}

الفيزياء والفنون.. الضوء والزمان

أسعد عرابي 7 سبتمبر 2019
تشكيل الفيزياء والفنون.. الضوء والزمان
برج إيڤل وتنقيطية الفنان جورج سورا
منذ سنتين فقط أصبح من حقنا لأول مرة أن نتأمل تفصيليّاً بيتنا الكبير، ووطننا الفلكي الأكبر: مجرتنا "درب التبانة" التي تعانق المجموعة الشمسية إلى جانب ما يقرب من 400 مليار كوكب تلتف بصيغة حلزونية حول "الثقب الأسود"، الذي يقع بين كتلتين هائلتين من أشعة غاما (المُشكّلة من انفجارات دائمة ذرية). أقول لأول مرة لأن "وكالة ناسا" الأميركية استطاعت مع تطوير فعالية الأشعة فوق الحمراء أن تعزل كل ما كان يشوش الرؤيا الفلكية (من أغلفة الغازات والبخار وشظايا الأستريويد وسواها)، وتحصل ببساطة على تصاوير بانورامية بيضوية الحدود من خلال روبوهات أو مركبات فضائية مجهزة بتلستار سبرينتيك، وكاميرات عملاقة معقدة.
وها نحن أمام كونية امتدادات مجرتنا درب التبانة la voie lactée ومقابلتها مجرة درومادير.
لنتخيل بعد ذلك الانفجار الاستهلاكي، على مستوى الإعلام العالمي وفنونه الكرافيكية واستخدام عناصره في الاتجاهات المحدثة من أمثال تيار البوب آرت. تحولت صورة مشهد هذه المجرة المتطاولة عرضاً إلى تخمة بصرية مهووسة بالخيال الكرافيكي بما فيه الموجّه للمراهقين والصغار والكبار، لدرجة أن بعض النقاد تساءلوا في كتاباتهم ألم تحلّ هذه المناظر الفلكية الطبيعية بالنسبة إلى الثقافة البصرية للفنانين محل المناظر الطبيعية التي ألهمت الانطباعيين؟ ها نحن أمام حساسية سديمية قزحية لونية جديدة خاضعة للبرمجة والأداء التقني المستقبلي.
تبدو تيارات فنون ما بعد الحداثة أشد التحاماً ومغامرة من سواها، مستلهمة من لبوس الفيزياء السبرنية، أو منخرطة في كينونتها المطلة على آفاق نجوب أحلامها لأول مرة. تماماً كما هي
العلوم التخيلية، وما تقترحه من خطوط وألوان وكرافيكية رساميها. وهنا لا بد من عود على بدء تاريخ إغراء العلوم عامة للفنون حتى وصلنا إلى الأشواق الراهنة مع فيزياء العصر، والتخلي المتدرج عن إغراءات المضامين الأدبية. وقد تظاهر هذا الطلاق الأدبي باتجاه الضوابط الرقمية أو الهندسية الرياضية منذ الرسوم العربية الإسلامية في عصور الازدهار واللقاح الصناعي والعلمي الشمولي (ما بين القرن التاسع وبداية الثالث عشر للميلاد).
ويؤكد عالم الجمال فرانك بوبير في كتابه "المشاركة" المختص بـ"السينيتيك -أوبتيك" أن أصول متحركات كالدر وتانغلي ترجع إلى الروبوهات الإسلامية المبرمجة الميكانيكية، بل أن غالبية الأحابيل والخداعات والأوهام البصرية المنخرطة في مختبر السينيتيك -أوبتيك تنطلق من شطرنج الرقش والأرابسك وبعض طرز الخط العربي. ويكفي أن نشير إلى استثنائية رسوم ميكانيك الجزري على سبيل الذكر وليس الحصر. وهو مهندس بلاد الشام الشهير، وترك لنا أحد أثمن كتب التراث في علم الميكانيك. يعانق ما يقرب من مئة تصميم مرسوم بحساسية فنية عالية لبرامج وروبوهات ومجسمات حركية مبرمجة، بعضها للتسلية وبعضها للوضوء الآلي. تعتمد على تحولات دورات الطاقة الأيكولوجية دون تلويث للبيئة (بما فيها آلية النواعير)، فقدت جميعها الرسوم والتصاميم المنفذة (مثل الفرق الموسيقية المبرمجة)، وبقيت تأثيراتها على رسوم ميكانيك ليوناردو فانشي وسواه.
كان الجزري من أشهر مهندسي الشام وأبرعهم تلويناً وتخطيطاً وتكاوين، مثله مثل المصورين المعروفين: الواسطي وابن جنيد ومحمدي وبهزاد وشيخ زاده. وهنا لا بد من مراجعة إبن الهيثم عالم البصريات الإسلامي في القرن الثاني عشر للميلاد واكتشافه لتقزح الضوء بطريقة إمراره في موشور زجاجي وشروده إلى ألوانه السبعة الأولى المختزلة باللون الأبيض. أو
العكس، أي بالعودة من ألوان قوس قزح إلى الإشعاع الأبيض، أو غياب النور المطلق بالأسود، ناهيك عن بحوثه الرائدة في الانعكاسات والعدسات وسواها. هو ما غذى الصناعة وفنون الإكساء المعماري المحلي بشتى أنواع المواد النورانية والنارية من سيراميك وفسيفساء زجاجي ومواد عاكسة للضوء شافة أو شفافة وألاعيب المرايا والمشكاة (الكاليودوسكوب). ويمثل هذان العالمان وسواهما بداية التحول الكيماوي من الهندسة الميكانيكية إلى الصناعة الفنية، وهو ما جرى في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في أوروبا. بمعنى أنه علينا أن نرجع خطوة إلى الوراء لنتقدم خطوتين إلى الأمام (كما هو المثل الفرنسي)، أي عصر تيار الانطباعية ومشتقاتها. نشهد في ذلك الحين كيف توحدت ذائقة كلود مونيه اللونية مع تبشيرات الفيزياء البصرية لكتاب شيفرول حول "التزامن" وطبيعة الإدراك اللوني. انتقلت هذه العقيدة بالعدوى الفنية إلى بقية مجموعة الانطباعيين ابتداءً من لوحة عمودها مونيه "انطباع غروب الشمس". هي التي تحمل بصمات بشارة انطباعية أسبق لتورنير على نهر التايمز قبل السين، شهادة موازية حول توحد الفنان تورنير مع الفيزيائي الإنكليزي روود كما توحدت التعبيرية اللونية في ألمانيا مع ملاحظات كتاب رائد ومجهول للشاعر غوته: "مبحث في الألوان" متفقاً مع الفيزيائيين الفرنسي والإنكليزي المذكورين حول آلية التزامن الإدراكي التوليفي في اللون.


الانطباعية والفيزياء البصرية
من المعروف أن التيار الانطباعي ومجموعته يمثلان منعطفاً أساسياً في استشراف المكامن المستقبلية للحداثة والمعاصرة واتحادهما مع الفيزياء في التيارات اللاحقة بما فيها فروع ما بعد الانطباعية. هي قبل كل شيء برزخ عبر منه ما تسمى جملةً وتفصيلاً بالعقائد الباروكية أو الكلاسيكية التي تحولت بعضها إلى أسلبة أكاديمية ثم عاودت النهوض الإبداعي مع الرومانسية والواقعية والطبيعية، نميز ما قبل الانطباعية عنها بتدخل الفيزياء والعالم شيفرول بالذات وثورته: "التزامن" في الألوان. اشتد تأثير كلود مونيه -رينوار – ديغا – سيسلي – بيسارو- ثم رودان – ثم بروست – ثم دوبوسي البصري – النحتي – الروائي – الموسيقي ما بين مدرسة باريس ومدرسة نيويورك، ما قبل وما بعد الحرب العالمية الثانية، فالتجريد الغنائي الباريسي وجزء من التعبيرية التجريدية الأميركية يمثلان فروعاً روحية صدرت عن هذا المنهل الأساسي. يكشف كتاب العالم شيفرول (الموجه أساساً لصناعة الأقمشة والسجاد وطراز غوبلان من مفروشات فرساي) طبيعة آلية "الإدراك اللوني" المزدوج أو التوليفي الفيزيولوجي على شبكية العين، ذلك بأن العين تدرك المجاورات المجزأة للون بخلائطها الأبجدية كما يلي: الأزرق + الأصفر = الأخضر، الأحمر + الأصفر = البرتقالي، الأحمر + الأزرق = البنفسجي. جدول تبسيطي لأنه يتجاوز مئات المشتقات من هذه الألوان الرئيسية، يزداد هذا التبسيط عندما نبحث في "هارموني الألوان" ابتداءً من جدول تبسيطي سداسي آخر يمثل

التضاد اللوني الأقصى بين مساحات الظل والنور: الأحمر يقابل الأخضر والأصفر يقابل البنفسجي والأزرق يقابل البرتقالي. يعانق تاريخ الفن مشتقات ومقابلات ومقامات تتصل بالنواظم الموسيقية أشد رهافة. كما هي "مدرسة بهزاد" في آسيا الوسطى، هي التي تفرعت عنها مدرسة المنمنمات المغولية، والتي سيطر على تصاويرها الحوار الفيزيائي الروحي الخاص بين نوع من الأخضر اليابس ومقابله البرتقالي الشاحب وهكذا. من الخطأ الفادح تخيل سيطرة تبشيرات الفيزيائي شيفرول الضوئية على دعوة كلود مونيه الفنانين للخروج من عتمة المراسم الرومانسية والانطلاق إلى التصوير في الهواء الطلق حيث تتعاكس الأضواء الطبيعية للشمس، لأن فناننا الرائد تسلم دفة المبادرة في مسرى الاكتشافات اللونية، تحضرني أبرز تجاربه عندما صوّر التحولات اللونية الزمانية لواجهة "كنيسة روان" عبر اثنتي عشر لوحة مصطفة بجانب بعضها البعض ينتقل كل نصف ساعة من تسجيل درجات الخصائص الزمانية من لوحة إلى مجاورتها، مؤكداً في النهاية حقيقة العلاقة بين خصائص المقام اللوني المسيطر في اللوحة مع الهوية الزمانية التي صور فيها المشهد. وقاد يقين أن المقام اللوني يحدد الهوية الزمانية إلى اختراع صناعة أساور (حلقات) الفلترات التي تطوق عدسات الكاميرا من أجل تعديل زمان اللقطة بما فيها الطقس والفصول ودورة النهار. ثم إنه أقام محترفه عائماً في مركب على نهر السين حتى يتحرر نسبياً من التصاق اللوحة بالجاذبية الأرضية وتصبح شبه عائمة في نورانية رذاذ الموج والرطوبة والضباب والغيم والسحاب الخ...
تستمر فيزياء اللوحة (التي تعنى بالبنية الذرية لقزحية الضوء) مع تيار التجزيئية (التنقيطية) المتفرع عن الانطباعية مع الفنان بول سينياك متعقباً مسار مونيه، فيتحول مركبه المتجول من حدود نهر السين إلى مدى البحر الأبيض المتوسط: محترف جوال يصل فسيفساء القسطنطينية فيجد منهجا نظيرا لتبشيراته في تجزيء اللون (مع جورج سورا وغروس). اتسع مع تيار الوحشية (ماتيس ورهطه) التوليف النقطي أو الجزيئي اللوني إلى مساحات مشبعة باللون. لم تكن بعض التيارات المتفرعة عن الانطباعية على وفاق مع ديكارتية "مونيه- شيفرول"، مثل جماعة الأنبياء وعلى رأسهم بيير بونار الذين أعادوا للداخل بعده التصوفي وبول جوجان الذي يتهم الانطباعيين محرراً "بأنهم يحومون حول العين وليس في المركز الخفي للفكر". وأخّر هؤلاء المعترضون الأصيلون جني ثمار الفيزياء الانطباعية حتى أواسط القرن العشرين (ما قبل وبعد الحرب العالمية الثانية) ما بين مدرسة الباوهاوس في ألمانيا وفازاريللي في باريس، إضافة إلى بعض تيارات التعبيرية التجريدية في نيويورك.  وتسارع بعد ذلك توحد بعض تيارات ما بعد الحداثة مع الفيزياء الذرية والفيزياء الفلكية (أستروفيزيك) وفروع الفيزياء ما بعد الحداثية مثل فيزياء الشعث؛ وهو موضوع سأخصص له مقالاً لاحقاً.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.