}

منيف عجاج: من "بيمارستان النوري" إلى "مارستان شفوكلير"

أسعد عرابي 21 أغسطس 2019
تشكيل منيف عجاج: من "بيمارستان النوري" إلى "مارستان شفوكلير"
خمس لوحات لمنيف عجاج بعنوان (الجنون من كل مكان)
منيف عجاج هامة إبداعية سورية سامقة تتجاوز حجم شهرته، خاصة في موئل النزوح فرنسا، ذلك أن تواضعه العبثي يعاف سطوة النجومية والأضواء الفاضحة، هي التي يعتمد صخبها متواضعو الموهبة وما أكثرهم في المؤسسات النقابية الجامعية في الداخل.
تقع أهمية التصاقه ببركانية "التعبيرية السورية" بالوصول بخصائصها السيزيفية ذروة الجنون. وذلك ابتداء من جنون موهبة لؤي كيالي وختاماً بأقنعة نزوح إبراهيم باغود في فيينا. يثير حفيظته التخيلية منذ أن كان منيف طالباً متيناً في أكاديمية موسكو، وحتى عند عودته إلى مدينة الطفولة دير الزور كان يسافر إلى المصحات العقلية في شمال حلب، يستلهم من رؤوسها وسلوكها الهمودي السيزيفي المعذب، ما يناظر ذعر مواطنيه من جلادي الأقبية والعسس، خاصة في دمشق، وخاصة بعد تمدد سرطان الحرب الانتحارية وفظائعها. استمر هاجسه بعد استقراره في فرنسا منذ عام 2010 فاستبدل بيمارستان النوري الدمشقي (العريق منذ العصر المملوكي الأيوبي)، الذي تحول إلى مدرسة ثم متحف واستمر عند زيارته يتخيل زواره المرضى من المجانين المُغللين بالأصفاد والحديد بدلاً من معالجتهم، مسترجعاً شخصيات مجنونة شعبية تفتحت على نجومها الخمسة دهشته الطفولية الأولى في دير الزور مثلهم مثل شخصية عصفوري يا عصفور في دمشق، ومن هنا جاءت صفة العصفورية أي المرستان، وكيف كانوا يعانون من أذى العامة وعنصريتهم. برأيه أن سنوات الحرب قلبت المواطن عموماً إلى رعب هذه الهيئة الإحباطية الهذيانية الهستيريائية العصابية الهمودية التوحيدية
الشوزيفرينية (المزدوجة الشخصية). وما أن حلت معارضه في بلد النزوح فرنسا حتى اتجه مباشرة لتصوير أشهر مشافيها العقلية مارستان شفوكلير القريب من مدينة بوردو بإذن رسمي ودوسيه متفوقة في الرسم. ثم الاستلهام من صمتها المريب: السكون الخطر الذي يسبق العاصفة، والهيجانات والنوبات الدورية، حيث يعزل المرضى الخطرون. اعتاد فناننا على معاقرة هؤلاء المعتوهين ومحبتهم إنسانياً ومعانقتهم بسبب حاجتهم الشرهة للحنان والترفق، يضمهم إلى قلبه ويتلمس رفيف حشرجات أبدانهم بنوع من اللوعة الحميمية التي لا تخلو من الحنين إلى نظائرهم في سورية: الشارع والمصح، القصف والذبح وفظائع التعذيب حتى الموت الذي خطف أقرب الناس إليه، من أفراد عائلته إلى مقربيه من الفنانين. فالطاعون المسلح لا يفرق جلادوه بين من سيعدمون بسرعة السيف والمقصلة أم بسادية وتمهل التحقيق والنزيف حتى الموت.
إن إمعانه في تصوير المجانين أينما كانت مصحاتهم (للأمراض العقلية) تحمل الكثير من الحنين إلى ذاكرة وجوه الحرب المجنونة في بلده.


الجنون الإبداعي
والجنون التدميري
أطلعني منذ أيام على عشرات من لوحات هذه التجربة المثيرة الطازجة المنجزة في مصح شفوكلير، أغلبها مصورة بسخاء مصادفات الألوان المائية على الورق الشره، بسلوك اختزالي عاصف، يعتمد على هول الصدمة – المصادفة، إذ أن لكل فنان مصادفاته الخاصة، لأنها تفيض عن الخصائص العضوية في القلب والروحية والحدس (مثل ثنائية السكر والصحو لدى المتصوفة)، أو الفن البكر (الرديف للبريء والساذج البدائي والسحري وغير المثقف والعصابي

والهمودي أو المعاق أو المتخلف عقلياً... إلخ).
وجوه منيف (خاصة أقنعته الجنونية الراهنة) تقع مثل المواطن داخل الخارطة المتدافعة والزرائب الشامية بين الموت والحياة. حالة برزخية اكتشفها القاص العبقري زكريا تامر في مدن قبوره حيث يتداخل الأحياء بالأموات. يبدو إذاً أن هذه البرزخية الوجودية القيامية تمثل صفة وتجربة عامة للإبداع المحلي الذي تناسل من تعبيريته منيف عجاج وعمران يونس وياسر الصافي ومحمد عمران وقبلهم نذير إسماعيل ومروان، أما رأسهم فهو المعلم فاتح المدرس، الذي نحا في جنونه منحى النفاذ من أبدية الأوابد الباقية أو الآبدة من إرم ذات العماد وآرام وكنعان وماري وأوغاريت: عالم ميثولوجي مكفن بعذابات طفلتيه المعاقتين المتوفيتين. يحضرني ذهان أحد الفنانين من جيل الذين درسوا في القاهرة، ثم اختفي توحده الهذياني وغار ذكره في صمت أو حداد مديد لا أدري؟ هو أدهم قوطرش الذي لم يُستثمر ميراث موهبته بعد، فهو عصي على فهم حتى مجايليه. كما أستحضر أبرز عباقرة التصوير في المغرب العربي عباس سلادي، اكتشفته عندما كنت مدرساً لعلم الجمال في بوزار كازابلانكا، وتحولت نجاحاته لفترة إلى مودة استهلاكية ثم غرق في تشاؤمية توحدية، وتضاعفت انتكاساته حتى قضى نحبه، واختفى بدوره ذكره بعكس التونسي أحمد الحجري الذي لاقت كوابيسه العائلية نجاحاً في باريس وكان اكتشفه جان دوبوفي، الفنان الذي انحاز إلى عصيان العقل والتعلم. هو الذي يستحق التوقف في هذا المقام، فقد أسس عام ١٩٥٠م في وداع الحرب العالمية الثانية تياراً مفصلياً في مفاهيم الحداثة وهو "الفن البكر" لم يتعلم في حياته الرسم والتلوين فهو عصامي أغلق دكان بيع الخمور ليتحول إلى العيش من لوحته ومجموعته التي اجتمعت على أساس عدائها للثقافة الفنية النخبوية، لأن

الأهم بالنسبة إليه هو غور وتفجر التجربة العمودية، عانقت مجموعته دراجة مزينة بألوان مدهشة وقع صاحبها في عشق فتاة، وجسدها في هذه الدراجة حتى بات من لوعة وحرقة عشقه. لا تقدر اليوم هذه الدراجة المجنونة بثمن. والدراجة استعادة جنونية لأسطورة النحات اليوناني بيجماليون الذي نحت تمثالاً لفتاة فأحبها وظل متلوعاً حتى دبت فيها الحياة بفضل الإلهة أفروديت.
هو ليس المثل اليتيم في الثقافة الأوروبية الذي يقود قدر الإبداع لدى الفنان إلى الجنون، أبلغ أمثلتها فانسانت فان جوخ الذي قطع أذنه في إحدى النوبات. ووضع ذات مرة يده على لهيب شمعة ليثبت لحبيبته مدى تعلقه بها حتى ثقبت راحته. تكشف لوحاته الأخيرة هذا الكابوس الاضطهادي أو الكابوسي خاصة في مجموعة لوحات حقول سنابل القمح التي تهاجم فيها أسراب الغربان الجمهور وتفقأ عيني فان جوخ.
يكاد يكون شومان من أشهر العباقرة الموسيقيين الألمان بعد بيتهوفن وموزار، كان متعلقاً بزوجته كلارا أهم عازفة بيانو أنثى في التاريخ، وبما أنه كان منشغلاً عنها بموسيقاه فقد استغل يوهان برامز الفرصة، وأغراها بهجر زوجها والعيش معه والاستفادة بالتالي من عبقرية عزفها على البيانو. هي الفترة الوحيدة التي استقر فيها شومان مدرساً أولاً في الكونسرفاتوار، مع اكتئابه الحاد على كلارا وذهانيته وتبلبل حاله، أصبح موضع سخرية من تلامذته، إلى أن هجر المدينة ذات مرة في نوبة هستيريا ومات على الطريق.
يؤكد المثل الشعبي العلاقة الوشيجة التوأمية بين "الجنون فنون" بمعنى أن أنواع الجنون تعددية ولا يجب خلط الجنون الإبداعي الذكي والمعطاء مع الجنون الفندلي (أي المعادي للفنون) والمستقى اصطلاحه من هجمات قبائل الفاندال الألمانية على بدائع الزجاج المعشق وتدميره، أما قلب المثل "الفنون جنون" فهو ضرب من معاداة الفنون.
لا يتعدى جنون منيف عجاج الشهادة الصادقة والتي لا تخلو من الذاكرة المجازية عن مأساة بلده، وحتى لو وصل إليه شيء من هذا الشطح فسيكون ضميرياً، ملتزماً بأخلاق من يعترض على قتل الأطفال والمدن والمكتبات ومواقع نور المعرفة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.