}

الفيلم السوداني "ستموت في العشرين": تسييس التوحش والخرافة

أنور محمد 16 سبتمبر 2019
سينما الفيلم السوداني "ستموت في العشرين": تسييس التوحش والخرافة
الفيلم يعد محاكمة لكيفية تثبيت وتدعيم جذور الاستبداد والجهل
فاز الفيلم الأميركي "الجوكر" أو المهرِّج، للمخرج تود فيليبس، بجائزة (الأسد الذهبي) لأفضل فيلم في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي في دورته الـ76 التي انتهت منذ أيام بمدينة البندقية. فيما فاز الفيلم السوداني "ستموت في العشرين" للمخرج أمجد أبو العلاء بجائزة (أسد المستقبل). وهو أوَّل فيلم روائي طويل له بعد ستَّة أفلام قصيرة، عن قصة "النوم عند قدمي الجبل" لحمور زيادة. وكان الفيلم قد شارك في المسابقة الرسمية للمهرجان هذا العام، مع 21 فيلماً مثل: "Marriage Story" للنجمة سكارليت جوهانسون، وفيلم "The Laundromat" للنجمة ميريل ستريب، و"Ad Astra" للنجم براد بيت.

المخرج أمجد أبو العلاء بفوزه بهذه الجائزة العالمية وبجهود فردية كمثقِّف سوداني في بلد ما يزال يُحكم بالتنجيم وقراءة الكف والتخاطر والعرافة- العراف السياسي  الساذج وأحياناً الخبيث، ويرهن مستقبله على مثل هؤلاء الحكَّام، يدعو للتساؤل: لماذا يُحجر على العقل الجدلي السوداني فلا يُنتج ثقافة بمثل هذا الوعي الثوري، والسودان بلدٌ عربي شريكٌ لنا، فنصنعُ معاً سينما ومسرحاً وموسيقى وصورة وفلسفة عربية؟.

الفيلم كما ذكرنا مأخوذٌ عن قصة للروائي السوداني حمور زيادة يقيم فيها محكمة أخلاقية لفظاعة الجريمة التي يرتكبها المُنجِّمون والعرَّافون الذين يمارسون عدوانيتهم على حياة الناس.
ومن أجواء الحكاية التي حافظ المخرج أبو العلاء عليها في فيلمه نقرأ: "كلُّ الناس كانت تعلمُ أنَّ "مزمل النور" سيموت يوم يُكمِّل عامه العشرين. منذ شبَّ مزمل وهو يسمع هذه النبوءة. النسوة اللائي يَزُرْنَ أمَّه يربِّتن على رأسه في حنوُّ، ويهمسن: يا مسكين. تموت صبي. الدنيا خربانة. الصِبيَة الذين يخرجُ معهم لرعي الغنم يتقافزون أمامه ويخرجون ألسنتهم له، يهتفون: وِدْ الموت.. وِدْ الموت. التلاميذ الذين يعودون من المدرسة، أعلى القرية، ظهراً يمرُّون أمامَ بيته وينادون: الموت الموت يا مزمل.. بكره تموت يا مزمل! الكبار الجالسون أمام دكَّان عيسى فقيري يرمقونه حين يدخل لشراء حلوى، يغمغمون: دنيا ما فيها عمار. الله يرحمه. شيخ المسجد إذا رآه يتوضَّأ في باحة الجامع العتيق، يقول له: الله يصبِّر والديك يا مزمل. بِرْهُما ما استطعت. السيارات التي تمرُّ بقرب القرية يشير راكبوها إلى البيوت المتناثرة ويقولون: هذه قرية مزمل الذي سيموت يوم يكمِّل عامه العشرين". هذا السرد الذي يشخِّص مأساة مزمل، مأساة عقل شحنه الأيديولوجي بالخرافة، يكشفُ عن قوَّة التخلُّف والجهل الذي يُعمِّق الفجوة بين الإنسان وحريته، فتقتل فيه العزيمة الروحية ليعيش كمتوحِّش ولكن في قفص اللاءات الخرافية كي يبقى أسير السلطة السياسية.
فالولد مزمل النور- نلاحظ أنَّ كنيته من (النور) الذي سيشعل ضوءه المؤلِّف كما المُخرج، والذي يتندَّر ويتسلىَّ بحياته ناس القرية قبل الموت- سيموت عندما يبلغ العشرين من عمره وكأنَّ الموت لن يمرَّ عليهم باعتبارهم خارج حقل عمليات الحتمية، وعمليات النقد الاجتماعي والسياسي، فلا صراعات، ولا تناقضات، ولا هجاء مضحك وهزل مِنْ حياتهم التي يحكمها سيف الأوباش والحمقى والغوغاء، مِمَّنْ بيدهم مفاتيح الأرض والسماء. حمور زيادة في قصته يطرح الساذج والعاطفي والذي هو جَدِّيٌ- ولكن بحماسٍ لاذع، وهو ما تبنَّاه المخرج أمجد أبو العلاء. فسلطة هذا المُتديِّنُ الصوفي المُصيِّفُ المتوارعُ الذي يبشِّرُ مزمل بأنَّه سيموت حين يكمِّل عامه العشرين، أضحت في السودان كما في سائر البلاد العربية سلطةً واثقةً من نفسها في تثبيت وتدعيم جذور الاستبداد، وهي تسيِّس التوحش والخرافة فيصير الإنسان سواء في السودان أو في بلاد العرب والإسلام إنساناً (مُنتظراً) وليس إنساناً (فاعلاً). وأنا أقرأ الشق الأدبي للفيلم وليس الصورة السينمائية كوني لم أشاهده؛ وهو الجذر الحكائي لفيلم أمجد أبو العلاء الذي يوجِّه نقداً عنيفاً ضدَّ تعسُّف السلطة التي تستثمر جهلها وهي تشيِّئ الإنسان. إنَّها الحياة المأساوية التي يتمُّ توليدها من خلال ببغائية ناس القرية وهم يتفرجون على مزمل (ولد الموت) وكأنَّ لا خصومة لمزمل ولا لهؤلاء البشر مع الموت؛ الموت الذي يعيشونه في الحياة؛ الموت المتمثِّل في بقاء السلطة وبكل فروعها واختصاصاتها وهي تستديمُ التخلف والجهل والطاعة ما يمنع أيَّ تطور أو تجاوزٍ- وليس ثورة.


إنتاج معرفة زائفة للواقع
نحن حيال تسلط وعنف وانصياع، و(الشاطر) ذاك الذي يفلت من سيف الدعارة السياسية والدينية التي ما تفتأ تنتج المعرفة الزائفة للواقع. وأمجد أبو العلاء في خطابه السينمائي وهو يتبنىَّ رأي حمور زيادة، يقوم بعملية نقدٍ للعقل النقلي الحاكم الذي يستمدُّ قوَّته ومرجعيته من الجذور التراثية للتسلط. فتسكين الحياة بفتاوى أو رؤى أو نبوءات مَنْ يعتبرون أنفسهم من معادن الولاية والعلم بالغيب، ما هو إلاَّ تثبيتٌ للجهل ولتغييب الإنسان وسلبه فاعليته، فيبقى السلاطين بأجناسهم وأنواعهم ملائكة الأرض فيما قطيع الناس شيطانها.

أمجد أبو العلاء وهو يترك الولد مزمل النور يقرأ القرآن بـ(انتظار) الموت فلا يعيش أو يمارس حياته (فاعلاً)، هو ما حرَّضه واستفزَّه ليحقِّق فيلمه. ونلاحظ قوَّة وسطوة (آل التنجيم والعرافة والتخاطر) باعتبارهم "ملاَّكي"، حائزي أسرار العلوم الغيبية- علوم المستقبل- الذين يريدون تحويل الإنسان إلى سحلية. العم "سلمان" الفاهم لعبة هؤلاء الغوغاء يخترق هؤلاء (الآل) باقترابه من مزمل محاولاً إيقاظه من سباته؛ من نومه كونه يمثِّل (النور)، ليقرأ مزمل القرآن ولكن حتى يكون (فاعلاً) وليس (منتظراً). فالإنسان هو مركز وعي مزدوج؛ عقلاني وسحري، فلا يتحمَّم بماء المشعوذين والمصيفين- ثمَّة عقلٍ يشتبك ويتشابك مع الأمل. ونبوءة هذا العراف الخراف هي نبوءة كارثية لمزمل؛ بل لأمَّة. وهذه ليست سوريالية، هذه كارثة، مأساة.
إنَّ السينما السودانية وفي مثل هذا الفيلم- ليس لأنَّه احتاز جائزة عالمية-  تقوِّي صراعها مع هؤلاء (الآل) في نقد وتعرية هذا البؤس الاجتماعي لناس السودان. مزمل يتكيَّف مع الاستسلام للموت ولا يزاحم على الحياة أمام وقاحة وخراقة العراف المتنبي الذي لا يملك مفاتيح الحياة ولا الموت حتى على نفسه. مَنْ يُمدِّد لـ"مزمل النور" الحياة؟؟. مّنْ يؤخِّر الشعور باقتراب الزمن- زمن الموت؛ زمن العشرين، من يكسر هذا الحجر الأثري، هذا العراف الذي ينوِّمُنا فلا نفيق؟.
المخرج أمجد أبو العلاء ينقد هذه العقلية الوحشية والمتوحِّشة المتغوِّلة، يواجهها، يقيم معها صراعاً فكرياً وليس صراعاً طبقياً إقطاعياً، فالإنسان (الحيّْ) بداخله يصرخ أمام هذا العنف الغريزي الذي يمارسه المتصوِّف المصيِّف، هذا الذي يحكم على الحياة بالموت، هذا الذي عنفه، غرائزه تسوقنا إلى الموت الحتمي دون أن يشعر بالعار كَمُجرِم عقائِد. أمجد أبو العلاء يذهب إلى (الفعل) ليحقِّق صراعاً ثنائياً من نزالات ومبارزات فيزيائية وعاطفية وحتى جسدية مع هذا "المائت" ليكوِّن لدينا إحساساً عميقاً وقويَّاً بالوجود مع سينما سودانية جديدة؛ روائية كما هي ملحمية وتراجيدية حتى لا يستمرَّ المنجمون والسحرة يلعبون دور العَالِم، دور العِلمْ، وبهذا العُريّْ والشبقية.

*ناقد سوري

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.