}

فيلم "تأتون من بعيد".. السينما قد تُعيد الحق لأصحابه

أريج جمال 24 سبتمبر 2019
سينما فيلم "تأتون من بعيد".. السينما قد تُعيد الحق لأصحابه
الفيلم لا يفتقد إلى العواطف التي تقدمها الأعمال الروائية
بدأت المخرجة المصرية أمل رمسيس العمل على فيلمها التسجيلي "تأتون من بعيد"، إنتاج مصري ولبناني وإسباني وقطري مشترك، في العام 2003، لحظة وقوع غزو العراق، آنذاك كانت تدرس السينما في إسبانيا، وقال لها صديقها كارلوس إنه يعتقد أن الحروب كلها متشابهة، وأن ما عانته بلاده في الحرب يعانيه الآن العراق، في الوقت نفسه تقريباً قرأت أمل مقالاً عن مشاركة العرب في الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939)؛ المشاركة الإيجابية إلى جانب الثوار، وليست السلبية لبعض المغاربة الذين استقدمهم فرانكو بالأجر كي يحارب بهم الجمهوريين، ولم يكن هناك ما يكفي من المعلومات، وعندما عادت أمل إلى كاتب المقال منحها ما لديه من وثائق بخصوص الموضوع، كما أحالها إلى اسم نجاتي صدقي، المناضل الفلسطيني الشيوعي الذي رحل عام 1979.

قصة نجاتي صدقي
كصانعة أفلام تسجيلية قررت أمل أن تبدأ ما يشبه البحث حول الموضوع، وكانت تعرف بحسها السينمائي أن الخيوط ستتكون من تلقائها للفيلم الذي تريد، فسارت مع التيار، تواصلت أولاً مع هند صدقي، ابنة نجاتي، التي حكت لها عن الأسرة، وأنها هي وأخويها الآخرين يعيشون الآن مُتفرقين كل في بلد، واتضح مع الوقت أن هند كانت تعرف القليل جداً عن الحياة السياسية لوالدها، حياة النضال، التي جذبت أمل في البداية لصناعة هذا الفيلم، فهو لم يكن يُحب أن يتكلم كثيراً عن الأمر في البيت.

نعرف أن لهند شقيقا يعيش في البرازيل هو سعيد، وشقيقة كبرى هي دولت أو دولشيكا، تعيش في روسيا، وتكاد أن تكون روسية. وذات يوم تعاود هند الاتصال بأمل، وتخبرها أن صحة دولت ليست بخير، وأنه يُستحسن لو كانت أمل ما تزال مهتمة بتاريخ العائلة أن تسرع بالسفر للتسجيل معها. وإذا كانت هند، التي عاشت مُقربة من الأب، على الأقل مكانياً، ليست على علم بتفاصيل حياة والدها النضالية، فإنه لم يكن من الصعب أن تتخيل أمل مدى معرفة دولشيكا، البعيدة مكانياً وثقافياً وحتى لُغوياً عن الأب، بتفاصيل هذه الحياة، لكن أمل تُقرر السفر، لتفي بوعدها للعائلة، وكان فيلمها بلا تمويل بعد، وليس معها من فريق سوى المُصورة السينمائية. وتلتقي أمل دولت وتُسجل معها آخذة الفيلم إلى مسار مُختلف كلياً وغير متوقع.
أولاً نشاهد هند تقول إنها عندما سألت أمها عن البنت الكبرى التي تظهر معهم في الصور، أخبرتها الأم "هذه أختك لكن مش ضروري تحكي"، ما يُعطينا فكرة عن الأجواء النفسية التي نشأت فيها دولت، رغبة في الإخفاء، أو اضطراراً إليه. كان حضور دولت في حياة الأسرة حضوراً مُربكاً، وليس هذا وفقاً لإرادة الأم. قبل ميلاد هند بكثير، كانت الأسرة الصغيرة المكونة من نجاتي وزوجته ودولت، تعيش في فلسطين في حالة استنفار دائم بسبب نشاط الوالدين السياسي، وتضطر الأم إلى ترك دولت في ملجأ في مدينة إيفانوفا الروسية، وهذا الحدث ترويه دولت التي صارت اليوم جدة ترعاها حفيدتها، باكية، تسقط دموعها أمام الكاميرا.. تحكي "قالت لي اذهبي الآن يا دولت لأتحدث قليلاً مع المُديرة"، تستشعر دولت الخطر، وترفض المغادرة، لكن المُعلمة تأخذ البنت بعيداً، وعندما تعود دولت لا يكون هناك من أثر للأم، سوى روب الحمام، تبكي دولت ونحس أن مَنْ تبكي هي هذه الطفلة التي لم تكبر أبداً، التي لم تتجاوز الحادثة على الرغم من الغُفران غير المشروط الذي قدمته لأبويها.



الإنسان/الشجرة

حياة النضال لنجاتي صدقي جذبت أمل لصناعة الفيلم 


تقول دولشيكا في بداية الفيلم، وهي تتمشى بسلام في حديقة عامة "أن ينفصل الإنسان عن وطنه، مثل أن تأخذ شجرة وتزرعها في أرض أخرى، فلن تعيش هذه الشجرة". لكن أين هو الوطن الذي تحكي عنه الآن دولت وما هي ذكرياتها عنه؟ ربما يكون الوطن في "تأتون من بعيد" مجرد فكرة مجازية، مجرد شعور نهفو إلى المرور به، ولا نمر به أبداً.
في الفيلم تكثر التفاصيل السياسية وتتشابك الصور بشكل متسارع، فإننا نرى صوراً لهذا الملجأ الذي احتضن دولت، وأطفالاً آخرين، لكننا لا نستطيع أن نرى صور النكبة مثلاً، وبدلاً منها نرى صوراً للحرب الإسبانية، وإننا لا نسمع صوت الأب الراحل، نجاتي صدقي، لكننا نسمع صوت الأناشيد الحماسية التي تُؤدى في حرب ما، وقد تكون هي الحرب الإسبانية، فيمكننا بذلك أن نقترب من حماس الأب للقضية الأممية، قضية عمره. إن القصص تتشابه والأصوات كذلك، كما قال كارلوس صديق المخرجة في البداية، أما نحن وكمشاهدين فنتابع أحداثاً سياسية وقعت منذ زمن بعيد نسبياً عن عصرنا الحاضر، وقد لا نكون مهتمين بالسياسة، سنتمسك أكثر بقصة بطلته دولشيكا، وهذا الخيط الإنساني هو ما يربطنا بالفيلم.
يُضطر الأب إلى الارتحال بين أكثر من بلد، يُكلفه الحزب الشيوعي مثلاً بإصدار جريدة في فرنسا، تدعم النضال في الحرب الإسبانية فيسافر إلى هناك، وفي هذه الأثناء، وبين تلك السفرات، تكبر دولت وسط الأطفال الآخرين في الملجأ، تقتسم معهم الحياة اليومية، تنطق باللسان الروسي، تساعدها المُعلمات على تجاوز أزمة اختفاء والديها، بمعنى آخر تتلقى تعويضاً ما، لكن مع هذا التعويض أيضاً تصبح لها شخصية مختلفة، غير تلك التي كانت لها وهي طفلة صغيرة تعرضت للتخلي قبل أن تدرك الحياة بعد.
هذه الشخصية هي دولشيكا، وستسعى الأم فيما بعد، عندما تنتقل الأسرة إلى بيروت، وقد صار لها طفلان آخران، أن تستقدمها كي تبدأ معها حياة من جديد. إنها الآن في السادسة عشرة من العُمر تقريباً، عندما تُقلب هند ألبوم الصور ومعها شقيقها سعيد، تحاول تذكر عدد المرات التي زارتهم فيها دولت، تحاول أن تتذكر، لكنها لا تستطيع أن تُعطي إجابة حاسمة، لقد كان لهند ولسعيد، وحتى للأب نجاتي صدقي، هموم أخرى بالتأكيد، سوى الابنة الروسية.
عندما تزور دولشيكا بيروت لأول مرة تُعجبها الأجواء، تحب الموسيقى التي للغة العربية، تتعرف على أخويها الصغيرين، وهما لا يتحدثان الروسية وهي لا تعرف العربية، "لم يشأ أبي أن يأتي لاستقبالي في المطار مع أمي، كان جالساً في البيت، في الظلام، وكان ينبغي علينا أن نشب قليلاً لتشغيل الكهرباء، لذلك عندما وصلتُ إلى البيت استقبلني في العتمة، لأن البيت لم يكن مضاءً طوال الوقت كما هو الوضع في روسيا".
تواصل دولت: "كان يمكن آنذاك وعمري ستة عشر عاماً أن أبدأ حياة حقيقية في الشرق، مع عائلتي، كان يمكن لهذا أن يُغير حياتي كلها"، لكن الواقع أن هذه الفرصة لم تُتح لها، ورجعت دولت إلى البلاد التي تعرفها، إلى روسيا.. "عندما عدت شعرتُ بالألفة التي تركتها هنا، اللغة التي كنت أتحدث بها يتحدث بها الجميع والحياة التي اعتدتُ عليها كما هي..."، بينما واصلت أسرة صدقي رحلة شتاتها بين البلاد. وتبدأ هذه الرحلة بطريقة غير عادلة إذا جاز التعبير، تبدأ بطرد نجاتي صدقي من الحزب الشيوعي، بعد أن كتب مقالة يشتبك فيها فكرياً مع أحد أفكار الحزب الذي أفنى حياته وربما حياة أولاده في خدمته.

مسألة الطرد من الحزب هي بالتأكيد ضربة قاصمة لصدقي، وتقول هند "لم يكن يحب أن يتكلم في هذه الجزئية". طبعاً بإمكاننا أن نتخيل، في نفس الوقت بدا كما لو أن الحياة قد بخلت على هذه الأسرة بفرصة اجتماع شملهم. تقول هند "أحسد الناس عندما يحكون في الإجازات عن خططهم للرجوع إلى الضيعة، أنا ليس لدي ضيعة أعود لها...". اضطرت الأسرة إلى الارتحال من بيروت إلى أثينا، والابن سعيد هاجر وحيداً من أثينا إلى البرازيل، بينما ظلت دولت في روسيا، وحاولت تأسيس حياة زوجية مستقرة لكنها وزوجها "لم يتفاهما"، وكانت ترسم كثيراً بألوان مائية رسومات شفافة تبث فيها العذاب الذي عاشته بصمت: "عندما أكون في روسيا أحس بالحنين إلى الشرق، عندما أعود إلى هناك أشعر أني غريبة". ربما تكون دولت قد وجدت بعض العزاء في حفيدتها، التي تصاحبها اليوم في خريف عُمرها، وتسمعها وهي تودِعها أمنيتها الأخيرة، أن يُنقل رُفاتها إلى فلسطين، بعد أن تموت.
قد يكون الفيلم الذي تمكن من أن يستفيد من النوع التسجيلي لكونه مبنياً على حقائق لبناء عمل سينمائي قوي ومؤثر لا يفتقد إلى العواطف التي تقدمها لنا الأعمال الروائية، إحدى الطرق التي عوضت بها الحياة هذه الأسرة، فبفضل أمل رمسيس يجتمع الإخوة في لحظات نادرة بعد أعوام انقطاع وقبل أعوام من الرحيل النهائي، وتشهد الكاميرا على لقائهم، على ضعفهم الجسديّ البادي، وخصوصاً دولت، ومرة أخرى على صعوبة التواصل اللغوي بينهم، لكن ستشهد الكاميرا أيضاً على عمق التعاطف، وعلى وحدة الدم الذي يجري في العروق، والأهم على الفخر أو ربما الارتياح، لأن صوتهم قد سُمع ولم يعد ممكناً إسكاته مرة أخرى بفضل السينما.
عُرض فيلم "تأتون من بعيد" في دول عديدة من بينها فلسطين وفرنسا وإسبانيا وتونس، وحصل على عدة جوائز من مهرجانات سينمائية دولية آخرها جائزة الفيبريسي (جمعية نقاد السينما الدوليين) من مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية، وجائزة اتحاد النقاد الأفارقة. كما عُرض ضمن فعاليات سينمائية متفرقة في القاهرة في سينما زاوية وجمعية نقاد السينما المصريين.

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.