباروليف) المدبوغ بألوان شفافة وأنسجة تصويرية ونحتية، وأنجز قبل مشاركته هذه نصباً استثنائياً يمثل جواداً أصيلاً من دون فارس، يكشف أسلوبه المتميز في التشريج المغتبط والملحمي. أما قريبه عبد العزيز دحدوح، فأعماله كالعادة بنائية تلامس شغفه بالخزف بصفته مديراً لمركز الفنون التطبيقية في العاصمة السورية. تقودنا أجساده إلى نظائرها البنائية الراسخة لدى مدرس النحت في كلية الفنون الجميلة د. محمود شاهين، ثمرة المدرس المصري الذي شحن تلامذته بتقاليد النحت الثلاثي الأبعاد، ناهيك عن نشاطه الكتابي النقدي المثابر والمحترف. تقع تقنياته ما بين النحت المباشر وصب البرونز وما يتطلبه الأخير من نحت الطين المبدئي، يناظره النشاط المزدوج للكتابة الفنية والإعلامية. ثم غازي عانا، خريج كلية الفنون قسم النحت من نفس الرعيل.  

وحش أسطوري لمصطفى علي  

















نختم هؤلاء الرواد بتماثيل الخشب التي عرف بها النحات المجيد لطفي الرمحين، والذي طالت غيبته في جنوب فرنسا. درج على إقامة تمفصل عضوي بين أجساد الخشب البض، باعتباره المادة الأولى في الطبيعة (إلى جانب الصخر والتربة والماء)، حتى اختص بلغة أنواعه الأمازونية، مثله مثل شوقي شوكيني في لبنان. وهنا لا بد من الإشارة إلى التفوق النهضوي التنويري للنحت في لبنان على الاستهلالات السورية. ثم تبعثر النحاتون السوريون الرواد في آفاق متباعدة: عاصم باشا في إسبانيا، فادي يازجي في دمشق، زهير دباغ بين بيروت وحلب، محمد عمران في باريس وماهر بارودي في ليون وهكذا. ولا ينكر ما كان لتأثير منحوتات فاتح المدرس النادرة من تأثير باق حتى اليوم. وقسم كبير من الرواد متوف منذ عهد جلال وفتحي محمد، وعبد السلام قطرميز ووديع رحمة، وأحمد الأحمد وفايز نهري وآخرين انزلقوا من ذاكرتي.

 حصان فؤاد دحدوح 


















اكتشاف الرواد الجدد
ربما يمثل جميل قاشا (بتمثاله المثير: القنفذ) البرزخ المتوسط بين الهاجس الواقعي للرواد والاستغراق في الشطح الملغز للنحت لدى الرواد الجدد.
تحملنا عناءات علاء إبراهيم الجصية (المدهونة) إلى عوالم كونية حيوانية، وكأننا بإزاء تلاحم تعبيري (نصف تجريدي) بين حشد أو جالية الفيلة والماموث. تكوينات أفقية تتحرك دون توقف في الاتجاهين. وتحلّق ميسم مليشو في كائناتها الحيوانية إلى آفاق مشهدية أبعد فتستعير من عرائس خيال الظل الطفولية البكر مقصوصات هزلية تستعيد حساسية «كليلة ودمنة» لما بعد حداثة بول كلي والفن البكر، وضمن حرية نادرة في التعبير غير مسبوقة في مرحلة الرواد. أما تخيلات وضاح سلامة الحيوانية فتعرّج باتجاه ميتافيزيقي يحافي ما بعد السريالية من شطح صوري إلماحي مجازي ملغّز على غرار معدنية تمثل الصراع بين الطائر العجائبي (الذي لا ينتمي إلى أي جنس معروف) والثعبان، أو الوعل المقنع المتشابك القرون في المنحوتة الثانية. وتبلغ رهف علوم الذروة في التخييل باستخدام العناصر الحيوانية المؤنسنة الكابوسية، على غرار الديك ذي الرأسين الآدميين أو المقنّع بوجه برونزي مما يكشف حرية مواد ملصقاتها (تقنية مختلطة) التجريبية.

  القنفذ لجميل قاشا  

















تقترب هشاشة الشخوص لدى هلا الجاري من فقاعات الصابون رغم أدائها المعدني تارة بالألمنيوم وأخرى بالبرونز. أجساد مشوهة تمعن في الوقوف والمشي رغم ما أصابها من معيقات، ثم تتدانى شخوص ربا كنج من هذا المعنى الميتافيزيقي الحاد من خلال إنسانها المجنح الذي لا يقوى على الطيران وإنما على مواجهة مصيره الإحباطي بعدم اكتراث. تقع موادها بين المعادن والأصماغ (الريزين). ولا يخلو حسين ديب في بورتريه الألمنيوم من تأثيرات جياكوميتي. ونعود إلى عرائس المسرح مع عاريات حسام نصرة في وضعيات وجودية استقلالية معزولة موحشة. ويترسخ حضور أعمال عمار خزام بنصبيتها التي تتجاوز قياسها القزم وبمدماكية آرامية لا تخلو من تجذرها في الذاكرة الكنعانية الآرامية لفاتح المدرس (لما بعد التكعيبية).
تعود العرائس الشبحية لمحمد ميرا فتذكر من جديد بجاهزية موروث جياكوميتي الوجودي المصائبي الراقص بنحالته المتميزة. ونختم الحديث بذكر أعمال إحسان العر الخشبية البنائية الهندسية المحايدة مثلها مثل هنري مور والتكور الطبيعي.
ولا شك بأن خصوبة التجارب لا تستوعبها مثل هذه الدراسة المبتسرة.

  حسام نصرة 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.