}

المعرض البانورامي الأول.. عن «الفن الساذج»

أسعد عرابي 11 يناير 2020
تشكيل المعرض البانورامي الأول.. عن «الفن الساذج»
من اللوحات التي تعانق جدران متحف "مايول" الفرنسي
يجتمع في «متحف مايول» لأول مرة عقد المعلمين الموسومين بفناني تيار ما بين الحربين: «الفن الساذج» (أو «البدائيين المحدثين»)، وذلك تحت عنوان: «من هنري روسو إلى سيرافين». وتعانق جدران التظاهرة مئة لوحة منتقاة بعناية نخبوية أبدعها خلال تلك الفترة (من النصف الأول من القرن العشرين) رهط فناني هذا التيار المركزي، نسمع بأسماء قائمتهم لأول مرة، بعكس أبرزهم وأعرقهم الرائد المتقدم تاريخياً والمكنى «بالجمركي» هنري روسو، وهو أوسعهم شهرة، لأنهم كانوا فطريين عفويين مستسلمين لغريزة التصوير دون قاعدة مسبقة، وبالتالي فهم غير حاذقين في لعبة النجومية في الإعلام النقدي. نتعرف مثلاً على باقات فردوس سيرافين لأول مرّة. وبالعكس فإن حماس عدد من الفنانين الشهيرين بدون حدود لهنري روسو جعل منه رائداً بالغ التأثير خاصة على سياق المدرسة السوريالية.

بابلو بيكاسو كان على رأس المنحازين إلى منهجه الفطري مستعيراً العديد من شخصياته الحلمية. كذلك الأمر مع كاندينسكي وبولياكوف، إضافة إلى دعم أندريه بروتون الشاعر السوريالي والمهندس الأكبر لوكوربوزييه.
في أحد الأيام يصطحبه المعلّم إدغار ديغا إلى صحبه من جالية الفنانين الانطباعيين (بمن فيهم كلود مونيه)، مبادراً بقوله: «ها هو موظف الجمرك الذي أخبرتكم عن بلاغة تصويره هنري روسو، العصامي الذي علّم نفسه بنفسه التصوير وتجاوزنا في موهبته الشطحية، دون أدنى معرفة بأصول الرسم ولا قواعد المنظور».. إلخ. من يراجع سيرة هذه المجموعة يلاحظ بأن وسطهم الاجتماعي متواضع الثقافة أيضاً، فأغلبهم حرفيون أو موظفون هامشيون، فإذا كانت أسماؤهم المجتمعة اليوم في المعرض، فإن الذي جمعهم لأول مرة هو الناقد المتوفي منذ الأربعينات «ويلهم» (1874-1947م) أكبر المتحمسين لتصويرهم المشرق الألوان، المدهش، الساحر، الغريزي، الحلمي. عرّفنا على أسمائهم بعد أن أسس أول مجموعة من أعمالهم، وها هو اليوم مفوض المعرض الراهن مع استهلال موسم 2020م يحذو حذوه، ويتسقّط أعمالهم. ابتدأ العرض منذ الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2019م مستمراً حتى أواخر شباط من العام الجديد 2020م.

هنري روسو والغابة البكر  


















تتفوّق لوحات الجمركي روسو في المعرض على زملائه، خاصة في مناظر غاباته الأمازونية البكر. تعربد في جنباتها وحوش ذهنية، أما شخوصه فإثارتها تقع في وضعيتها المدهشة وكأنها لقطة فوتوغرافية كالتي شاعت تصاويرها مع السينما الصامتة في ذلك الوقت. تقف عند عتبة الزمان النسبي اللحظي المتوقف والمباغت. ترد صفة الحداثة من نفي مفهوم الحركة لدى لاعبي الكرة، فالعالم يتوقف لهاثه ونفسه وهو ينتظر «ديافراغم الكاميرا»، مع خطف بريقه الضوئي يعود العالم إلى حيوية صخبه وسعيه الدؤوب المتحرك. أي أن المشهد في لوحات روسو وزملائه مُقتنص، ساكن، ولكن بطريقة حلمية هذيانية. منفلت من أي قاعدة. يتكثف فيه جذب الإثارة والاستفزاز التحريضي المكتوم الأنفاس. هو الاكتشاف الحداثي الذي توقف توهجه مع بوادر الحرب الكونية الثانية.


تيار الفن الساذج ليس ساذجاً
قد يكون أحد أسباب تفوق شهرة هنري روسو أنه يمثل رمزاً سياحياً للعاصمة باريس. لعلّه أول من صور برج إيفل والمعالم الشهيرة مثل «كنيسة مونمارتر». لم يغادرها منذ ولادته عام 1874م وحتى وفاته فيها عام 1947م.
وهنا لا بد من التوقف عند المصطلح النقدي «الفن الساذج»، فهو ترجمة غير دقيقة وكما يقال بإن «اللغة تطابق الخصائص الحضارية»، فالسذاجة في اللغة العربية أشد سلبية واستلاباً من أصلها اللاتيني. تتطابق في لغتنا مع التخلف العقلي بينما تعني في أصلها النقدي الذكاء الفطري المركب والمطهر من التثاقف والمعرفة التقنية المنقولة. وهنا تكمن الإثارة المتفوقة على جهالات العقل في التصوير. تختلط في هذا البرزخ الاصطلاحي أربعة تيارات: الساذج والبدائي (السحري) والبكر والشعبي. نستحضر هنا المعادل لنماذج الفن الساذج في فنون المشرق والمغرب العربي خاصة المعلم خليل زغيب في لبنان الذي اكتشفه أحد موظفي متحف اللوفر، وأبو صبحي التيناوي (دمشق) ورباب نمر (الإسكندرية) وصلاح سلادي (المغرب) مع شعيبية طلال والعديد، ثم أحمد الحجري (تونس) وباية محي الدين (الجزائر).

هنري روسو وبرج إيفل  


















لا شك بأن الخروج من ربقة الاستعمار الثقافي في أوروبا أعاد لهذه الفنون حقها وتقويمها المحايد، فمنذ معرض عام 1932م استبدل مصطلح «الفن الساذج» بـ «البدائيين المحدثين»، ثم إن «متحف برونلي» الذي أسسه الرئيس شيراك ألغى مصطلح «الفنون البدائية» بتعبير «الفنون الأولى» أي (السابقة على الفنون الأوروبية). يعيد هذا المتحف حقوق حضارة الآنكا والأزتيك للهنود الحمر وكذلك الحضارة البولينيزية الشرعية في السبق التاريخي، كما تعيد تصاوير هنري روسو لغابات الأمازون الحق الشرعي للاستلهام من التصوير الهندي والآسيوي، تجمعت نماذجها في «متحف غيمي» الباريسي من جديد. ويحضرني معرض الناقد جان مارتان: «سحرة الأرض» الذي أقيم في مركز بومبيدو، والذي يؤكد على شمولية مفهوم الحداثة والمعاصرة وشراكة فنون كل الشعوب في سياقها وشهادتها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.