}

الدائرة.. جامعة المتناقضات وسحر لا ينتهي

سارة عابدين 29 أغسطس 2019
تشكيل الدائرة.. جامعة المتناقضات وسحر لا ينتهي
العائلة المقدسة لمايكل أنجلو في غاليري ديغلي أوفيزي بفلورنسا(Getty)
سحرت الدائرة كشكل أساسي العقل البشري منذ الزمن القديم. واعتبرها العديد من علماء الرياضيات والفلاسفة الشكل الأكثر كمالاً بين جميع الأشكال الهندسية، وتعامل معه اللاهوتيون بأنه شكل إلهي خارق.
لم يختلف أمر الدائرة في الفن أيضا، إذ كانت عنصرا جماليا متعدد الدلالات، وظهرت دائما في اللوحات بشكلها المباشر أو مشتقاتها مثل الشمس والقمر والأجرام السماوية والمدارات النجمية ورحلة الكواكب حول الشمس.
الدائرة رمز عالمي يمثل مفاهيم القدسية والشمولية والكمال والحياة والزمن. يقول هرمس الهرامسة "الله هو دائرة مركزها في كل مكان ومحيطها ليس في أي مكان"، لذا نجد الدائرة كهالة حول المسيح والسيدة العذراء والرهبان في الرسوم المسيحية، ونجدها فوق رأس إله الشمس في الحضارة المصرية القديمة، وفي أسفل أكواب النبيذ في اليونان القديمة، وفي دائرة الين واليانغ لدى حضارات شرق آسيا التي تعني الاتحاد بين السماء والأرض، والطواف حول الكعبة أثناء الحج في الدين الإسلامي.
ربما جاءت أهمية الدائرة من كونها خطاً ليس له بداية أو نهاية، وهي من أقدم الرموز الهندسية بدون أي زوايا، أو بعدد لا متناه من الزوايا، يمكنها أن تحتضن كل المضلعات الأخرى ولذا تمثل وحدة الخالق وشموليته، ويعتبرها البعض رمزا واقيا من الشرور، يحمي الوقوف داخلها من تأثيرات السحر والشيطان.

نجد أيضا علاقة بين الدائرة وقوس قزح الذي يمثل دائرة غير مكتملة، كونه يلمس الأرض والسماء، أو كعرش للرب في مشاهد القيامة في كل من العهدين القديم والجديد. وفي الأسطورة القديمة الخاصة بالإلهة اليونانية إيريس نجد أنها نزلت إلى الأرض على قوس قزح، الذي يمثل التواصل السماوي الأرضي.
تعرف المصممون وفنانو الدعاية والإعلان على أهمية الدائرة في التصميم وبدأوا في استخدامها وأصبحت هي الشكل الأكثر شعبية في الدعاية والإعلان، حيث يتم تضمين أغلب الشعارات داخل أشكال دائرية أو بيضاوية؛ ذلك لأن الدائرة لا تشتت الرؤية، عكس الأشكال الأخرى، وتعمل كمركز بؤري يجذب العين باستمرار. ويمكن تجربة ذلك بشكل عملي عند النظر إلى مربع أو مستطيل، فتنجذب العين مباشرة إلى الجوانب الأربعة ما يعمل على تشتيت الرؤية عن ما داخل المربع، بينما الدائرة لا تسمح بذلك.


الدائرة في فنون عصر النهضة
نظرا لارتباط فنون عصر النهضة بالنصوص المقدسة، استعملت الدائرة بكثرة في لوحات عصر النهضة وخاصة اللوحات التي تحمل دلالات دينية. ومن أهم فناني النهضة الذين استخدموا الشكل الدائري بوتشيللي، ومايكل أنجلو، ورافائيل.
لوحة "العذراء والطفل والملائكة"، قطرها 118 سم، وتوجد حاليا بمتحف أوفيزي بفلورنسا، رسمها بوتشيللي عام 1481 بتقنية التمبرا على الخشب. تمثل اللوحة قطعة فنية إيقونية ليسوع في حضن أمه مريم العذراء، والملائكة يلبسونها التاج الملكي المكون من نجوم لا حصر لها، في إشارة إلى اسمها نجمة الصباح، وهو واحد من أسمائها في التراتيل المسيحية. ويقع المنظر بالكامل أمام نافذة تفتح على صباح ريفي مشرق وهادئ، بينما قرص الشمس يرسل أشعته الذهبية فوق رأس مريم.
اللوحة الثانية التي تمثل إحدى أهم لوحات عصر النهضة هي لوحة "العائلة المقدسة" لمايكل أنجلو. قطرها 120 سم، وتوجد حالياً بمتحف أوفيزي بفلورنسا أيضاً، ورسمت أيضا بتقنية التمبرا على الخشب.

بالرغم من أن اللوحة رسمت في الأساس بتكليف من تاجر إيطالي كهدية لزوجته بمناسبة عيد زواجهما، إلا إنها تعتبر من روائع الفن الإيطالي في القرن السادس عشر، وهي تجمع بين شخصيات مريم ويوسف والطفل عيسى في صدارة المشهد، حيث يعطي التفاف جسد مريم ديناميكية للتكوين في حركة تشبه الدوامة، سيستعملها العديد من الفنانين لاحقا.
تعرض اللوحة يوسف كحام للعائلة، ورئيس لها، حيث تجلس مريم والطفل بين ساقيه في لحظة حميمة من التقارب العائلي. وعلى عكس الشخصيات الموجودة في المقدمة، نجد الشخصيات الموجودة في خلفية اللوحة ضبابية أكثر، غير واضحة الحواف. وتمثل الشخصيات الخمس العارية في خلفية اللوحة العصور الوثنية ما قبل ظهور المسيحية، والحاجز المرسوم بين الشخصيات الأمامية والخلفية هو مؤشر آخر على وجود مسافة زمانية ومكانية بينهم.



فاسيلي كاندنسكي 
والصراعات بين الدوائر
يعتبر كاندنسكي واحدا من أوائل الفنانين الذين اشتغلوا على فكرة التجريد. كان له اهتمام كبير بالأشكال الهندسية والعلاقات بينها، خاصة الدائرة التي حاول التأكيد دائما من خلال لوحاته

وكتاباته على أهميتها وكونها شكلا هندسيا كونيا مقدسا.
في لوحته دوائر في دائرة، تحيط دائرة كبيرة سوداء بست وعشرين دائرة متقاطعة بأحجام وألوان مختلفة، تتقاطع مع العديد من الخطوط السوداء المستقيمة، مع تقاطع حزمتين ساطعتين من الضوء الأزرق والأصفر، تمران من الزوايا العليا باتجاه المركز، وتتغير ألوان الدوائر حين تتداخل مع الضوء. الدائرة السوداء الكبيرة داخل اللوحة تدفع المشاهد إلى التركيز على التفاعلات الداخلية بين الدوائر الصغيرة والتي تبدو في حركة مستمرة وصراعات لا تنتهي نتيجة ذلك التداخل الديناميكي الذي خلقه كاندنسكي داخل الدائرة الأم.


يايوي كوساما والدوائر المتنامية
للدوائر وجود طاغ في لوحات الفنانة اليابانية يايوي كوساما، إذ يبدو أن الفكرة الرئيسية وراء فنها هي التلاشي أو طمس الذات، أو أننا جميعاً مجرد بقعة صغيرة في الكون. يظهر ذلك المفهوم بقوة في لوحاتها، خاصة وأنها تشوش الخط الفاصل بين نفسها وبين فنها، فنجدها تصمم ملابسها بنفسها بما يتلاءم مع فنها، وعندما تجلس بداخل قاعة العرض أو بجوار العمل الفني تشكل معه كلاً متكاملاً.
تذكر كوساما أنها في سن العاشرة داهمتها رؤى متعددة مليئة بالزخارف والنقاط والزهور البنفسجية التي كانت تغطي كل شيء، وتقول "إنهم رؤيتي المتكررة. ما زلت أراهم يغطون القماش وينمون على الأرض والسقف والكراسي والطاولات، ثم تنتقل النقاط إلى جسمي وملابسي وروحي فيما يشبه الهاجس الذي لا يتوقف".



آنيش كابور ودوائر الوهم
يعتبر آنيش كابور واحدا من أكثر النحاتين المعاصرين أهمية. يستعمل المرايا المقعرة أو المحدبة والمعادن والفولاذ المصقول، لخلق دوائر نحتية تعتمد على الوهم البصري، ليوفر للمشاهد حقائق بديلة يتلاشى من خلالها الخط الفاصل بين الواقع وبين ما يدركه المشاهد.
دوائر زرقاء، دوائر عاكسة، دوائر مصمتة تشبه القمر، دوائر حمراء، كلها تدعو المشاهد للاقتراب أكثر وأكثر من تلك الهوة التي صنعها كابور بأحجام تقترب من حجم الإنسان، ليحاول تغيير كل ما نعرفه عن قوانين الفيزياء من خلال قلب العالم رأسا على عقب، أو من خلال خلق أهمية للفراغ المحيط بالدائرة أو الضوء الذي يتشتت على حواف أعماله الفنية التي تحمل مفهومه الشخصي عن الدائرة.


غابرييل أوروزكو والتفكير في دوائر
يرسم أوروزكو الدائرة كنقطة انطلاق لشبكة كاملة من الدوائر المتداخلة المرتبة ترتيبا منطقيا، لتتحول بعد ذلك إلى مجرات صغيرة من الدوائر التي تدور داخل اللوحة بشكل رياضي منتظم. تتخذ دوائر أوروزكو أشكالاً مختلفة لكنها أشكال هندسية متناسقة، تخلق وهماً بصرياً خادعاً لدى المتلقي ليستكشف احتمالات وتأويلات جديدة لكل لوحة مع كل مشاهدة جديدة، ليثبت من خلال فنه براعة الشكل الدائري وتجدده والتناقضات التي يحملها إنسانياً وثقافياً، إذ يمكن للدائرة أن تمثل الانفتاح والتواصل والاتساع، لكنها في الوقت نفسه يمكن أن تمثل الضيق والانغلاق والتكرار الذي لا ينتهي أبداً.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.